«الطَّاعونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ على طائفةٍ مِن بني إسرائيلَ، أو على مَن كان قبلَكُم، فإذا سمعتم به بأرضٍ، فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذا وَقَعَ بأرضٍ، وأنتم بها فلا تخرجوا، فرارًا منه».
رواه البخاري برقم: (3473)، ومسلم برقم: (2218)، من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-.
وفي لفظ عند مسلم برقم: (2218): «رِجْز».
ورواه بنحوه البخاري برقم: (5730)، ومسلم برقم: (2219)، من عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الطاعون»:
المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة والأبدان. النهاية، لابن الأثير (3/127).
قال ابن قرقول -رحمه الله-:
الطاعون: قروح تخرج في المغابن (وهي بواطن الأفخاذ، ومعاطف الجلد) وغيرها، لا تلبث صاحبها، وتعمُّ غالبًا إذا ظهرت. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (3/ 274).
«رِجس»:
الرِّجس: القذر، وقد يُعبَّر به عن الحرام، والفعل القبيح، والعذاب، واللعنة. النهاية، لابن الأثير (2/200).
قال الزمخشري -رحمه الله-:
الرِّجس: العذاب. الفائق(2/46).
«رِجز»:
بِكَسْرِ الرَّاءِ، العذابُ والإِثمُ والذَّنبُ. لسان العرب(5/ 352)
شرح الحديث
قوله: «الطاعون رجس»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
أصل الطَّاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء: عموم الأمراض، فسُمِّيت طاعونًا لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا على ما ذكرناه، ويدلُّ على ما أشرنا إليه قوله -عليه السلام- في حديث أبي موسى: «الطاعون وخز أعدائكم من الجن» ووباء الشام الذي وقع به إنما كانت طاعونًا وقروحًا، وهو طاعون عَمَواس. إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 132).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما الطاعون فهو قروح تخرج في الجسد فتكون في المرافق أو الآباط أو الأيدي أو الأصابع وسائر البدن، ويكون معه ورم وألم شديد، وتخرج تلك القروح مع لهيب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كُدْرة، ويحصل معه خفقان القلب والقيء. شرح صحيح مسلم (14/ 204).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«الطاعون» من الأمراض المهلكة غالبًا، فإذا عرض للمؤمن كان شهادة له، وإن حلَّ على الكافر كان رجزًا، أي: عذابًا. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 423).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وإنما سُمِّيَ طاعونًا لعموم مصابه وسرعة قتله، فيدخل فيه مثله مما يصلح اللفظ له. عارضة الأحوذي (4/ 285).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قلتُ: هذه القروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون، وليست نفسه، ولكن الأطباء لَمَّا لَمْ تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون، والطاعون يُعبَّر به عن ثلاثة أمور:
أحدها: هذا الأثر الظاهر، وهو الذي ذكره الأطباء.
والثاني: الموت الحادث عنه، وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله: «الطاعون شهادة لكل مسلم».
والثالث: السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورد في الحديث الصحيح: «أنه بقية رجز أُرْسِلَ على بني إسرائيل» وورد فيه «أنه وخز الجن» وجاء: «أنه دعوة نبي».
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس عندهم ما يدلُّ عليها، والرسل تخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسَّط الأرواح، فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرُّفًا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء وفساد الهواء، كما يجعل لها تصرُّفًا عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة، ولا سيّما عند هيجان الدم، والمِرَّة السَّوداء، وعند هيجان المني، فإن الأرواح الشيطانية تتمكَّنُ من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكَّن من غيره. زاد المعاد (4/ 37).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
والمراد بالطاعون المذكور في الحديث الذي ورد في الهرب عنه الوعيد: هو الوباء، وكُل موت عام. عون المعبود (8/ 255).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قلتُ: وحاصله: أن الطاعون مرض عام يكون عنه موت عام، وقد يُسمَّى بالوباء، ويرسله الله نقمة وعقوبة لمن يشاء من عصاة عبيده وكَفَرَتِهِم، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين من عباده. المفهم (5/ 611).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والحاصل: أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يُسمَّى طاعونًا بطريق المجاز لاشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت.
