الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«مَن حلفَ بِملَّةٍ غيرِ الإسلامِ كاذبًا فهو كما قال، ومَن قتلَ نفسَهُ بشيءٍ عُذِّبَ به في نارِ جهنَّمَ، ولعنُ المؤمنِ كقتلِهِ، ومَن رمى مؤمنًا بكفْرٍ فهو كقتلِهِ».


رواه البخاري برقم: (6105) واللفظ له، ومسلم بعضه برقم: (110)، من حديث ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه-.
وفي لفظ للبخاري برقم: (1363) ومسلم برقم: (110): «مَن حَلف بمِلَّةٍ غير الإسلام كاذبًا متعمدًا» .


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«بملَّة»:
الملة: الدِّين، كملِّة الإسلام، والنَّصرانية، واليهوديَّة. النهاية، لابن الأثير (4/ 360).

«لعن»:
اللعن: الإبعاد والطَّرْدُ من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخَلْق: السَّبُّ والدعاء، واللعنة الاسم، والجمع: لِعَانٌ ولَعَنَاتٌ، ولَعَنَهُ يَلْعَنُهُ ‌لَعْنًا: ‌طَرَدَهُ ‌وأَبْعَدَهُ. لسان العرب، لابن منظور (13/ 387).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
اللعن: ‌الإبعاد ‌عن ‌الرَحمة. الصارم المسلول (ص: 41).


شرح الحديث


قوله: «من حلف»:
قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
الحلف بالشيء حقيقةً هو القَسم به، وإدخال بعض حروف القَسم عليه، كقوله: واللهِ، والرحمنِ، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كما يقول الفقهاء: إذا حلف بالطَّلاق على كذا، ومرادهم تعليق الطَّلاق به، وهذا مجاز، وكأن سببه مشابهة هذا التَّعليق باليمين في اقتضاء الحنث أو المنع.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله -عليه السلام-: «من حلف على يمين بملَّة غير الإسلام» يحتمل: أن يُراد به المعنى الأَوَّل، ويحتمل: أن يُراد به المعنى الثاني، والأقرب أن المراد الثاني؛ لأجل قوله: «كاذبًا متعمدًا» والكذب يدخل القضية الإخْبَارية التي يقع مقتضاها تارة، وتارة لا يقع، وأما قولنا: والله، وما أشبهه فليس الإخْبَار بها أمر خارجي، وهي للإنشاء -أعني: إنشاء القَسم- فتكون صورة هذا اليمين على وجهين:
أحدهما: أن يتعلَّق بالمستقبل كقوله: إن فعلت كذا فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ.
والثاني: أن يتعلَّق بالماضي مثل أن يقول: إن كنت فعلت كذا فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ.
فأما الأَوَّل -وهو ما يتعلَّق بالمستقبل- فلا تتعلَّق به الكفَّارة عند المالكية والشافعية، وأما عند الحنفية ففيها الكفَّارة، وقد يتعلَّق الأَوَّلون بهذا الحديث، فإنه لم يذكر كفَّارة، وجعل المرتب على ذلك قوله: «هو كما قال».
وأما إن تعلَّق بالماضي فقد اختلف الحنفية فيه، فقيل: إنه لا يُكفِّر اعتبارًا بالمستقبل، وقيل: يُكفِّر؛ لأنه تنجيز معنى، فصار كما إذا قال: هو يهوديٌّ، قال بعضهم: والصحيح أنه لا يكفِّر فيهما إن كان يعلم أنه يمين، وإن كان عنده أنه يكفِّر بالحلف يكفِّر فيهما؛ لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل. إحكام الأحكام (458-459).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
فقوله: «بملَّة غير الإسلام» يحتمل: الإنشاء؛ كقوله: واليهودية، والنَّصرانية، ويحتمل: التَّعليق، كقوله: إن فعلت كذا، فأنا يهوديٌّ أو نصرانيٌّ، وهو الظاهر؛ لقوله: «كاذبًا متعمدًا»؛ إذ الكذب يدخل تحته القضية الإخبارية التي قد يقع مقتضاها، وقد لا يقع.
وأما الإنشائية؛ كقوله: والله، وما أشبهه، فلا يتعلَّق بها كذب سوى تعظيم اليهودية أو النصرانية مثلًا بإنشاء الحلف بهما. العدة في شرح العمدة (3/ 1527).

