الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

إنَّ اللهَ -تباركَ وتعالى- يقولُ: «مَن عَلِمَ منكم أني ذُو قُدرةٍ على مغفرةِ الذنوبِ، غفرتُ له ولا أُبالي ما لم يُشرِكْ بي شيئًا».


رواه الحاكم برقم: (7676)، والطبراني في الكبير برقم: (11615)، والبيهقي في الأسماء والصفات برقم: (247)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (4330).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عَلِمَ»:
العين واللام والميم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على أثَرٍ بالشيء يتميَّزُ به عن غيره. مقاييس اللغة، لابن فارس (4/ 109 ).
وقال الفيومي-رحمه الله-:
العلم: اليقين، يقال: عَلِمَ يعلم إذا تيقَّن، وجاء بمعنى المعرفة أيضًا. المصباح المنير، للفيومي (2/ 427).

«قُدْرَة»:
القاف والدال والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على مَبْلَغ الشَّيء وكُنهه ونهايته، فالقَدْرُ: مبلغُ كلِّ شيء. مقاييس اللغة، لابن فارس (5/ 62 ).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
والقادر: هو من القُدرة على الشيء، يُقال: قَدَر يقدر قُدرةً، فهو قادر وقدير، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا} الأحزاب: 27. شأن الدعاء(1/ 85-86).

«غفرتُ»:
الغين والفاء والراء:... بابه الستر. مقاييس اللغة، لابن فاس (4/ 385 ).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أصل الغَفْر: التغطية، يقال: غَفَرَ الله لك غَفرًا وغُفرانًا ومغفِرة، والمغفرة: إلباس اللهِ تعالى العفوَ للمذنبين. النهاية، لابن الأثير (3/ 373).


شرح الحديث


قوله: «مَن علِمَ منكم أني ذُو قُدرة على مغفرةِ الذنوب»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «مَن عَلِمَ أني ذو قُدرة» أي: أَذْعَنَ وتحلَّى قلبُه بأني ذو قدرة. مرعاة المفاتيح (8/ 37).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
إن قلتَ: المغفرة ترك العقوبة وستر الذنب، والقُدرة على الترك ليس لها شأن القُدرة على الفعل فالعلم بها واضح.
قلتُ: المراد مَن عَلِمَ أن الله تعالى غفور رحيم، عفو كريم، عَلِمَ أنه يغفر الذنوب، وأن عفوه عن قدرة؛ إذ لا مدح إلا بعفو عن قدرة كما قيل:
كل عفو أتى بغير اقتدارٍ *** حُجَّة لاجئٌ إليها اللئامُ.
فالإيمان بالقدرة على ترك العقوبة إيمان بالقدرة عليها، لكنه سلك في الحديث الطريق البرهاني. التنوير شرح الجامع الصغير (8/22).
وقال المظهري -رحمه الله-:
هذا الحديث يشير إلى أن اعتراف العبد بكون الله تعالى قادرًا على مغفرة الذنوب سبب لغفران الذنوب، وهذا نظير قوله: «أنا عند ظن عبدي بي». المفاتيح (3/ 184 ).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«من عَلِمَ أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب» فيه: أن الاعتراف بذلك سبب للغفران، وهو نظير «أنا عند ظن عبدي بي»، وقد عيَّر الله قومًا فقال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} فصلت: 23، {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} الفتح: 12. فيض القدير (4/ 492 ).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
ورد ما يدل على أنَّ العبد إذا أذنب فعَلِمَ أنَّ الله تعالى إن شاء أن يعذبه عذبه، وإن شاء أن يغفر له غفر له على ذلك بمجرده موجبًا للمغفرة من الله -سبحانه وتعالى-؛ تفضلًا منه ورحمةً. تحفة الذاكرين (ص: 387).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وذلك لأن من اعترف بذلك ارتجاه، ومن ارتجى الكريم لم يحرمه، مع أنَّ في ذِكر القدرة وعدم المبالاة إيماء إلى جواز التعذيب أيضًا، ففيه خوف منه تعالى، ومن خاف القادر رَحِمَهُ. لمعات التنقيح (5/ 158 ).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قالوا: وهذا أرجى حديث في السنة، ولا يُغتر به؛ فإنه تعالى كما أنه عظيم الثواب شديد العقاب، فعقابه عظيم كما أن عفوه واسع جسيم، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. فيض القدير (4/ 492).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وكيف لا يرجو المؤمن رحمة الله ومغفرته وهو مُوقن بقدرته سبحانه وتعالى على كل شيء؟! فتح القريب المجيب (13/ 301-302 ).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أن صدق رجاء المؤمن لفضل الله -عز وجل- وجوده يوجِب حُسن الظَّن به، وليس حُسن الظن به ما يعتقده الجهال من الرجاء مع الإصرار على المعاصي، وإنما مَثَلُهم في ذلك كمَثَل مَن رجا حصادًا وما زرع، أو ولدًا وما نكح، وإنما العارف بالله -عز وجل- يتوب ويرجو القبول، ويطيع ويرجو الثواب. كشف المشكل (3/ 323 ).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
إن قوله: «مَن عَلِمَ إني ذو قدرة على مغفرة الذنوب» تعريض بالوعيدية، وبمن قال: إن الله تعالى لا يغفر الذنوب بغير توبة. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1846 ).
وقال الصنعاني -رحمه الله- متعقبًا:
قلتُ: بناء على جواز الخطاب لمن لم يوجد، والتعريض به، وهي مسألة كلامية مستوفاة في محلها. التنوير (8/ 22 ).