والدليل على أن الطاعون يُغاير الوباء أن «الطاعون لا يدخل المدينة»، وفي حديث عائشة: «قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله»، وفيه قول بلال: «أخرجونا إلى أرض الوباء... »، فدل على أن الوباء غير الطاعون، وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا فبطريق المجاز... فتح الباري (10/180-181).
وقال الكلاباذي -رحمه الله-:
يجوز أنْ يكون الطاعون على ضربين:
منه داء، ومنه وجع ووباء يقع من غلبة بعض الأمشاج الذي هو الدم أو الصفراء إذا احترق أو غير ذلك من غير سبب يكون من الجن.
ومنه ما يكون من وخز الجن، كما يكون القرح داء ووجعًا يصيب الإنسان من احتراق الدم، وغلبة الأمشاج، فيحرق له الجلد، ويشرح اللحم، وإن لم يكن هناك طعن من الإنس، ومنه ما يكون من طعن الإنس. بحر الفوائد (2/802).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعُه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصحِّ البلاد هواء، وأطيبها ماء؛ ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض؛ لأن الهواء يفسد تارة ويصِحُّ أخرى، وهذا يذهب أحيانًا، ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سَنة على سَنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعمَّ الناس والحيوان والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب مَنْ هُمْ بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعمَّ جميع البدن، وهذا يختصُّ بموضع من الجسد ولا يتجاوزه؛ ولأن فساد الهواء يقتضي تغيُّر الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدلَّ على أنه من طَعْن الجنِّ، كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك منها حديث أبي موسى رفعَهُ: «فناء أمتي بالطعن والطاعون، قيل: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: وخز أعدائكم من الجنِّ، وفي كل شهادة» أخرجه أحمد من رواية زياد بن عِلاقة عن رجل عن أبي موسى. فتح الباري (10/180-181).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
تنبيه: وقع «الرِّجس» بالسِّين المهملة موضع «الرِّجز» بالزاي، والذي بالزاي هو المعروف وهو العذاب، والمشهور في الذي بالسِّين أنه الخبيث أو النَّجِس أو القَذر، وجزم الفارابي والجوهري بأنه يطلق على العذاب أيضًا، ومنه قوله تعالى: «يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الأنعام: 12، وحكاه الراغب أيضًا. فتح الباري (10/183).
قوله: «أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أُرسل على طائفة من بني إسرائيل» هم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجدًا، فخالفوا ما أمرهم الله تعالى، فأرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفًا من شيوخهم وكبرائهم. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 399).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قيل: يحتمل وجهين: أنه أول ما بدا في الأرض وحدث بالناس.
والوجه الثاني: أنهم عُذِّبوا به، وقد جاء في الصحيح -في غير كتاب مسلم- «أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا؛ يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد». إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 134-135).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد أنه أول ما نزل إلى الأرض، وحدث بالناس حدث بهم على هذا الوجه.
والوجه الثاني: أن يكون نزل في بلد على أنه غريب، وأنه تكرر بعد ذلك في ذلك البلد. المنتقى شرح الموطأ (7/ 200).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والتخصيص على بني إسرائيل أخصُّ، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بِلْعَام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين عن سيار «أن رجلًا كان يقال له: بِلْعَام، كان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بِلْعَام، فأتاه قومه فقالوا: ادع الله عليهم، فقال: حتى أُؤَامِر ربي، فمنع فأتوه بهدية فقبلها، وسألوه ثانيًا، فقال: حتى أُؤَامِر ربي. فلم يرجع إليه بشيء، فقالوا: لو كره لنهاك، فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل، فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلُّكم على ما فيه هلاكهم، أرسلوا النساء في عسكرهم، ومروهنَّ أن لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، فكان فيمن خرج بنت الملك، فأرادها رأس بعض الأسباط، وأخبرها بمكانه، فمكَّنته من نفسها، فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم سبعون ألفًا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح، فطعنهما وأيَّده الله فانتظمهما جميعًا»، وهذا مرسل جيد، وسيَّار شامي موثَّق... فتح الباري (10/183-184).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما قوله: «أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم» فالشَّكُّ من المحدِّث، هل قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «على بني إسرائيل»، أو قال: «أرسل على من قبلكم»؟ والمعنى -والله أعلم- أن الطاعون أول ما نزل في الأرض فعلى طائفة من بني إسرائيل قبلنا. التمهيد (12/ 259).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم» الحديث كذا وقع بالشَّكِّ، ووقع بالجزم عند ابن خزيمة من طريق عمرو بن دينار عن عامر بن سعد بلفظ: «فإنه رجز سُلِّطَ على طائفة من بني إسرائيل» وأصله عند مسلم، ووقع عند ابن خزيمة بالجزم أيضًا من رواية عكرمة بن خالد عن ابن سعد عن سعد، لكن قال: «رجز أصيب به من كان قبلكم». فتح الباري (10/183).