قوله: «بملَّة غير الإسلام كاذبًا»:
قال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «بملَّة» بكسر الميم وتشديد اللام الدِّين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشَّرط، فتعمه جميع الملل كاليهودية والنصرانية والدهرية ونحوها. تحفة الأحوذي (5/123).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «بملَّة¬» الملَّة: الدِّين كمِلَّة الإسلام واليهودية والنصرانية، وقيل: هي معظم الدِّين، وجملة ما يجيء به الرسل. عمدة القاري (8/190).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «كاذبًا» حال من الضمير الذي في «حلف» أي: حال كونه كاذبًا في تعظيم تلك الملَّة التي حلف بها، فيكون هذا الحال من الأحوال اللازمة كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} البقرة: 91؛ لأن مَن عظَّم غير ملَّة الإسلام كان كاذبًا في تعظيم ذلك دائمًا في كل حال، وفي كل وقت، ولا ينتقل عنه، ولا يصلح أن يقال: إنه يعني بكونه كاذبًا في المحلوف عليه؛ لأنه يستوي في حقِّه كونه صادقًا أو كاذبًا إذا حلف بملَّة غير الإسلام؛ لأنه إنما ذمَّه الشرع من حيث إنه حلف بتلك الملَّة الباطلة معظمًا لها على نحو ما يعظم به ملَّة الإسلام الحق، ولا فرق بين أن يكون صادقًا أو كاذبًا في المحلوف عليه. عمدة القاري (8/190).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كاذبًا» ليس المراد به التقييد والاحتراز من الحلف بها صادقًا؛ لأنه لا ينفكُّ الحالف بها عن كونه كاذبًا؛ وذلك لأنه لا بُدَّ أن يكون مُعظِّمًا لِمَا حلف به، فإن كان معتقدًا عظمته بقلبه فهو كاذب في ذلك، وإن كان غير معتقد ذلك بقلبه فهو كاذب في الصورة؛ لكونه عظَّمه بالحلف به، وإذا علم أنه لا ينفكُّ عن كونه كاذبًا حمل التقييد بـ«كاذبًا» على أنه بيان لصورة الحالف، ويكون التقييد خرج على سبب، فلا يكون له مفهوم، ويكون من باب قول الله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} آل عمران: 112، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الأنعام: 151، وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} النساء: 23، وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} البقرة: 229، وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} النساء: 101، وقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} النور: 33، ونظائره كثيرة.
ثم إن كان الحالف به معظِّمًا لِمَا حلف به مُجِلًّا له كان كافرًا، وإن لم يكن معظِّمًا بل كان قلبه مطمئنًا بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به، ومعاملته إياه معاملة ما يحلف به، ولا يكون كافرًا خارجًا عن ملَّة الإسلام، ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر، ويراد به كفر الإحسان، وكفر نعمة الله تعالى، فإنها تقتضي أن لا يحلف هذا الحلف القبيح.
وقد قال الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك -رضي الله عنه- فيما ورد من مثل هذا مما ظاهره تكفير أصحاب المعاصي: إن ذلك على جهة التَّغليظ والزَّجر عنه، وهذا معنى مليح، ولكن ينبغي أن يضمَّ إليه ما ذكرناه من كونه كافر النِّعم. شرح صحيح مسلم (2/126).
وقال النووي -رحمه الله-:
إذا قال: إنْ فعلتُ كذا، فأنا يهودي، أو نصراني، أو بريء من الله تعالى، أو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو من الإسلام، أو من الكعبة، أو مستحِلُّ الخمر أو الميتة، لم يكن يمينًا، ولا كفارة في الحنث به، ثم إن قصد بذلك تبعيد نفسه عنه لم يكْفُرْ، وإن قصد به الرِّضا بذلك، وما في معناه إذا فعله، فهو كافر في الحال.
قلتُ: قال الأصحاب: وإذا لم يَكْفُرْ في الصورة الأولى، فليقل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويستغفر الله. روضة الطالبين (11/ 7).

قوله: «فهو كما قال»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فهو» أي: ذلك الحالف بملَّة غير الإسلام. الكوكب الوهاج(3/157).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فهو» عند الله «كما قال» لأنه يُعطى ما اختاره لنفسه. التنوير شرح الجامع الصغير (9/250).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «فهو كما قال» يعني فهو كاذب لا كافر، إلا أنه تعمَّد بالكذب الذي حلف عليه التزام الملَّة التي حلف بها قال -عليه السلام-: «فهو كما قال» من التزام اليهودية والنصرانية وعيدًا منه -عليه السلام- لمن صحَّ قصده بكذبه إلى التزام تلك الملَّة في حين كذبه في وقت ثانٍ، إذ كان ذلك على سبيل المكر والخديعة للمحلوف له، يبيِّن ذلك قوله -عليه السلام-: «لا يزني حين يزني وهو مؤمن»، فلم ينفِ عنه الإيمان إلا وقت الزنا خاصة، وكذلك هذا الحالف بملَّة غير الإسلام؛ لقيام الدليل على أنه لم يُرِدْ نبذ الإسلام بتعليقه يمينه بشرط المحلوف عليه، ولو أراد الارتداد لم يعلِّقْ قوله: أنا يهودي لمحلوف عليه من معاني الدُّنيا؛ ولذلك قال -عليه السلام-: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله»؛ خشية منه عليه استدامة حاله على ما قال وقتئذٍ، فينفذ عليه الوعيد فيحبط عمله، ويطبع على قلبه لِمَا قال من كلمة الكفر بعد الإيمان، فتكون كلمةً وافقت قَدَرًا فيزيِّن له سوء عمله فيراه حسنًا، فيستديم ما قال، ويُصِرُّ عليه.
