سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ فقراء المهاجرين يسبقون الأَغنياء يوم القيامة إلى الجنَّة بأربعين خريفًا».
رواه مسلم برقم: (2979)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-ـ
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«خريفًا»:
الخريف: الزمان المعروف مِن فصول السَّنة ما بين الصيف والشتاء، ويريد به أربعين سَنة؛ لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى أربعون خريفًا فقد مضت أربعون سنة. النهاية، لابن الأثير (2/ 24).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء» أي: من المهاجرين، فغيرهم بالأَولى ولذا أطلق الأغنياء، وعلى هذا يُقاس فقراء كل طائفة من أهل زمان ومكان أغنيائهم. مرقاة المفاتيح (8/ 3276).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إن فقراء المهاجرين..» من أرض الكفر إلى غيرها فرارًا بدينهم «يسبقون الأغنياء» أي: منهم ومن غيرهم. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 323).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء» من المهاجرين وغيرهم بالأَولى، وإلا فإنه يأتي الحديث الثاني بلفظ: «أغنيائهم» فتعود إلى أغنياء المهاجرين. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 15).
وقال مكي بن أبي طالب -رحمه الله-:
مَعناهُ الفقراء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخلون الجنة قبل الأغنياء مِن غير أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لِفضل الصَحابة لا للفقر. الهداية إلى بلوغ النهاية (2/١٤٣٨).
قوله: «يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا»:
قال الدهلوي -رحمه الله-:
والمراد بالخريف: العام؛ لأن العرب يبتدئون العام بالخريف؛ سمي خريفًا لأنه تُخرف فيه الثمار، أي: تُجتنى. لمعات التنقيح (8/ 457).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يوم القيامة إلى الجنّة بأربعين خريفًا» الخريف أحد فصول السَّنة، يُطلق على السَّنة مجازًا من إطلاق الجزء على الكل. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 15).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
(و) المعنى: بمقدار أربعين سَنة من أعوام الدنيا أو الأخرى، مع احتمال أن يراد بها الكثرة، ويختلف باختلاف أحوال الفقراء والأغنياء في الكمية والكيفية المعتبرة، وخلاصته أنّ الفقراء في تلك المدة لهم حُسن العيش في العقبى؛ مجازاة لما فاتهم من التنعُّم في الدنيا كما قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الحاقة: 24، أي: الماضية أو الخالية عن المأكل والمشرب صيامًا أو وقت المجاعة، وقد ورد على ما سبق أن أطول الناس جوعًا يوم القيامة أطولهم شبعًا في الدنيا، يؤيد ما ذكرناه من تفاوت المراتب: أنه جاء في رواية ابن ماجه عن أبي سعيد بلفظ: «إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار خمسمائة سنة». مرقاة المفاتيح (8/ 3276).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
ظاهر الحديث يدل على تخصيص هذا الحُكم بالفقراء من المهاجرين والأغنياء منهم، وقد دلَّ بعض الأحاديث على إطلاقه وعلى كون القبلية بخمسمائة عام، ولعل ذلك في غير المهاجرين من الأصحاب، وبهذا يندفع المنافاة بين هذا الحديث وبين حديث أبي هريرة: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام»، ففقراء المهاجرين يتقدمون على أغنيائهم بأربعين عامًا؛ لأن بعض أغنياء المهاجرين كانوا من فضلاء الصحابة وأكابرهم، بل أفضل من الفقراء، كالذين هُم من العشرة، وعلى غير المهاجرين من الأغنياء يتقدمون بخمسمائة، سواء كان الفقراء من المهاجرين أو من غيرهم، ومن الأصحاب ومن غيرهم.
وقيل: إن الفقراء الذين في قلوبهم ميل ورغبة إلى الدنيا يتقدمون على الأغنياء بأربعين، والزهَّاد من الفقراء يتقدمون بخمسمائة، فتدبر. لمعات التنقيح(8/ 457).
