«أسْفِرُوا بالفجرِ، فإنه أعظمُ للأجرِ».
رواه أحمد برقم: (17286)، وأبو داود برقم: (424)، والترمذي برقم: (154) واللفظ له، والنسائي برقم: (548)، وابن ماجه برقم: (672)، من حديث رافع بن خَدِيج -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (970)، مشكاة المصابيح برقم: (614)، إرواء الغليل برقم: (258).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أسْفِرُوا»:
أسْفَرَ الصبحُ يُسفِر إسْفَارًا: إذا أضاءَ وانتشَر ضَوؤه. الشافي في شرح مسند الشافعي، لابن الأثير(1/371).
شرح الحديث
قوله: «أَسْفِروا بالفجر»:
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«أَسْفِروا بالفجر» أي: أخِّرُوا صلاة الفجر، وهي الصُّبح إلى أنْ يتحقَّق طلوع الفجر، ولا تُبادِرُوا بها عند ظنِّ طلوعه، فإنَّ ذلك أعظم لأجوركم؛ إذ الصلاة بعد تيقُّنِ دخول الوقت أفضل منها عند ظنِّه. فتح الإله في شرح المشكاة (3/78).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أسفروا بالفجر» أي: صلُّوها في وقت الإسفار. مرقاة المفاتيح (2/536).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أسفروا بالفجر» بصلاته أو بالنداء الثاني. التنوير شرح الجامع الصغير (2/361).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أسفروا بالفجر» أي: صلاة الفجر في وقت الإسفار، وهو إضاءة الصبح وذهاب الظُّلمة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/33).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
أي: طوِّلوا صلاة الفجر، وأمدِّوها إلى الإسفار، فإنه أوفق للأحاديث الصحيحة الواردة بالتَّغليس والتعجيل فيه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/241).
وقال محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
«أَسْفِرُوا» من الإسفار: وهو: التأخير حتى يدخل في وقت الإسفار، أو التَّأني بالصلاة حتى يتَّضِح الفجر، وأسفر الفجر: إذا اتَّضح وأضاء نوره للناس.، قيل: إنه لَمَّا أمرهم بالتَّغليس خاف أن يحملهم حبُّ التَّغليس على أن يُصَلُّوا قبل أن يتَّضِح لهم الفجر الصادق؛ لأنه كما تقدَّم فجران: كاذب وصادق. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (4/1201).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
الأمر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أسفروا بالفجر» للندب على الأقوال كلها (أي: في معنى هذا الحديث) على حسب الاختلاف، واختيار كل ذي قول. الأزهار شرح مصابيح السنة، مخطوط، لوح (123).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
الإسفار المأمور به هو الإسفار بها استدامةً وتطويلًا لا ابتداء، وهذه أصحُّ الطرق، ولا يجوز حمل الحديث على غيرها؛ إذ من المحال أن يكون تأخيرها إلى وقت الإسفار أفضل وأعظم للأجر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يواظب على خلافه هو وخلفاؤه الراشدون من بعده، وتفسير هذا الحديث يؤخذ من فعله وفعل خلفائه وأصحابه، فإنهم كانوا يُسفِرُون باستدامتها لا بابتدائها، وهو حقيقة اللفظ، فإن قوله: «أسفروا بها» الباء للمصاحبة، أي: أطيلوها إلى وقت الإسفار، وفَهم هذا المعنى من اللفظ أقوى من فَهمِ معنى آخر احتمالًا مساويًا لم يَجُزْ حمله على المعنى المخالف لعمله وعمل خلفائه الراشدين، والله أعلم. بدائع الفوائد (4/ 89-90).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قلتُ: أحسن الأجوبة وأسلمها وأولاها ما قاله الإمام ابن القيم بأن المراد الإسفار دوامًا لا ابتداء، والله أعلم. مرعاة المفاتيح (2/323).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
وعندي أن هذا التعليل يقوّي تأويل الطحاوي ومَنْ وافقه، ويشهد له ما ثبت من تطويل النبي -صلى الله عليه وسلم- للصلاة في الصبح، ويقوي هذا: الأثر الوارد عن أبي بكر أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة البقرة في الركعتين، فقال له عمر: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، ونحوه عن أنس عن أبي بكر: أنه قرأ فيهما بآل عمران، فقيل له: فأجاب بمثل ذلك. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (4/1201-1202).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أَولى ما يُجمع به بين الأحاديث في هذا الباب هو حمل الإسفار على مدِّ الصلاة إلى الإسفار، مبتدءًا بالغلس؛ فتفطَّنْ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (7/246).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
فالذي ينبغي: الدخول في الفجر في وقت التَّغليس، والخروج منها في وقت الإسفار، على موافقة ما روِّينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله تعالى-. شرح معاني الآثار (1/ 184).