وأما من حلف بملَّة غير الإسلام وهو فيما حلف عليه صادق فهو تصحيح براءته من تلك الملة، مثل أن يقول: أنا يهوديٌّ إن طعمت اليوم أو شربت، وهو صادق لم يشرب ولم يأكل، فلما عقد يمينه بشرط هو في الحقيقة معدوم ما ربطه به وهو الأكل والشرب اللذان لم يقعا منه؛ لم يتعيّن عليه وعيد يخشى إنفاذه عليه، ولم يتوجَّه إليه إثم الملَّة التي حلف عليها لعقده نيته على نفيها كنفي شرطها، لكن لا يبرأ من الملامة لمخالفته لقوله -عليه السلام-: «من كان حالفًا فليحلف بالله». شرح صحيح البخاري (9/289-290).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ولا يصلح أن يقال: إنه يعني بكونه كاذبًا في المحلوف عليه؛ لأنه يستوي في ذمِّه كونه صادقًا أو كاذبًا إذا حلف بملة غير الإسلام؛ لأنه إنما ذمَّه الشرع من حيث إنه حلف بتلك الملَّة الباطلة، مُعظِّمًا لها على نحو ما تُعظَّم به مِلَّة الإسلام الحقِّ؛ فلا فرق بين أن يكون صادقًا أو كاذبًا في المحلوف عليه، والله تعالى أعلم. المفهم (1/312).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال ابن القصار: وبقوله -عليه السلام-: «فهو كما قال» ومعناه: النهي عن مواقعة ذلك اللفظ والتَّحذير منه، لا أنه يكون كافرًا بالله بقول ذلك.
قال ابن القصار: وإنما أراد التَّغليظ في هذه الأيمان حتى لا يجترئ عليها أحد، وكذلك قال ابن عباس وأبو هريرة والمسور، ثم تلاهم التابعون؛ فلم يوجبوا على من أقدم عليها الكفَّارة. شرح صحيح البخاري (6/105-106).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وهو حديث صحيح من جهة النَّقل، ولكنه ليس على ظاهره. ومعناه -والله أعلم-: النَّهي من موافقة ذلك اللفظ. الاستذكار (15/73).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال بعض الشافعية: ‌ظاهر ‌الحديث ‌أَنه ‌يُحكم ‌عليه ‌بالكُفر ‌إِذا ‌كان ‌كاذبًا.
والتحقيق التفصيل: فإن اعتقد تعظيم ما ذُكر كَفر، وإن قَصد حقيقة التَّعليق فيُنظر فإن كان أراد أن يكون متصفًا بذلك كَفر؛ لأن إرادة الكُفر كُفر، وإن أَراد البُعد عن ذلك لم يَكفر، لكن هل يَحرم عليه ذلك أو يُكره تنزيها؟ الثاني هو المشهور.فتح الباري(11/٥٣٩)
وقال البيضاوي -رحمه الله-: ‌
ولعل ‌المراد ‌به ‌التهديد، والمبالغة في الوعيد، لا الحُكم بأنه صار يهوديًا، أو بريئًا عن الإسلام، فكأنه قال: فهو مستحق لمثل عذاب ما قال. ونظيره قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من ترك صلاة فقد كفر» أي: استوجب عقوبة من كَفَر.تحفة الأبرار، شرح مصابيح السنة(2/٤٣٨).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن المنذر: قوله: «فهو كما قال» ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكُفر، بل المراد أَنه كاذب ككذب المعظم لتلك الجهة. فتح الباري (11/539).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
واختلفوا في الرجل يقول: هو يهوديٌّ، هو نصرانيٌّ، هو مجوسيٌّ إن فعل كذا.
فقالت طائفة: يستغفر الله، ولا كفارة عليه، كذا قال مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور.
وفيه قول ثانٍ: وهو أن عليه كفارة يمين، هكذا قال طاوس والحسن، والشعبي والنخعي، والثوري والأوزاعي، وأصحاب الرأي، وهو قول أحمد، وإسحاق إذا أراد اليمين في قوله: أشرك بالله، أو أكفر بالله، ثم يحنث.
قال أبو بكر (يعني ابن المنذر: نفسه): بالقول الأَوَّل أقول. الإشراف على مذاهب العلماء (7/119).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
اختلفت الرواية عن أحمد في الحلف بالخروج من الإسلام...، فعن أحمد: عليه الكفارة إذا حنث...
والرواية الثانية: لا كفارة عليه....
والرواية الثانية أصحُّ، إن شاء الله تعالى، فإن الوجوب من الشارع، ولم يَرِدْ في هذه اليمين نصٌّ، ولا هي في قياس المنصوص، فإن الكفارة إنما وجبت في الحلف باسم الله تعظيمًا لاسمه، وإظهارًا لشرفه وعظمته، ولا تتحقق التَّسوية. المغني (9/ 507).