وقال العلقمي -رحمه الله-:
وهذا (أي: حديث: «بأربعين خريفًا») لا تَعَارض بينه وبين قوله في الخبر: «بخمسمائة سنة»؛ لاختلاف مدة السَّبْق باختلاف أحوال الفقراء والأغنياء، فمنهم سابِقٌ بأربعين، ومنهم بخمسمائة، كما يتفاوت مُكْث عُصاة الموحِّدين في النار باختلاف جرائمهم، وهذا كما ترى أعم وأفضل من تفريق البعض: بأنَّ الفقير الحريص يتقدَّم على الغني بأربعين سنة، والزاهد بخمسمائة سنة، أو أراد بالأربعين التكثير لا التحديد، أو أنَّ خبر الخمسمائة متأخِّر، ويكون الشارع زاد في زمن سَبْقِ الدخول؛ ترغيبًا في الصبر على الفقر.
لكن ينبغي أنْ تعلم أنَّ سَبْقَ الدخول لا يستلزم رفع المنزلة، فقد يكون بعض المتأخرين أرفع درجة من السابقين، يرشد إليه أنَّ ممن يُحاسَب أفضل من الألف الداخلين بغير حساب، فالمزية مزيتان: مزية سَبْقٍ، ومزية رِفْعَة، وقد تجتمعان، وقد تنفردان، ويحصل لواحدٍ السَّبْقُ والرفعة، ويعدمهما آخر، ويحصل لآخر واحد فقط، بحسب المقتضى. الكوكب المنير شرح الجامع الصغير(ص: 21).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا» هذا الحديث اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فروى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- الحديث المتقدم، وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام» قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ويروى أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يدخل الفقراء الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، نصف يوم» قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي طريق أخرى: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام» وقال: حديث حسن صحيح، وروي أيضًا عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا» قال: هذا حديث حسن صحيح، فاختلفت هذه الأحاديث في أيِّ الفقراء هم السابقون؟ وفي مقدار المدة التي بها يسبقون، فهذان موضعان، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يُرَدَّ مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيّد روايته الأخرى، ورواية جابر -رضي الله عنه-، فيعني بالفقراء: فقراء المسلمين، وحينئذٍ يكون حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي سعيد مخصوصًا بفقراء المهاجرين، وحديث أبي هريرة وجابر يعمّ جميع فقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور، وهذه طريقة حسنة، ونزيدها وضوحًا بما قد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، يُسْأَلون عن فضول أموال كانت بأيديهم» وهذا واضح، وأما الموضع الثاني فقد تقدم أن الخريف هو العام هنا، وأصل الخريف: فصل من فصول السنة، وهو الفصل الذي تُخترف فيه الثمار، أي: تُجتنى، فسمي العام بذلك، ويمكن الجمع بين الأربعين وحديث الخمسمائة عام؛ بأن سُبّاق الفقراء يدخلون قبل سُبّاق الأغنياء بأربعين عامًا، وغير سُبّاق الأغنياء بخمسمائة عام؛ إذ في كل صنف من الفريقين سُبّاق، والله أعلم.
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن قلتَ يأتي: «أنهم يدخلون الجنّة قبلهم بخمسمائة عام»؟
قلتُ: هذا في سبقهم، ولا يستلزم الدخول؛ لجواز أن يُراد أنه يحكم لهم أنهم من أهل الجنّة قبل الأغنياء بذلك المقدار، ويكون الدخول من بعده، أو يراد سبقهم: تقدُّمهم إلى بابها خالصين عن المحشر والصراط، فيكون السبق مقدرًا بالأربعين، وأما الدخول فبما يأتي، أو أن الحكم في هذا على طائفة من الفقراء وفي الآخر على آخرين. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 15).
وقال المنذري -رحمه الله-:
وقد أخرج الترمذي (2353) وابن ماجه (4122) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، نصف يوم» وقال الترمذي: حسن صحيح، وفي لفظ الترمذي: «يدخل فقراء المسلمين»، ولفظ ابن ماجه: «فقراء المؤمنين»، وأخرج مسلم (2979) في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خَريفًا».
فيُجمع بينهما: بأن فقراء المهاجرين يسبقون إلى الجنة قبل فقراء المسلمين بهذه المدة؛ لما لهُم من فضل الهجرة، وكونهم تركوا أموالهم بمكة رغبة فيما عند اللَّه -عز وجل-، وقد أخرج الترمذي (2351) وابن ماجه (4123): «أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام»، وأخرج الترمذي (2355): «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا»، غير أن هذين الحديثين لا يثبتان. مختصر سنن أبي داود (2/ 537- 538).