وقال ابن بطال -رحمه الله- مُتعقِّبًا للطحاوي:
وزعم الطحاوي بأن آثار هذا الباب إنما تتفق بأن يكون دخوله -عليه السلام- في صلاة الصبح مُغلِّسًا، ثم يطيل القراءة حتى ينصرف منها مُسفِرًا، وهذا فاسد من قوله لمخالفته قول عائشةَ؛ لأنها حكت أن انصرافَهُنَّ من الصلاة كان ولا يعرفن من الغلس، وروى حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن عَمرةَ، عن عائشةَ قالت: «كنّا نصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم¬- صلاة الفجر في مروطنا فننصرف، وما يَعرَفُ بعضنا وجوه بعض»، فبان بهذا الحديث أن النساء كُنَّ لا يُعرفْنَ أرجال هُنَّ أم نساء؟ فإنهن كُنَّ يُسْرِعْنَ الانصراف عند الفراغ من الصلاة، ويدلُّ أن الإمام لا يطيل القراءة جدًّا، ولو أطالها لَمَا انصرفن إلا في الإسفار البيّن. شرح صحيح البخاري (2/ 201).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
وقال البهكلي (هو عبد الرحمن بن أحمد الضمدي) في شرح النسائي: وقد جمع بعضهم بتعدد القصة، فتارة فعل التَّغليس، وتارة فعل الإسفار.
وها هنا وجه آخر يتمشى على القواعد الأصولية، وهي أن الخطاب الخاص بالأمة لا يعارضه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالأمر للأمة بالإسفار لا يشمل النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ظاهرًا ولا نصًّا، فيكون فعله التَّغليس ومداومته عليه لا يقدح في أحاديث الإسفار للأمة، إلا أن هذا يتمُّ لو كان التَّغليس من خصائصه، ولم يفعله معه الصحابة.
أمَّا والحال أن الصحابة فعلوه معه وبعده، فلا يتمُّ لنا الجمع بهذه القاعدة، فلا بُدَّ من التأويل الذي جنح إليه الطحاوي، أو بتعدد القصة، أو بالتفرقة باعتبار الأوقات، كما في حديث معاذ بن جبل: «بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فقال: يا معاذ، إذا كان في الشتاء فغلِّسْ بالفجر، وأطل القراءة قَدْرَ ما يطيق الناس، ولا تُمِلَّهم، وإذا كان الصيف فأسفر بالفجر؛ فإن الليل قصير والناس ينامون، فأمهلهم حتى يدركوا» رواه الحسين بن مسعود البغوي في شرح السنة، وأخرجه بقي بن مخلد في مسنده، والمصنف (يعني: أبا دواد) وأخرجه أبو نعيم في الحلية، فهذا يكون وجهًا للجمع بأن التَّغليس في الشتاء والإسفار في الصيف. بذل المجهود (3/96).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» فإنه حديث صحيح، لكن قد استفاض عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنه كان يُغلِّس بالفجر حتى كانت تنصرف نساء المؤمنات متلفعات (يعني: مشتملات) بمروطهن (والمروط: أكسية من صوف رقاق) ما يعرفهن أحد من الغلس»، فلهذا فسَّرُوا ذلك الحديث بوجهين:
أحدهما: أنه أراد الإسفار بالخروج منها؛ أي: أطيلوا القراءة حتى تخرجوا منها مسفرين، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ فيها بالستين آية إلى مائة آية نحو نصف حزب.
والوجه الثاني: أنه أراد أن يتبيّن الفجر ويظهر فلا يصلي مع غلبة الظنِّ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعد التَّبيُّن إلا يوم مزدلفة فإنه قدَّمها ذلك اليوم على عادته، والله أعلم. مجموع الفتاوى (22/ 97-98).
قوله: «فإنه أعظم للأجر»:
قال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فإنه» أي: الإسفار بالفجر. تحفة الأحوذي (1/406).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أعظم للأجر» وذلك بأن تؤخِّروها إلى تحقُّقِ طلوع الفجر الثاني وإضاءته، أو أسفروا بالخروج منها على ما تقرَّرَ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/152).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإنه أعظم للأجر» فبهذا ذهب أبو حنيفة إلى أن الإسفار بالفجر أفضل. شرح مصابيح السنة (1/384).