وقال العيني -رحمه الله-:
احتج بالحديث المذكور أبو حنيفة وأصحابه على أنَّ الحالف باليمين المذكور ينعقد يمينه، وعليه الكَفارة؛ لأن الله تعالى أوجب على المظاهر الكفارة، وهو منكر من القول وزور، والحلف بهذه الأشياء مُنكر وزور. عمدة القاري (8/190).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ويستحبُّ له أن يفعل من الخير ما يُكفِّر سيئته بقول ذلك، ويدلُّ عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله»، فلم يجعل عليه كفارة، وأمره بمقابلة ذلك القول السيئ وإتباعه بالقول الحسن، فـ{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114. المعلم (1/ 389).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال (أي: ابن القصار): وأما قولهم: إذا قال: أنا يهوديٌّ، فقد عظَّم الإسلام، وأراد الامتناع من الفعل.
فالجواب: أنهم يقولون: لو قال: وحقِّ القرآن، وحقِّ المصحف، ثم حنث أنه لا كفارة عليه، وفي هذا من التَّعظيم لله وللإسلام ما ليس لِمَا ذكروه، فسقط قولهم، وأيضًا فإنه إذا قال: هو يهوديٌّ، أو كفر بالله، فليس من طريق التَّعظيم، وإنما هو من الجُرْأَة والإقدام على المحرمات، كالغَمُوس وسائر الكبائر، وهي أعظم من أن يكون فيها كفارة. شرح صحيح البخاري (6/106).
قوله: «ومن قتل نفسه بشيء عُذِّب به في نار جهنم»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ومن قتل نفسه» في الدنيا. الكوكب الوهاج(3/158).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«بشيء» أي: من آلة القتل. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (10/552).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«بشيء» من المزهقات سواء كان آلة أم لا. الكوكب الوهاج (3/158).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قوله: «مَن قتل نفسه» و«مَن لعن مؤمنًا» و«قذف مؤمنًا» عامٌّ مخصوص بغير المكلَّف. الأزهار شرح مصابيح السنة مخوط لوح (320).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«عُذِّب به» أي: بذلك الشيء يوم القيامة «في نار جهنم». الكوكب الوهاج (3/158).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«عُذِّب به» أي: عوقب بمثله، أو به حقيقة. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (10/552).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «عُذِّب به في نار جهنم» هو على الوعيد، والله تعالى فيه بالخيار. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/269).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله -عليه السلام-: «عُذِّب به يوم القيامة» هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية.
ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست مِلكًا له، وإنما هي مِلك لله تعالى، فلا يتصرف فيها إلا أذن له فيه. إحكام الأحكام (459).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ومن قتل نفسه بشيء عُذِّب به» لفظ مسلم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده؛ يتوجَّأُ بها في بطنه في نار جهنم» ومعنى «يَتَوَجَّأ»: يطعن، وهو مهموز آخره، من: وجأته بالسِّكين، إذا ضربته «يوم القيامة»، ولمسلم: «خالدًا مخلدًا أبدًا»، وظاهره التَّخليد الذي لا انقطاع له بوجه، وهو محمول على من كان مستحلًّا، ومن كان معتقدًا لذلك كان كافرًا، وأما من قتل نفسه غير مُستحِلٍّ فليس بكافر، بل يجوز أن يعفو الله تعالى عنه، ثم يكون خروجه من النار من آخر مَنْ يخرج من أهل التوحيد، ولَمَّا كان الجزاء من جنس العمل كان من قتل نفسه في الدنيا بحديدة عُوقب في النار بحديدة، ومن قتل نفسه بسُمٍّ عُوقب في النار بسُمٍّ من سُموم جهنم، فيقول المُعذَّب: هذا الذي وعدنا به في الدنيا من العذاب، أو هذا الذي عُذِّبنا به هو عقوبة لِمَا فعلناه في الدنيا، كما أن أهل الجنة يقولون عن الثمرة التي كانوا يأكلونها: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} البقرة: 25. شرح سنن أبي داود (13/598).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومَن قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة»
اعلم أن الله -عزَّ وجلَّ- لا تقاس أفعال العباد على أفعاله، ولا أحكامهم على أحكامه الخاصة به -سبحانه وتعالى-، والله -عزَّ وجلَّ- له حكمان:
أحدهما: تعلُّق العباد بذلك الحكم أمرًا ونهيًا، طلبًا ومنعًا.
والثاني: إيجادًا وتوقيفًا وقضاءً وقدرًا.
فالأول متعلِّق بالمكلَّفين. والثاني: خاصٌّ بربِّ المكلَّفين.
إذا ثبت هذا، فالخاصُّ بالله لا مدخل لأحد فيه، والمتعلِّق بالمكلَّفين لا مدخل لهم فيه سوى الوقوف عنده.