وقال محب الدين الطبري -رحمه الله- مُتعقِّبًا المنذري:
قلتُ: وفيما ذكره نظر، فإنَّ الحديث مُصرِّح بدخول الفقراء قبل الأغنياء، كيف يصح تأوُّله على الفقراء؟ وإنما يجمع بينهما بما لا يمكن أنْ يُدافَع؛ بأنْ يُحمل الأغنياء في حديث مسلم على أغنياء المهاجرين، ونقول: فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا؛ لفضل الهجرة، وكذلك فقراء غيرهم، وبل أولى، ويدخل الفقراء من المهاجرين ومن غيرهم قبل الأغنياء من المهاجرين بخمسمائة عام.
فإنْ قيل: فقد أخرج الترمذي وابن ماجه: «إنَّ فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام»، وأخرج الترمذي أيضًا «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا»، قلنا: قال الحافظ المنذري: هذان الحديثان لا يَثْبُتَان، قلتُ: ولو ثَبَتَا أمكن الجمع بينهما؛ بأنْ يُحمل ذلك على اختلاف مراتب الغِنى والشُّكر، والفقر والصبر عليه، فيدخل بعض فقراء المهاجرين قبل أغنيائهم بأربعين، وقبل بعضهم بخمسمائة، وكذلك فقراء المسلمين مع أغنيائهم، ولا يخفى تنزيل ذلك على الأحوال، والله أعلم. غاية الأحكام (4/181-182).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وإنَّما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم؛ لعدم فضول الأموال التي يحاسَبون على مخارجها ومصارفها، فمن لم يكن له فضلٌ كان من هؤلاء، وإن لم يكن مِن أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا مُحْسِنِين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدَّم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. مجموع الفتاوى (11/ 69).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ولعل سبب تقدم الفقراء إلى الجنة ما عانَوْه أي: ذاقوه في الدنيا من المتاعب والمضايق وشدائد الفقر، وسبب تأخر الأغنياء عنهم في الدخول أنه يطُوْلُ حسابهم بحسب ما أوتوا في الدنيا من النعم والزخارف، ولأن الغنى ربما يوقِع الإنسان في الآثام والذنوب من الفخر والعُجب والخيلاء أعاذنا الله تعالى منها. الكوكب الوهاج (26/ 388).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وإنَّما دخلوا قبل الأغنياء؛ لأن الأغنياءَ وَقَفُوا في العَرصات للحساب، ويُسألون عن جهة تحصيل الأموال، وكيفية صرفها. شرح المصابيح (3/ 55).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
يدخل في هذا: الفقير الذي لا يملك شيئًا، والمسكين الذي يملك شيئًا ولكن لا يملك تمام كفايته، إذا كانوا مؤمنين غير مرتكبين شيئًا من الكبائِر، ولا مُصِرِّينَ على شيء من الصَّغائِر، ويشْتَرط في ذلك: أنْ يكونا صابرَين على الفقر والمسكنة، راضِيَيْنِ بهما، والله أعلم. فتاوى ابن الصلاح (1/ 161).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
والمراد بـالفقراء: الصابرون الصالحون، وبالأغنياء: الأغنياء الشاكرون المؤدُّون حقوقَ أموالهم. شرح المصابيح (3/ 55).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا فيما إذا تساوى المؤمن الغني والفقير؛ فإن الله يَجْبُرُ هذا الفقير الذي لم يتنعم في الدُّنيا بما تنعّم به الغني فيقدِّمه على الغني في دخول الجنة، أما إذا كان الغني عنده من الأعمال الصالحة ما يفوق الفقير فالظاهر -والله أعلم- أن الغني يسبق الفقير بحسب سبقه للعمل الصالح، ويكون هذا الحديث مقيَّدًا بما إذا تساوى الغني والفقير، أو يقال: إن هؤلاء يسبقون الأغنياء دخولًا، ولكن الأغنياء إذا دخلوا الجنة صاروا في منازلهم التي يستحقونها، وكانوا فوق الفقراء إذا كانوا يستحقون منزلة فوق الفقراء، والجنة درجات {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} الأنعام:132.لقاء الباب المفتوح، لقاء رقم:(28).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وإنما اختلف العلماء أيهما أفضل: الغنى أم الفقر؟ واحتجَّت كل طائفة بحجج، منها: الحديث الذى جاء في هذا الموضع من دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء، وغير ذلك... وقد رأيتُ لبعض مَن نصر الغنى من الشارحين -وهو أبو القاسم بن أبي صفرة- أنه لا فضيلة في السبق إلى الجنة المذكورة في هذا الحديث، وإنما الفضيلة في درجاتها، واحتجَّ بدخول هؤلاء وغيرهم ممن جاء في الحديث -الجنة والنبي بعد في الشفاعة- قال: ولا بشر أفضل من محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد سبقه هؤلاء بدخول الجنة، قال: وكذلك مَن ذكر من المؤمنين والشهداء وغيرهم ممن يشفع.