قوله: «فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإذا سمعتم به» الباء متعلِّقة بـ«سمعتم» على تضمين أُخْبِرْتُم «بأرض» حال، أي: واقعًا في أرض. شرح المصابيح (2/ 315).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقوله: «إذا سمعتم به» يعني: الطاعون. كشف المشكل (1/ 217).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فلا تَقْدَموا عليه» أي: فلا تتَّجِهُوا وتُقْبِلُوا على مكانه. المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 190).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
«فلا تقدموا عليه» أي: ليكون أسكن لنفوسكم، وأقطع لِمَا يوسوس به الشيطان إليكم. أعلام الحديث (3/2128).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
والنهي في قوله: «فلا تقدموا» للتنزيه والكراهة، وقيل: للرخصة والإباحة، ولو دخل كان أقرب إلى التَّوكُّل. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (192).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فلا تقدموا عليه» بأنْ تدخولها لغير حاجة، ومنه لكون الأصل في النهي الحرمة، أخذ أئمتنا: حرمة دخول بلد به طاعون، ولو في أول ابتدائه أو آخره، وقد يؤخذ من تعبير «بأرض» دون بلد، أنه لو وقع طرف إقليم حرم الدخول إليه، ولو لم يقع فيه؛ لأن الغالب أنه إذا وقع بإقليم عمَّه سريعًا. فتح الإله في شرح المشكاة (5/439).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «لا تقدموا عليه» إثبات الحذر، والنهي عن التَّعرُّض للتَّلف، فهو تأديب وتعليم. كشف المشكل (1/ 217).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه» على ظاهر هذا الحديث عمل عُمرُ والصحابة معه -رضي الله عنهم أجمعين- لَمَّا رجعوا من سَرْغ (مدينة بالشام افتتحها أبو عبيدة بن الجرّاح هي واليرموك والجابية والرّمادة متّصلة) حين أخبرهم بهذا الحديث عبد الرحمن بن عوف، وإليه صاروا. المفهم (5/ 612).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «لا تقدموا عليه» لأمور منها: أن لا يتعرَّض للحُتُوف (أي: الموت)، وإن كان لا نجاة من قدر الله، ولكن من حسن قدره أن يسَّر لك الحذر.
ومنها: أن لا تشرك به، فتقول: لو لم أدخل ما مرضت. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 1091).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فلا تقدموا عليه» يعني: إذا سمعتم أن الطاعون وقع ببلد فلا تدخلوا ذلك البلد، وهذا إشارة إلى أن الرجل لا يجوز له أن يُوقِعَ نفسه في موضع يكون فيه الهلاك. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 400).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الصَّحيح: أن علة النهي عن القدوم عليه التَّحرُّز من العَدوى، فإن السَّليم إذا دخل أرض وباء مُعْدٍ عرَّض نفسه للعدوى والإصابة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/ 600).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عِدَّة حِكَم:
أحدها: تجنُّب الأسباب المؤذية، والبُعد منها.
الثاني: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد.
الثالث: أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عَفِن وفسد فيمرضون.
الرابع: أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم، وفي سنن أبي داود مرفوعًا: «إن من القَرَف التلف»، قال ابن قتيبة: القَرَف: مداناة (يعني: القرب) الوباء، ومداناة المرضى.
الخامس: حِمْيَة النُّفوس عن الطِّيرة والعدوى، فإنها تتأثر بهما، فإن الطِّيرة على من تطيَّر بها.
وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحِمْيَة، والنَّهي عن التَّعرُّض لأسباب التَّلف، وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتَّوكُّل والتَّسليم والتَّفويض، فالأول: تأديب وتعليم، والثاني: تفويض وتسليم. زاد المعاد (4/40-41).
قوله: «وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا، فرارًا منه»:
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«وإذا وقع بأرض» يُؤخَذ من التعبير بها نظير من مَرَّ، ويحتمل خلافه فيهما، وأنه لا يحرم الدُّخول والخروج إلا إلى ومن المحل الذي وقع فيه بالفعل، لكن يؤيد قول أئمتنا: إنَّ الأصحاء في زمن الطاعون لا ينفذ من تبرُّعِهم المنجز إلا ثلث أموالهم، كرهن في مرض الموت؛ لأن الأبدان بعد وقوعه تصير كلها في قوة المرتهن به، فنزَّلُوه منزلة الموجود بالنسبة لمن لم يصبه، فقياسه تنزيله منزلة الموجود ببلد لم يقع به، ووقع في قريب منه، ويمكن الفرق إلا أنْ يلتزم ملتزم إذا وقع ببلد من إقليم لا ينفذ بنزع جميع أهله لفساد أبدانهم كلهم بالقوة حينئذٍ. ووجه حرمة الدُّخول: ما فيه من التَّعرُّض به إلى الخطر، والوقوع في التَّهلُكة، وما قد تنفر منه النَّفْس، وتضجر به، وأنه قد يقع بها شيء، فتنسبه إلى دخوله، فيؤدي إلى الوقوع في الطِّيرة الممنوعة. فتح الإله في شرح المشكاة (5/439-440).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
(قيل): إنَّه فرار من الشَّهادة وأسبابها...، ولا يليق ذلك بالمؤمن. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (192).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وأنتم بها» أي: بتلك الأرض. البحر المحيط الثجاج (36/ 283).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فرارًا» أي: لأجل الفرار. إرشاد الساري (5/ 433).
وقال الزرقاني -رحمه الله- متعقبًا:
وقيل: هو تعبديٌّ؛ لأن الفرار من المهالك مأمور به، وقد نهي عن هذا، فهو لسرٍّ فيه لا يُعْلَم معناه.شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 379).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفي قوله: «لا تخرجوا فرارًا منه» إثبات التَّوكُّل والتَّسليم لأمر الله وقضائه، فأحد الأمرين تأديب وتعليم، والآخر تفويض وتسليم. معالم السنن (1/299).
وقال الخطابي -رحمه الله- أيضًا:
«فلا تخرجوا فرارًا منه» فتكونوا قد عارضتم القدر، وادَّعيتم الحَوْل والقوَّة في الخلاص منه. أعلام الحديث (3/2128).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «فلا تخرجوا» إثبات التَّوكُّل والتَّسليم لأمر الله تعالى وقضائه. كشف المشكل (1/ 217).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«منه» أي: من الطاعون؛ لأنه إذا خرج الأصِحَّاء وهلك المرضى فلا يبقى مَنْ يقوم بأمرهم، وقيل غير ذلك. إرشاد الساري (5/ 433).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فلا تخرجوا فرارًا منه» يعني: إذا وقع الطاعون وأنتم فيه فاصبروا وتوكَّلُوا ولا تَفِرُّوا، هذا إشارة إلى أن العذاب إذا نزل بقوم وأنت فيهم فاصبر، ولا تهرب من بينهم، فإن العذاب لا يدفعه الهرب، وإنما يدفعه الاستغفار والتَّوبة؛ ليظنَّ كل واحد من أولئك أن العذاب نزل على هؤلاء بشؤم ذنبه، وليستغفر الله وليتب إليه. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 400).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «فرارًا منه» خصَّ بالمنع الخروج على هذا الوجه، فجوَّز لمن أراد الخروج منه لغير ذلك الوجه من حاجة تنزل به إلى السفر منه أو الانتقال عنه، ويجوز لمن اسْتَوْخَم أرضًا (أي: وجده وَبِيئًا أو ثقيلاً) أن يخرج منها إلى بلد يوافق جسمه؛ لِمَا روي عن أنس بن مالك «أن ناسًا من عُكْل أو عُرَيْنة قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتكلَّمُوا بالإسلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضَرْعٍ (يعني: أصحاب شاة وإبل) ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذود (الذود: الإبل ما بين الثلاث إلى العشرة) وبراعٍ ، وأمرهم أن يخرجوا فيه». المنتقى شرح الموطأ (7/ 200).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولا شكَّ أن الصور ثلاث:
من خرج لقصد الفرار محضًا فهذا يتناوله النَّهي لا محالة.