ثم المتعلِّق بالمكلَّفين الذي يجب الوقوف عنده من الأمر والنهي، إنما تعلُّقُه بهم في الدنيا، لا مدخل له في الآخرة سوى الجزاء عليه والمقابلة به، أو العفو عنه.
وقد يُسمَّى المتعلِّقُ بالدنيا دِينًا بالنسبة إلى وجوده فيها، أو بالنسبة إلى كونه غير طاعة، ولا يثاب عليه، وهو الذي قال فيه الصحابة -رضي الله عنهم- في حقِّ أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لَمَّا ارتضوه من الخلافة: من ارتضاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا -وهو التَّقديم في الصلاة-، أحرى أن نرتضيه لدنيانا، وهو الخلافة والقيام بأعباء الأُمَّة وسياستها.
وقد يُسمَّى المتعلِّق بالدنيا دينًا أخرويًّا بالنسبة إلى كونه طاعة مثابًا عليه صاحبه.
فهذا النوع تقاس عليه أمور الدنيا كما فعل الصحابة -رضي الله عنهم- في استخلاف الصديق؛ قياسًا على التَّقديم في الصلاة.
أما ما كان من أمور الآخرة محضًا؛ كالعذاب والثواب، والمقابلة والعفو، ونحو ذلك، فلا مدخل للقياس فيه، وإنما يجب الوقوف عنده على مورد النصوص والتوقيف.
إذا عرفت ذلك جميعه، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومن قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة» هو من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، لا من باب القياس للأمور الأخروية على الدنيوية؛ لأن أفعال الله تعالى المتعلِّقة بأحكامه في الأخرى تباين أفعالنا المتعلقة بأحكامه في الدنيا، فلا تشرع لنا في الدنيا أن نفعلها في الدنيا، كالتحريق بالنيران، والعذاب بالسباع والعقارب والحيات، وسقي الحميم المقطع للأمعاء، والذي يشرع لنا في الدنيا، إنما هو بطريق النصوص التي تدل عليها أحكامها، أو القياس على النصوص عند العلماء بالقياس الذي من شرطه أن يكون حكمًا مقيسًا عليه أصلًا، أمَّا ما كان فعلًا لله -عزَّ وجلَّ- في الدنيا فلا يباح لنا، فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء بعباده ولا يحكم عليه، وليس لنا أن نفعل بهم إلا ما أُذِنَ لنا فيه بواسطة، أو بغير واسطة، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (3/ 1527-1529).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
أجمع الفقهاء وأهل السُّنة أنّ مَن قتل نفسه أَنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يصلَّى عليه، وإثمه عليه كما قال مالك، ويدفن في مقابر المسلمين. ولم يكره الصلاة عليه إلا عمر بن عبد العزيز والأوزاعي في خاصة أنفسهما.
والصواب: قول الجماعة؛ لأن الرسول سنَّ الصلاة على المسلمين، ولم يستثنِ منهم أحدًا، فيصلى على جميعهم الأخيار والأشرار إلا الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة. شرح صحيح البخاري (3/ 349).

قوله: «ولعن المؤمن كقتله»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولعن المؤمن كقتله» لأن اللعن تبعيد من رحمة الله، والقتل تبعيد من الحياة. إرشاد الساري (8/66).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
«لعن المؤمن كقتله» يعني: في الإثم، دون الضمان. الأزهار شرح مصابيح السنة، مخوط لوح (320).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «لعن المؤمن كقتله» ليسا في الفعل سواء، وإنما يريد أنهما حرام، وقيل: يريد المبالغة في الإثم، فالشيء يُسمَّى باسم الشيء للمقاربة كقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/269).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ولعن المؤمن كقتله» يعني: في التَّحريم أو في الإبعاد؛ فإن اللعن تبعيد مِن رحمة الله، وقيل: المراد المبالغة في الإثم. عمدة القاري (23/180).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الطبري: وقوله -عليه السلام-: «لعن المؤمن كقتله» يريد في بعض معناه لا في الإثم والعقوبة، ألا ترى أن مَنْ قتل مؤمنًا أن عليه القَوَد (أي: القصاص)، ومن لعنه لا قود عليه؟. شرح صحيح البخاري (9/290).
وقال الطبري -رحمه الله-:
«لعن الرجل كقتله» قال بعضهم معناه: أنَّ على لاعنه من الإثم كما على قاتله...، وهذه الأحاديث والآثار كُلها دَالة على المنع من اللعن؛ وذلك في حقِّ من تعمَّدها، وقصد إليها إِهانة للمُخاطب بها، أما سبق اللسان إليها وصدورها حال التبرُّم والغيظ من غير قصد، فقد يُسامح به إن شاء الله تعالى، وقد وردت أحاديث تتضمن من لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. غاية الأحكام (6/454).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقال المهلب: هو معنى قول الطبري: اللعن في اللغة: هو الإبعاد، فمن لعن مؤمنًا فكأنه أخرجه من جماعة الإسلام، فأفقدهم منافعه، وتكثير عددهم، فكأنه كمن أفقدهم منافعه بقتله، ويفسِّر هذا قوله للذي لعن ناقته: «انزل عنها؛ فقد أجيبت دعوتك» فسرَّحها، ولم ينتفع بها أحد بعد ذلك، فأُفْقِدَ منافعها لَمَّا أجيبت دعوته، فكذلك يخشى أن تجاب دعوة اللاعن، فيهلك الملعون.