قوله: «غفرتُ له ولا أُبالي»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
«غَفَرْتُ» أي: سترتُ. المعين على تفهم الأربعين (ص: 441 ).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
(«ولا أبالي») كأنه من البال، فإذا قال القائل: لا أُبالي، كأنه قال: لا يشتغل بالي بهذا الأمر، أو شبيه بذلك...؛ وذلك أن الله -عزّ وجلّ- كريم، والاستغفار استقالة، والكريم يُقِيْلُ العَثْرَة ويغفر الزلة. فتح القريب المجيب (7/ 548-549 ).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا أبالي» أي: لا يعظمُ عليَّ مغفرتُك، وإن كانت ذنوبك كثيرةً. شرح المصابيح (3/ 143).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
أي: لا أكترث بذنوبك ولا أستكثرها وإن كثرت؛ إذ لا يتعاظمه تعالى شيء. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 627 ).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره، فذنوب العباد وإنْ عظُمَت فإنَّ عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرةٌ في جنب عفوِ الله ومغفرته. جامع العلوم والحكم (ص: 835 ).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
أي: بذنوبك، وكأنه من البال؛ لأنه تعالى لا حجة عليه فيما يتفضل به، ولا معقب لحكمه، ولا مانع لعطائه، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة. المعين على تفهم الأربعين (ص: 441 ).
وقال العيني -رحمه الله-:
يعني: الذَّنب الذي بينه وبين الله تعالى، وأمَّا ما ‌بينه ‌وبين ‌العباد فلا يُغفر إلا بإرضاء الخصم. عمدة القاري(23/٤٤)
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وهذا في الذنوب التي بين العبد وربِّه لا في التي بينه وبين العباد. التنوير(8/ 18).

قوله:«ما لم يُشرِكْ بي شيئًا»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «ما لم يشرك بي شيئًا» لأن الشرك لا يُغفر إلا بالإيمان والتوبة. مرعاة المفاتيح (8/ 38).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ما لم يُشرِكْ بي شيئًا» الحديث مُشتق من الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، فإطلاق صدره مقيَّد بالآية أعني بالمشيئة. التنوير (8/ 23).
وقال سليمان بن عبد الله -رحمه الله-:
شرطٌ ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا مَن سلَّمه الله؛ وذلك هو القلب السليم. تيسير العزيز الحميد (ص: 72).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله -عز وجل- حرّم الجنة على أهله، فلا ‌تدخل ‌الجنة ‌نفسٌ ‌مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد؛ فإن التوحيد هو مفتاح بابها، فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به. الوابل الصيب (ص: 19).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وأما تقييده بقوله: «ما لم يُشْرِك بي شيئًا» فهو لحكمة اقتضته والله أعلم بها، وإلا فلا مانع من جهة العقل وكمال الفضل، ولعلها اقتضاء الأسماء الجلالية والصفات الجبروتية من القهار والمنتقم وشديد العقاب وأمثالها، فلا بد لها من المظاهر لآثار السخط والغضب، كما أن للأسماء الجمالية والنعوت الرحموتية مظاهر، وللغفَّارية والغفورية مظاهر ممن يذنب ويستغفر فيغفر، ولحصول الفصل بين الفضل والعدل...، روي أن حماد بن سلمة عاد سفيان الثوري فقال له سفيان: أترى الله يغفر لمثلي؟ فقال حماد: لو خُيِّرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبويَّ لاخترت محاسبة الله على محاسبة أبوي؛ لأن الله أَرحم بي من أبوي. اهـ. مرقاة المفاتيح(4/ 1621).


ابلاغ عن خطا