ومن خرج لحاجة مُتمحِّضة لا لقصد الفرار أصلًا، ويُتصوَّر ذلك فيمن تهيَّأَ للرَّحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلًا، ولم يكن الطاعون وقع، فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلًا، فلا يدخل في النَّهي.
والثالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها، وانضمَّ إلى ذلك أنه قصد الرَّاحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون، فهذا مَحلُّ النزاع.
ومن جملة هذه الصورة الأخيرة: أن تكون الأرض التي وقع بها وَخِمَة (أي: غير موافقة لسكنها) والأرض التي يريد التَّوجه إليها صحيحة، فيتوجَّه بهذا القصد، فهذا جاء النَّقل فيه عن السلف مختلفًا، فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارًا؛ لأنه لم يتمحَّض للفرار، وإنما هو لقصد التَّداوي، وعلى ذلك يحمل ما وقع في أثر أبي موسى المذكور أن عمر كتب إلى أبي عبيدة: إن لي إليك حاجة فلا تضع كتابي من يدك حتى تقبل إليَّ، فكتب إليه إني قد عرفت حاجتك، وإني في جُند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم. فكتب إليه، أما بعد: فإنك نزلت بالمسلمين أرضًا غميقة (أي: قريبة من المياه)، فارفعهم إلى أرض نزهة. فدعا أبو عبيدة أبا موسى فقال: اخرج فارتدْ للمسلمين منزلًا (يعني: مكانًا) حتى انتقل بهم، فذكر القصة في اشتغال أبي موسى بأهله ووقوع الطاعون بأبي عبيدة لَمَّا وضع رجله في الركاب متوجهًا، وأنه نزل بالناس في مكان آخر فارتفع الطاعون...، فهذا يدلُّ على أن عمر رأى أن النَّهي عن الخروج إنما هو لمن قصد الفرار متمحِّضًا. فتح الباري (10/ 188).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
النَّهي عن خروج من وقع الطاعون بأرض هو بها عدم نقل العَدْوَى من مكان الوباء إلى غيره، ومنع انتشاره، وهذا هو المعروف في عُرْف الطب في أرقى العصور بالعزل الصحي، أو الحَجْرِ الصحي، أي: محاصرة المرض المعدي في أضيق حدوده، وهذا لا يتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر، ولا مع أن العدوى لا تؤثِّرُ بنفسها، بل بإرادة الله تعالى. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/ 600).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما نهيه عن القدوم عليه وعن الفرار منه؛ فلئلا يلوم أحدهم بعد ذلك نفسه إن مرض منه فمات، أو يقول غيره: لو لم يقدم عليه أو فر منه لنجا ونحو هذا، فيلومون أنفسهم فيما لا لوم عليهم فيه؛ لأن الباقي والناهض لا يتجاوز أحد منهم أجله، ولا يستأخر عنه. التمهيد (12/ 259).
وقال الطحاوي -رحمه الله- معلِّلًا سبب النهي:
هو عندنا -والله أعلم- على أن لا يقدم عليه رجل فيصيبه بتقدير الله -عز وجل- عليه أن يصيبه، فيقول: لولا أني قدمت هذه الأرض ما أصابني هذا الوجع، ولعلَّه لو أقام في الموضع الذي خرج منه لأصابه، فأُمِرَ أن لا يقدمها خوفًا من هذا القول.