والتأويل الثاني: أن الله تعالى حرَّم لعن المؤمن، كما حرَّم قتله، فهما سواء في التَّحريم، وهذا يقتضي تحذير لعن المؤمن والزَّجر عنه؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} الحجرات: 10، فأكد حرمة الإسلام وشبَّهَها بحرمة النَّسب، وكذلك معنى قوله: «من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله» يعني: في تحريم ذلك عليه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/269-270).
وقال المازري -رحمه الله-:
الظاهر من الحديث التشبيه في الإثم، وهو تشبيه واقع؛ لأن اللعنة قطع عن الرحمة، والموت قطع عن التَّصرُّف. المعلم بفوائد مسلم (1/306).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
والذي يمكن أن يُقرَّرَ به ظاهر الحديث في استوائهما في الإثم أنَّا نقول: لا نُسلِّم أن مفسدة اللعن مجرد أذاه بل فيها -مع ذلك- تعريضه لإجابة الدعاء فيه بموافقة ساعة لا يسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه، كما دل عليه الحديث من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَدْعُوا على أنفسكم، ولا تَدْعُوا على أموالكم، ولا تَدْعُوا على أولادكم لا توافقوا ساعة» الحديث، وإذا عرَّضه باللعنة لذلك وقعت الإجابة وإبعاده من رحمة الله تعالى كان ذلك أعظم من قتله؛ لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعًا، والإبعاد من رحمة الله تعالى أعظم ضررًا بما لا يحصى، وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال مساويًا أو مقاربًا لأخفهما على سبيل التَّحقيق، ومقادير الفساد والمصالح وأعدادهما أمر لا سبيل للبشر إلى الاطِّلاع على حقائقه. إحكام الأحكام (459-461).
وقال الفاكهاني -رحمه الله- متعقبًا:
قلتُ: وفيه نظر، وأقلُّ ما فيه: أن إجابة اللعنة أمر مظنون قطعًا، ومفسدة القتل محقَّقة، ولا مساواة بين المظنون والمحقَّقِ، وإذا عدم التَّساوي في المفاسد عدم التَّساوي في الإثم؛ لِمَا تقرَّر من أن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل، والله أعلم. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (5/314-315).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولعن المؤمن كقتله» اللعن: هو دعاء بالقطع عن رحمة الله تعالى، والقتل: هو موت وقطع عن التَّصرُّفات، فقوله: «كقتله» إما أن يُراد به في أحكام الدنيا؛ من حيث إن القتل يوجب القصاص، وليس الأمر في لعنه المؤمن موجبًا للقصاص، فيحمل على أنه كقتله في الإثم، وهو من أحكام الآخرة، فإن أريد به التَّساوي في الإثم أو العقوبة لم يتَّجِه؛ لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل، وليس إذهاب الرُّوح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة، وكذلك العقاب بحسب الجرائم، قال الله -عز وجل-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة:7 - 8، وذلك دليل على التَّفاوت في العقاب والثَّواب، بحسب التَّفاوت في المصالح والمفاسد، فالخِيُور (جمع خير) مصالح، والشُّرور مفاسد.
وإن أريد باللعن قطع منافعه الأخروية عنه، وبُعده منها بإجابة لعنته، فهو مثل من قتل في الدنيا وقطعت عنه منافعه فيها، وإن أريد استواء اللعن بالقتل في أصل التَّحريم والإثم، فهو يحتاج إلى تلخيص ونظر، ولا شكَّ أن التَّحريم والإثم متقاربان في المعنى؛ من حيث إن الإثم مترتِّب على فعل التَّحريم، فإن أريد الاستواء في أصل التَّحريم والإثم، فكل معصية قلَّت أو عظمت، مستوية مع القتل فيه.
لكن المفهوم من الحديث تعظيم أمر اللعنة؛ بتشبيهها بالقتل؛ للزَّجر عنها، وإن أريد الاستواء في المقدار، فقد تبيَّن امتناعه؛ بدليل التَّفاوت في العقاب والثَّواب.
واعلم أن اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد، الذي هو فعل الله -عز وجل-، وهو الذي تقع به السَّبة، وقد يُطلق على فعل اللاعن، وهو طلبه لإبعاد الله -عزَّ وجلَّ- للشخص المسلم بقوله: لعنه الله -مثلًا-، أو بوصفه له بالإبعاد، بقوله: لعنه الله -مثلَا-، أو فلان ملعون.