وقال محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
والتعليل بقوله: «أعظم للأجر» استشكله بعضهم على تفسير أن المراد التَّثبُّت من الوقت؛ لأنه إذا صلى قبل الوقت لا يكون له أجر قليل ولا عظيم، وقد يُجاب (عن) ذلك بأنه قد يجتهد فيظنُّ الفجر قد طلع، والمجتهد له الأجر وإن أخطأ، لكن أجر إصابة الواقع في نفسي أعظم، أو أن التأخير قليلًا يزيد من الجماعة، ولا يخلو من نظر. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (4/1201-1202).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه دليل على أن الإسفار ليس بواجب، بل هو أفضل. التنوير شرح الجامع الصغير (2/361).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
والحديث يقتضي بلفظة (أفعل) فيه: أن ثمَّ أجرين: أحدهما أكمل من الآخر، فإن صيغة (أفعل) تقتضي المشاركة في الأصل، مع الرُّجحان لأحد الطرفين حقيقة، وقد تَرِدُ من غير اشتراك في الأصل قليلًا على وجه المجاز، فيمكن أن يُحمل عليه ويرجَّح، وإن كان تأويلًا بالعمل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من الخلفاء. إحكام الإحكام (1/167).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
والحديث تمسّك بظاهره الإِمام أبو حنيفة ومن وافقه من أصحابه والثوري، وأكثر أهل العراق: أن الإسفار أفضل من التَّغليس، ونُسب ذلك إلى علي وابن مسعود، قالوا: لأن الإسفار يؤدي إلى كثرة الجماعة، ويتَّسِعُ به الوقت لصلاة الركعتين قبلها.
وذهب جمهور فقهاء الإِسلام وأهل الحديث إلى أن التَّغليس أفضل؛ للأحاديث الدالة عليه وكثرة فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأما كون التأخير يكثِّرُ الجماعة، ويُمكِّن من فعل السنة فهذا عِلَّةٌ تَطَّرِدُ في كل صلاة، ولو اعتبرناها وجب ردُّنا للأحاديث الكثيرة الدالة على فضيلة أول الوقت، ومواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك وخلفاؤه الراشدون، وإنكار الصحابة علي بني أمية في تأخيرها، وهذا شيء لا يسوغ ردُّه بمثل ما ذكر، لا من هذا الحديث المحتمل لأكثر من وجهين كما تقدَّم، ولا بتلك التعليلات أيضًا -والله الموفِّق للصواب- بل الواجب حمله على معنى لا يخالف السُّنَّة الصحيحة. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (4/1202).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
التَّغليس أفضل إذا لم يكن ثَمَّ سبب يقتضي التَّأخير، فإن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تُبيَّن أنه كان يُغَلِّس بصلاة الفجر، كما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لقد كان رسول -صلى الله عليه وسلم- يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس»، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في مسجده قناديل، كما في الصحيحين عن أبي برزةَ الأسلمي: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى المائة، وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه»، وهذه القراءة هي نحو نصف جزء أو ثلث جزء، «وكان فراغه من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه»، وهكذا في الصحيح من غير هذا الوجه أنه كان يُغَلِّس بالفجر، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكان بعده أمراء يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، فنشأ في دولتهم فقهاء رأوا عادتهم، فظنُّوا أن تأخير الفجر والعصر أفضل من تقديمها؛ وذلك غلط في السُّنَّة، واحتجوا بما رواه الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر»، وقد صححه الترمذي، وهذا الحديث لو كان معارضًا لم يقاومها؛ لأن تلك في الصحيحين، وهي مشهورة مستفيضة، والخبر الواحد إذا خالف المشهور المستفيض كان شاذًّا، وقد يكون منسوخًا؛ لأن التَّغليس هو فعله حتى مات، وفعل الخلفاء الراشدين بعده. مجموع الفتاوى (22/95-96).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
وهو (أي: التَّغليس) الذي اختاره غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم: أبو بكر، وعمر، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، يستحبُّون التَّغليس بصلاة الفجر. سنن الترمذي (1/287).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
لا شك في أن أحاديث التَّغليس أكثر وأصحُّ وأقوى من أحاديث الإسفار، ومذهب أكثر أهل العلم أن التَّغليس هو الأفضل، فهو الأفضل والأَوْلَى. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (5/28).