وكذلك أمر أن لا يخرج من الأرض التي نزل بها؛ لئلا يسلم، فيقول: لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعلَّه لو كان أقام بها ما أصاب به من ذلك شيء، فأُمِرَ بترك القدوم على الطاعون للمعنى الذي وصفنا، وبترك الخروج عنه للمعنى الذي ذكرنا. شرح معاني الآثار (4/ 307).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا على الطحاوي:
ويؤيده (يعني: ويؤيد ما ذكره الطحاوي) ما أخرجه الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن عن أبي موسى أنه قال: إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزَّهَ عنه فليفعل، واحذروا اثنتين، أن يقول قائل: خرج خارج فسَلِمَ، وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سَلِمَ فلان، أو لو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان، لكن أبو موسى حمل النَّهي على من قصد الفرار مَحْضًا. فتح الباري (10/ 188).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فإن قيل: فهذان ضدَّان، كيف يأمر بالحذر ثم ينهى عنه؟
فالجواب: أنه لَمَّا لَمْ يُؤمَنْ على القادم على الطاعون أن يظنَّ إذا أصابه أن ذلك على سبيل العدوى التي لا صُنع للقدر فيها نهى عن ذلك؛ ولَمَّا ظنَّ الخارج عنه أن خروجه يدفع القدر نهى عن ذلك، فكلا الأمرين يراد لإثبات القدر، وترك التَّعرُّض بما يزلزل الباطن.
وقال بعض العلماء: إنما نهى إذا وقع الطاعون في بلد أن يخرج منه؛ لأنه إذا خرج الأصِحَّاء هلك المرضى؛ لأنه لا يبقى من يقوم بأمرهم، فخروجهم لا يقطع بنجاتهم، وهو قاطع بهلاك الباقين، والمسلمون كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا. كشف المشكل (1/ 217).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
لأن فيه (يعني: الخروج) كسرًا لقلوب بقية المسلمين، وسعيًا في إهلاكهم، فهذه أمور دقيقة، فمن لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر ما سمعه، وغلطُ العباد والزُّهاد في مثل هذا كثير، وإنما شرف العلم وفضيلته لأجل ذلك. إحياء علوم الدين (4/291).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد ذكر العلماء في النَّهي عن الخروج حِكَمًا منها: أن الطاعون في الغالب يكون عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها، فلا يفيده الفرار؛ لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا فلا يليق بالعاقل.
ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره ضائع المصلحة لفقد مَنْ يتعهده حيًّا وميِّتًا.
وأيضًا فلو شُرِعَ الخروج فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف؛ لِمَا فيه من كسر قلب من لَمْ يَفِرَّ، وإدخال الرُّعب عليه بخذلانه....
فتح الباري(10/ 189-190).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قيل: هل من أحد إلا يموت، فما وجه النهي عن دخول الأرض التي بها الطاعون أو الخروج منها؟
قيل له: إنما نهي عنه حِذارًا أن يظنَّ أن الهلاك كان من أجل القدوم، وأن مَن فَرَّ منه نَجي. نخب الأفكار (14/ 72).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد اختلف السلف في هذا:
فمنهم: من أخذ بظاهر الحديث؛ وهم الأكثر، روي عن عائشة وقالت: هو كالفرار من الزَّحف.
ومنهم: من خرج إلى بلاد الطاعون وخرج عنها، وروي هذا المذهب عن عمر بن الخطاب، وأنه ندم على رجوعه من سَرْغ (مدينة بالشام افتتحها أبو عبيدة بن الجرَّاح هي واليرموك والجابية والرمادة متصلة) وقال: اللهم اغفر لي رجوعي من سَرْغ، وكتب إلى عامله بالشام: إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم فاكتب إليَّ حتى أخرج إليه، وكتب إلى أبي عبيدة في الطاعون الذي وقع بالشام، فعزم عليه أن يقدم عليه مخافة أن يصيبه الطاعون....
قال بعض أهل العلم: لم ينهَ عن دخول أرض الطاعون والخروج عنها مخافة أن يصيب غير ما كتب عليه، ويهلكَ قبل أجله، لكن حذارَ الفتنة على الحيِّ من أن نظنَّ أن هلاك من هلك من أجل قدومه، ونجاة من نجا لأجل فراره، وهذا نحو نهيه عن الطِّيرة والقرب من المجذوم، مع قوله: «لا عدوة» دليل أن من خرج من بلاد الطاعون على سبيل الفرار فجائز له الخروج، ومن دخله إذا أيقن أن دخوله لا يجلب إليه قدرًا لم يسبق فسائغ له الدخول. إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 132-134).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وعند هذا (يعني: بأن عمر حين شاور الصحابة في الرجوع عن دخول سَرْغ) يعلم الفَطِنُ العاقل أن تلك الأقوال التي حكيت عنه في ندمه على الرجوع من سَرْغ ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء والفرار منه لم يَصِحَّ عنه شيء من ذلك.
وكيف يندم على هذا النظر القويم، ويرجع عن هذا المنهج المستقيم الذي قد تطابق عليه العقل والسمع، واصطحب عليه الرأي والشَّرع؟! هذا ما لا يكون، فالحاكون عنه هم المتقوِّلُون، والله تعالى أعلم. المفهم (5/618).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا القرطبي:
وأجيب بأن سنده (يعني: سند خبر تراجع عمر) قوي، والأخبار القوية لا تردُّ بمثل هذا مع إمكان الجمع، فيحتمل أن يكون كما حكاه البغوي في شرح السنة عن قوم أنهم حملوا النَّهي على التنزيه، وأن القدوم عليه جائز لمن غلب عليه التَّوكُّل، والانصراف عنه رخصة.
ويحتمل: وهو أقوى: أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهمٍّ من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود إلى أن يرتفع الطاعون فيدخل إليها، ويقضي حاجة المسلمين، ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب، فلعلَّه كان بلغه ذلك فندم على رجوعه إلى المدينة، لا على مطلق رجوعه، فرأى أنه لو انتظر لكان أولى لِمَا في رجوعه على العسكر الذي كان صحبته من المشقة، والخبر لم يَرِدْ بالأمر بالرجوع، وإنما ورد بالنَّهي عن القدوم، والله أعلم. فتح الباري (10/ 187).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون، ومنع الخروج منه فرارًا من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به، وهذا الذي ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور. شرح صحيح مسلم (14/ 205).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ومنهم من قال: النَّهي فيه للتنزيه، فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة، فقالوا: يحرم الخروج منها لظاهر النَّهي الثابت في الأحاديث الماضية، وهذا هو الرَّاجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك، فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعًا في أثناء حديث بسند حسن: «قلت: يا رسول الله، فما الطاعون؟ قال: غُدَّةٌ كغُدَّةِ الإبل، المقيم فيها كالشهيد، والفارُّ منها كالفارِّ من الزَّحف». فتح الباري (10/ 188).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ونهى عنه من الخروج كأنه قال: لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا من الطاعون، وأباح الخروج إذا كان لغرض آخر ما لم يكن قصدًا إلى الفرار، وهذا تفسير معنى الحديث الآخر المجمل «ولا تخرجوا منها» فبين أن النهي عن الخروج على الخصوص لا على العموم. إكمال المعلم (7/ 131).
وقال ابن أبي جمرة -رحمه الله-:
وهنا بحث: وهو أنْ يُقال: هل هذا النَّهي يقصر على الطاعون ليس إلا أو يتعدى ذلك بالعلَّة، وهي حيث يعلم موضع ضرر لا يُقدم عليه، لا سيّما إذا كان متحقِّقًا، أو يكون غالبًا في الدِّين؟
فالنَّظر يعطي تعديه من أجل ورود العلة، كما عدُّوا بذلك أحكامًا كثيرة، ويقوِّيه قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة: 195، وهو لفظ عام. جمع النهاية في بدء الخير والغاية (4/55).
وقال النووي -رحمه الله-:
واتَّفقوا على جواز الخروج بشُغلٍ وغرض غير الفرار، ودليله صريح الأحاديث. شرح صحيح مسلم (14/206).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وفي الحديث: إثبات التَّوقي عن التَّلف، وإثبات التَّوكُّل والتَّسليم، فقوله: «لا تقدموا عليه» لأن الله تعالى شرع لنا التَّوقي عن المحذور، ثم إن الطاعون لَمَّا كان رجزًا، لم يَجُزِ الإقدام عليه والتَّورُّط فيه. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 375).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في هذا الحديث من العلم: توقي المكاره منها قبل وقوعها.
وفيه: التَّسليم لأمر الله وقدره إذا وقعت المصائب والبلايا، وهذا كما قال -عليه السلام-: «لا تمنُّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا».
وفيه: أن الأمور كلها بقدر الله، وأنه لا يُنْجِي الفارَّ من القدر فرارُه.
وفيه: منع القدوم على بلاء الطاعون والوباء، وتحريم الخروج عنها فرارًا من ذلك. إكمال المعلم (7/ 132).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: الاحتراز من المكاره وأسبابها.
وفيه: التَّسليم لقضاء الله عند حلول الآفات، والله أعلم. شرح صحيح مسلم (14/ 206).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أخبر النبي -صلي الله عليه وسلم- في حديث أسامة أن الطاعون بقية رِجْزٍ أُرْسِل على مَنْ كان قبلكم، يعني: بني إسرائيل، ومعناه: أنه نزل عليهم بذنوب، فلما استمرت تلك الذنوب استمرَّ معها العذاب، ففي المُسَبِّب بقاء السَّبَب. عارضة الأحوذي (4/286).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وفي الحديث: النَّهي عن استقبال البلاء، فإنه تهوُّرٌ أو إقدام على الخطر، والعقل يمنعه، والفرار عنه فإنه فرار من القدر، وهو لا ينفعه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 423).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفيه عندي -والله أعلم- النَّهي عن ركوب الغَرَر والمخاطرة بالنَّفس والمهجة؛ لأن الأغلب في الظاهر أن الأرض الوبيئة لا يكاد يسلم صاحبها من الوباء فيها إذا نزل بها، فنُهوا عن هذا الظاهر إذ الآجال والآلام مستورة عنهم.
ومن هذا الباب أيضًا قوله: «لا يَحِلُّ المُمرَّض على المُصَحِّ»، ثم قال عند حقيقة الأمر: «فمن أعدى الأَوَّل». التمهيد (12/ 260).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
تسمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطاعون رجزًا أُرْسِلَ على من كان قبلنا، وقد سَمَّاه شهادة عندنا، فقال: «والمطعون شهيد». وتحقيقه: أن الله تعالى جعله عذابًا لمن كان قبلنا بحكمته، وجعله شهادة لنا برحمته. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 212).
وقال النووي -رحمه الله-:
وإنما يكون (يعني: الطاعون) شهادة لمن صبر كما بيّنه في الحديث المذكور. شرح صحيح مسلم (14/ 205).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: إباحة الخبر عن الأمم الماضية من بني إسرائيل وغيرهم. التمهيد (21/ 185).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائد الحديث:
منها: بيان كون الطاعون عذابًا على الأُمم السابقة، وجعله الله تعالى رحمة لهذه الأمة، فكان لها شهادة، ففي الصحيحين: «المطعون شهيد»، وأخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: «سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم– عن الطاعون، فقال: كان عذابًا يبعثه الله على مَنْ كان قبلكم، فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه، فيمكث لا يخرج صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد»، وفي حديث آخر: «الطاعون شهادة لكل مسلم».
ومنها: بيان تحريم القدوم على البلدة التي وقع بها الطاعون، فلا يَحِلُّ لمن كان خارجها أن يقدم إليها، وتحريم الخروج من البلدة التي وقع فيها، فلا يَحِلُّ لمن كان بها أن يخرج منها فرارًا منه؛ لأنه فرار من القدر، ولئلا تضيع المرضى بعدم مَنْ يتفقَّدُهم، والموتى بعدم مَنْ يُجهِّزُهم، فالأَوَّل تأديب، وتعليم، والثاني تفويض، وتسليم.
وقيل: هو تعبديٌّ؛ لأن الفرار من المهالك مأمور به، وقد نهي عن هذا، فهو لسرٍّ فيه لا يعلم معناه.
ومنها: الاحتراز من المكاره وأسبابها، والتَّسليم لقضاء الله تعالى عند حلول الآفات، والله تعالى أعلم.
ومنها: بيان جواز الخروج لغرض آخر غير الفرار، سواء كان تجارة، أو طلب علم، أو حاجة أخرى....
ومنها: الاحتراز من المكاره، وأسبابها، وفيه التَّسليم لقضاء الله عند حلول الآفات... البحر المحيط الثجاج (36/ 291-294).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)