وكُلُّ هذا ليس يقطع عن الرحمة بنفسه ما لم تتصل به الإجابة، فتكون تسببًا إلى قطع التصرف، فيكون نظير التسبب إلى القتل، فمباشرة القتل بالسبب الغامض؛ كالحَزِّ (أي: القطع) وغيره من مقدمات القتل، مُفْضٍ إلى القتل بمطرد العادة، فلو كان مباشرة اللعن مفضيًا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائمًا لاستوى اللعن مع مباشرة مقدمات القتل، أو زاد عليه، وليس كذلك فافترقا.
وقد يقتضي اللعن له قصده إخراجه عن جماعة المسلمين؛ فإن الجماعة رحمة؛ كما لو قتله، فإن قصده إخراجه لا يستلزم إخراجه كما تستلزم مقدمات القتل، وذلك يقتضي قطع منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته؛ فإن ذلك لا يحصل إلا بها، وقد لا يجاب في كثير من الأوقات، فلا يحصل انقطاعه عن منافعه كما يحصل بها، ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة، لكن الممكن في تقرير الحديث ظاهرًا واستوائهما في الإثم: أن مجرد أذاه باللعنة مع قصد إجابة الدعاء فيه بموافقة ساعة الإجابة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا تدعوا على أولادكم، لا توافقوا ساعة» الحديث هو المساوي للقتل أو أعظم منه؛ لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعًا، والإبعاد من رحمة الله تعالى أعظم ضررًا بما لا يحصى، وقد يكون أعظم الضررين -على سبيل الاحتمال- مساويًا أو مقاربًا لأخفهما على -سبيل التحقيق-، ومقادير المصالح والمفاسد، وأعدادهما أمر لا سبيل إلى البشر إلى الاطلاع على حقائقه ]. العدة في شرح العمدة (3/1530- ١٥٣١).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فإن قيل: هذا التأويل يعارض ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لعن جماعة من المؤمنين، فلعن المخنَّثين من الرِّجال، ولعن شارب الخمر، ولعن غيره، ولعن المصوِّرين، ولعن من غيَّر تُخُوم الأرض (أي: معالمها وحدودها) ولعن من انتمى إلى غير مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ولعن من سبَّ والديه، وجماعة سواهم.
قيل: لا تعارض في شيء من ذلك، والمؤمنون الذين حذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعنهم هم غير من لعنهم، فنهى عن لعن من لم يُظهر الكبائر، ولا استباح ركوب ما نهى الله عنه، وأمر بموالاتهم، ومؤاخاتهم في الله، والتَّودُّد إليهم.
ولعن -عليه السلام- من خالف أَمره، واستباح نهيه، وأمر بإظهار التَّكبُّر عليهم، وترك موالاتهم، والانبساط إليهم، والرِّضا عن أفعالهم، فالحديثان مختلفان، فلا تعارض. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/270).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وأما لعن المؤمن المعيَّن، فإن كان لا يستحِقُّ اللعن فهو حرام بالإجماع، ومن الكبائر، وإن كان يستحِقُّ اللعن فإن قصد معنى اللعن الأصلي، وهو الإبعاد عن رحمة الله فهو حرام أيضًا، إذ ينبغي الدعاء للمؤمن العاصي بالتوبة والمغفرة، وإن لم يقصد، بل قصد به محض السبِّ فهو مكروه.
ويمكن أن يُستأنس لذلك بحديث: «لا تكونوا عَوْنَ الشيطان على أخيكم» قال ذلك -صلى الله عليه وسلم- حين لعن بعض الصحابة شاربًا للخمر، وقد أخرج أبو داود بسند جيد، رفَعَهُ: «إن العبد إذا لعن شيئًا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مَسَاغًا (أي: مدخلًا وطريقًا) رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلًا، وإلا رجعت إلى قائلها». وأما غير المعيَّن من أهل السُّوء فالرَّاجح جواز لعنه؛ لأن لعنه حينئذٍ زجر عن تعاطي ذلك الفعل، بخلاف المعيَّن فإن في لعنه إيذاءً صريحًا موجَّهًا، وقد ثبت النَّهي عن أذى المسلم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/363).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ولعن المؤمن كقتله» مفهومه: جواز لعن الكافر، وإلا لم يكن لإضافته إلى المؤمن فائدة، مع أنه يَحتمل عندي احتمالًا فيه بُعدٌ؛ أن تكون فائدة الإضافة إلى المؤمن التَّشنيع والتَّبشيع؛ كما تقدَّم في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «يقتطع بها مال امرئ مسلم»، وإن كان اقتطاع مال الكافر حرامًا أيضًا، ووجه البُعْدِ في هذا: أنَّا أَجْمَعنا على تحريم اقتطاع مال الكافر الذِّمي؛ بخلاف لعنه.
فائدة: قال العلماء: لا خلاف في جواز لعن الكافر جملة من غير تعيين أهل ذمَّة كانوا أو غيرهم، قالوا: وكذلك من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر، وأكلة الرِّبا، ومَنْ تَشبَّه من النساء بالرِّجال والعكس، وغير ذلك مما جاء في الحديث لعنه. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (5/312).