وهذا مما لا أساعده عليه؛ لأنه لم يرد نصٌّ بسبقهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- لدخول الجنة، بل في نص الحديث: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أول مَن يُفتح له باب الجنة؛ وأن الخازن يقول له: بذلك أُمرتُ ألا أفتح لأحد قبلك»، فأين هذا مما قاله؟!
وقد يجمع بين هذا وبين ما جاء فيمَن ينطلق به إلى الجنة في الموقف، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الشفاعة وغير ذلك مما جاء في الحديث: أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم يُدخلهم ويستفتح لهم ويدخل معهم، ثم يرجع إلى شفاعته، وهو في ذلك في الجنة، كما جاء في الحديث: «أَدْخِلِ الجنة من أُمَّتِك من الباب الأيمن مَن لا حساب عليه»، فانظر كيف جاء أدخلهم مع أن ما فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من لذة الحظوة وبلوغ الأمل في الشفاعة والقرب من الله تعالى والنظر إليه ألذ من كل نعيم.
ويحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة ينعمون في أفنيتها وظلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد -صلى الله عليه وسلم- الجنة بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم، والله أعلم. إكمال المعلم (8/ 527- 528).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذه الأحاديث حُجة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى، ويتقرر ذلك من وجهين:
أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا لجبر كسر قلوب الفقراء، ويهوِّن عليهم ما يجدونه من مرارة الفقر وشدائده، بمزية تحصل لهم في الدار الآخرة على الأغنياء؛ عوضًا لهم عمّا حرموه من الدنيا، وصبرهم، ورضاهم بذلك.
وثانيهما: أن السبق إلى الجنة ونعيمها أولى من التأخر عنها بالضرورة، فهو أفضل.
وثالثها: أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة والصراط، أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة، فالسابق إلى ذلك أفضل بالضرورة، وحينئذٍ لا يلتفت لقول مَن قال: "إن السبق إلى الجنة لا يدل على أفضلية السابق"، وزخرف ذلك: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخليقة، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخر عن دخول هؤلاء الفقراء؛ لأنهم يدخلون قبله، وهو في أرض القيامة؛ تارة عند الميزان وتارة عند الصراط وتارة عند الحوض، كما قد أخبر عن ذلك فيما صح عنه، وهذا قول باطل صدر عمَّن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل، فكأنه لم يسمع ما تقدم في كتاب الإيمان من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول مَن يقرع باب الجنة، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول الخازن: بك أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك»، وفي حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أول مَن يدخل الجنة، ومعي فقراء المهاجرين»، وعلى هذا فيدخل الجنة، ويتسلم ما أعد له فيها، ويُبوِّئ الفقراء منازلهم، ثم يرجع إلى أرض القيامة؛ ليخلص أُمَّته بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنو على أُمَّته والشفقة عليهم، والرأفة بهم، فيلازمهم في أوقات شدائدهم، ويسعى بمكنه في نجاتهم، فيحضرهم عند وزن أعمالهم، ويسقيهم عند ظمئهم، ويدعو لهم بالسلامة عند جوازهم، ويشفع لمن دخل النار منهم، وهو مع ذلك كله في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القرب من الحق، والجاه الذي لم ينله أحد غيره من الخلق، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه الحكيم بألطف خطاب وأكرم تكليم، كيف لا، وهو يسمع: «يا محمد قل يُسمع لك، سل تُعطَ، اشفع تشفع، فيقول: أُمَّتي! أُمَّتي! أُمَّتي، فيقال: انطلق فأدخل الجنة من أُمَّتك مَن لا حساب عليه من الباب الأيمن»، وهذه خطوة لا تتسع لها العبارات، ولا تحيط بها الإشارات، حشرنا الله في زمرته، ولا خيبنا من شفاعته. المفهم (7/ 133- 136).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)