قوله: «ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«ومَن رمى مؤمنًا بكفر» كأن قال: يا كافر. إرشاد الساري (8/66).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من رمى مؤمنًا بكفر» قال له ذلك، أو نسب إليه ما يوجب الكُفر. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 239).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فهو» أي: الرَّمي. إرشاد الساري (8/66).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فهو» أي: رميه له بذلك في عِظم الذَّنْب. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 239).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
«ومن قذف مؤمنًا بكفر فهو كقتله» يعني: في وجوب القتل دون الضَّمان؛ لأن القذف بالكُفر كُفر، فيجب قتله بالردة، كما يجب بقتله. الأزهار شرح مصابيح السنة مخوط لوح (320).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«كقتله» أي: في التَّحريم، أو في الإثم، أو في الإبعاد. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/139).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«كقتله» في التَّحريم أو في التَّألُّم، ووجه المشابهة أن النِّسبة إلى الكفر الموجب للقتل كالقتل في أن المتسبِّب للشيء كفاعله. إرشاد الساري (8/66).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «كقتله» وجه المشابهة هنا أظهر؛ لأن النِّسبة إلى الكفر الموجب للقتل كالقتل في أن المتسبِّب للشيء كفاعله، نسأل الله العصمة. عمدة القاري (22/158).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«كقتله» في قطع المنفعة؛ لأن القاتل يقطع عن المقتول منافع الدُّنيا، والرَّامي للمؤمن بذلك يقطعه عن منافع الآخرة، وقيل: فهو كقتله في إثم؛ لأنه بنسبته له إلى الكفر يحكم بقتله، فكأنه قتله بناء على أن المتسبِّب كالفاعل.
والأَوْلى: حمل هذا والذي قبله (يعني: اللعن) على التَّغليظ والتَّخويف، وهو كثير في الاستعمال، كأن تسمع تأنيب زميل لزميله بكلمة جارحة، فتقول له: أنت قتلته بهذه الكلمة، كذلك يحرم رمي المؤمن بالفسق، فإن قصد نصحه سرًّا جاز ما لم يؤدِّ ذلك إلى عناد الفاسق وإصراره على ذلك الفعل، كما في طبع كثير من الناس، وخصوصًا إذا كان الآمر دون المأمور في المنزلة. المنهل الحديث في شرح الحديث (4/171).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه دليل على أن من حلف بالبراءة من الإسلام فإنه يأثم، ولا يلزمه الكفَّارة؛ وذلك لأنه إنما جعل عقوبتها في دينه، ولم يجعل في ماله شيئًا. معالم السنن (4/ 46).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفي الحديث أحكام:
منها: تحريم الحلف بملَّة غير الإسلام كاليهودية والنَّصرانية ونحوهما مطلقًا، وكذلك تعليق الحلف بهما....
ومنها: تحريم الجناية على نفسه بالقتل، وأنه يأثم بذلك؛ حيث إنها ليست ملكًا له، وإنما هي ملك لله -عزَّ وجلَّ- لا يتصرَّف فيها إلا بما أَذِنَ له فيه.
ومنها: تغليظ التَّحريم في لعن المؤمن، ووجوب احترامه ورعايته، حيث إن الإيمان سبب للقرب من الله تعالى، وتقريب المؤمن هو سبب إيمانه، فمن قصد بعده من الله -عزَّ وجلَّ-، أو دعا به عليه، فقد راغم (أي: سخط) ما جعله الله تعالى سببًا لقربه، ومن راغم جَعْلَ الله -عزَّ وجلَّ- فأقل درجاته أن يكون فعله محرمًا، وإن لم يكن كفرًا مطلقًا، فهو مقيَّدٌ، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (3/1532-1534).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه عظمة إثم من قال للمؤمن بذلك، أو قال له: يا يهودي ونحوه من ملل الكفر فإن حكمه في الإثم في الآخرة حكم قاتل النَّفس. التنوير شرح الجامع الصغير (10/239).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: بيان تحريم هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنها من الكبائر التي تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيرادها في أبواب الإيمان (من صحيح مسلم).
ومنها: بيان الوعيد الشديد لمن حلف بملَّة سوى الإسلام، كاليهودية، والنَّصرانية، وغيرهما مطلقًا، وكذا تعليق الحلف بها....
ومنها: تحريم قتل الإنسان نفسه، وإثمه بذلك....
ومنها: بيان مجانسة الجزاء الأخروي للجناية الدنيوية، وأن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست مِلكًا له يتصرف فيها كيف شاء، بل هي لله تعالى، لا يجوز أن تعامل إلا بما شرع الله تعالى أن تعامل به، فلا يجوز إلحاق الضَّرَر بها، من التَّجويع، والتَّعطيش وغير ذلك من إلحاق الأذى... البحر المحيط الثجاج (3/320-321).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا