«إنه ليُغانُ على قلبي، وإِني لأستغفرُ اللهَ، في اليومِ مائةَ مرةٍ».
رواه مسلم برقم: (2702)، من حديث الأغر المزني -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ليَغان»:
أي: يُلْبَس ويُغطَّى. مطالع الأنوار، لابن قرقول (5/176).
وقال الحميدي -رحمه الله-:
أي: يغشى القلب ما يُغطيه، يقال: غينت السماء غينًا، أي: أطبق الغيم عليها وغطَّاها، والغيم والغين واحد. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 238).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «يُغَان» معناه: يغطي ويُلَبِّس على قلبي، وأصله من الغَيْن، وهو الغطاء، وكل حائل بينك وبين شيء فهو غين؛ ولذلك قيل للغيم: غين. معالم السنن (1/295).
شرح الحديث
قوله: «إنه ليغان على قلبي»:
قال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
«إنه ليُغَان» أن المراد بالغين شيء يغشى القلب، ولا يُغطِّيه كل التغطية. النفح الشذي (4/431).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«إنه ليُغَان على قلبي» أي: يُطبِقُ على قلبي إطباق الغين، وهو الغيم، يقال: غِيْنَت السماء تُغَان، والجار والمجرور في محل الرفع لإسناد الفعل إليه.
والمعنى: إنه ليُغْشَى على قلبي ما لا يخلو البشر عنه من سهو، أو التفات إلى حظوظ النفس من مأكول ومنكوح ونحو ذلك، فإنه يكون كحجاب وغيم يُطْبِقُ على قلبه، فيَحُولُ بينه وبين الملأ الأعلى حيلولةً تصدُّهُ عن تلقي الوحي، ومشاهدة جَنَابِ القُدُس، حسبما كان له في سائر أوقاته التي أشار إليها بقوله: «لي مع الله وقت»، فيستغفر الله تصفيةً وتجليةً للقلب، وإزاحةً للغاشية، وكشفًا للحجاب العارض.
وهو وإن لم يكن ذنبًا، لكنه -من حيث إنه بالنسبة إلى سائر أحواله نقص وهبوط إلى حضيض البشرية، والتفات إلى عالم الزور- يُشْبِهُ الذنب، فيناسب الاستغفار. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/68).
وقال النووي -رحمه الله-:
والمراد هنا ما يتغشَّى القلب. شرح صحيح مسلم (17/23).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ولا يُظنُّ أن أحدًا قال: إن قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- تأثر بسبب ذنب وقع منه بغَيْن أو رَيْن، أو طُبِعَ عليه، فإن من جوَّز الصغائر على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لم يقل: إنها إذا وقعت منهم أثَّرت في قلوبهم كما تؤثِّر الذنوب في قلوب العصاة، بل: هم مغفور لهم ومكرَّمُون، وغيرُ مؤاخذين بشيء من ذلك، فثبت بهذا أن ذلك الغين ليس هو بسبب ذنب. المفهم (7/26).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
(و) قيل: ذلك عبارة عن الفترات والغفلات عن الذِّكْرِ الذي كان دأبه فيستغفر منه؛ إذ كان أبدًا فيمن يُدمن ذلك، فرأى الغفلة عنه ذنبًا.
وقيل: ذلك الغَيْن همُّه بسبب أُمَّتِهِ، وما اطلع عليه من أحوالها بعده حتى يستغفر لهم.
وقيل: إن ذلك لِمَا يَشْغَلُه عن عظيم مقامه من النَّظر في أمور أُمَّتِه ومصالحهم، ومجابهة عدوِّه، ومداراتهم للاستئلاف، فيرى شغله لذلك -وإن كان من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال- نزولًا عن عليِّ درجته، ورفيعِ مقامه، من حضوره بهمِّه كُلِّه مع الله، ومشاهدته عنده، وفراغه عن غيره إليه، وخُلُوصِه له عمن سواه، فيستغفر لذلك.
وقيل: قد يكون هذا الغَيْن السَّكينةُ التي تغشى قلبه؛ لقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} التوبة: 40، واستغفارُه إظهارٌ للعبودية والافتقار وملازمة الخضوع؛ شكرًا لما أولاه به.
قال المحاسبي: خوف الملائكة والأنبياء خوفُ إعظامٍ، وإن كانوا آمنين من عذاب الله.
وقيل: يَحْتمِلُ أن يكون حال خشيةٍ وإعظامٍ يغشى القلب، ويكون استغفارُه هذا على ما تقدَّم شكرًا وإعظامًا، ولا يُعْتقَدَ أن استغفاره لأجل الغين، بل ذِكْرُ الغين قصةٌ، والاستغفار أخرى غير مرتبطة بها، وعليه يدلُّ حديث مسلم: «إني ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله»، كما قال في الحديث الآخر: «أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» وكما كان يقول في سجوده: «أستغفرك وأتوب إليك» يتأول القرآن، وعلى مَنْ يُجيزُ الصغائر على الأنبياء، فيجعل استغفاره لِمَا عساه يتوقعه أن يجري على لسانه أو جوارحه فيها، وإن كان -عليه السلام- قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فاستغفاره لذلك شكرٌ لله وإعظامٌ لجلاله كما تقدَّم.
وقيل: هو شيء يعتري القلوب الصافية مما يَحدِثُ في النفس من اللمَّم (وهي صغائر الذنوب) وحديثها، أو الغفلة فيشوِّشها. إكمال المعلم (8/197-198).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
وفيه وجه وجيه: وهو أنَّ استغفاره -صلى الله عليه وسلم- هذا كان لِمَا يرتكب في بعض الأحيان الأفعال التي ليست بأولى؛ بيانًا للجواز، ونفيًا للحُرمة، كما لا يخفى في كثير من أفعاله -صلى الله عليه وسلم-، لكن يَرِدُ على هذا أن أعماله هذه لَمْ تكُ إلا بأمرهِ تعالى، فإن ذلك كان من أفعال النبوة التي لا بُدَّ منها، فكيف الاستغفار؟ لكن الأمر في ذلك السؤال والجواب سهل، فتدبَّرْ. الكوكب الدري على جامع الترمذي (1/ 292-293).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
وقيل: قد يكون هذا الغين: السَّكِينة التي تُغشى قلبه؛ لقوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} الفتح: 26، واستغفاره لها إظهارًا للعبودية والافتقار، ويحتمل أن يكون حالة خشية وإعظامًا يغشى القلب، واستغفاره شكرًا لله وملازمةً للعبودية، كما قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟». مطالع الأنوار على صحاح الآثار (5/ 177).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي أن هذه الأقوال كلها تَخرُّصاتٍ، وظُنُونَاتٍ لا تنبني على دليل صحيح، فالحقُّ أن نقول: إن الغين المذكور من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلا الله -عز وجل-، وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يُغان على قلبه، فنصدِّق بذلك، وأما حقيقة ذلك الغَين الذي يُغطي قلبه -صلى الله عليه وسلم- فلم يبيّنه لنا، فلا ينبغي أن نتخرَّص بتعيينه، وما أَحسن ما قال الأصمعي لما سُئل عنه: لو كان قلب غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنت أفسِّره لك، ولكن العرب تزعم أن الغين: الغيم الرقيق...، والحاصل: أن الأَدب في هذا تفويض علم حقيقة الغَيْن إلى العالم الخبير، ثم إلى مَنْ أمدَّهُ الله تعالى بتنزيل وَحْيِهِ المبين. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (42/215).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
المختار: أنَّ هذا من المتشابه الذي لا يُخاضُ في معناه. شرح مسلم (6/ 58).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والحاصل: أنَّ كل أحد فسَّر في مقاله بمقتضى حاله، وفهم معانيه، وتحقيق معانيه، فكل إناء يترشّح بما فيه، ولكن لا يخفى على المحققين أنَّ لا يُقاس الملوك بالحدادين، فكذا لا يقاس أحوال القلب السَّليم بما يجري على القلب السَّقيم، فالأولى أن يُنزَّهَ قلبُه عن الذنوب صورةً ومعنى، ويُؤوَّلُ الاستغفار والتوبة في حقِّه بطريق الإجمال تأويلًا حسنًا. وتفصيل أحواله، وبيان انتقاله من نقصانه إلى كماله يُوكَلُ إلى خالق القلوب، وعلَّام الغيوب...، فالمختار: ما قال بعض الأخيار: من أنَّ المختار أن هذا من المتشابه الذي لا يُخاض في معناه. مرقاة المفاتيح (4/ 1610).
وقال السندي -رحمه الله-:
وحقيقته بالنظر إلى قلب النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- لا ندري، فإن قَدْرَهُ -صلى الله تعالى عليه وسلم- أجلُّ مما يخطر في كثير من الأوهام، فالتفويض في مثله أحسن، نعم القَدْرُ المقصود بالإفهام مفهوم، وهو أنه -صلى الله تعالى عليه وسلم- كان يحصل له حالة داعية إلى الاستغفار فيستغفر كُلّ يوم مائة مرة، فإذا حصل الداعي إلى الاستغفار للنبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- فكيف غيرُه؟ ولا حاجة في فَهم هذا القَدْرِ إلى معرفة حقيقته ذلك الداعي بالتعين، فلا ينبغي البحث عنه. فتح الودود (2/162-163).
قوله: «وإني لأستغفر الله»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وإني لأستغفر الله» أي: أطلب منه الستر، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري: «والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (42/213).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد اسْتُشْكِلَ وقوع الاستغفار من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية.
وأجيب بعدة أجوبة: منها ما تقدَّم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عُصِمُوا من الكبائر فلم يُعصموا من الصغائر، كذا قال، وهو مفرَّعٌ على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضًا، ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لِمَا أعطاهم الله تعالى من المعرفة. فتح الباري (11/101).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقِّبًا:
هكذا قال الحافظ: إن الراجح عصمتهم من الصغائر، لكن الذي عليه المحققون أنهم تقع منهم الصغائر التي لا تَخِلُّ بصدق نبوتهم، لكنهم ليسوا كغيرهم، فلا يُقرُّون عليها، بل يُنبَّهون فورًا، وهذا هو الفرق بينهم وبين غيرهم، وأما ما يَخِلُّ بصدق نبوتهم، ويَنْفُرُ الناس عنهم فلا يقع منهم ولو كان من الصغائر، ككَذِبَةٍ، وسِرْقَةِ لُقْمَةٍ لا قصدًا ولا غلطًا ولا سهوًا. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (42/218).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. مجموع الفتاوى (4/ 319).
قوله: «في اليوم مائة مرّة»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«في كل يوم» وليلة «مائة مرة» يَحتمِلُ: أن تكون هذه المائة مُفرَّقةً في اليوم والليلة.
ويَحتمِلُ: أن يأتي بها في وقت السَّحَر مجتمعة؛ لأن الله تعالى أَثنى على المستغفرين بالأسحار. شرح سنن أبي داود (7/317).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فيَحتمِلُ أن يريد المبالغة، ويَحتمِلُ: أن يريد العدد بعينه.
وقوله: «أكثر» مبهم؛ فيَحتمِلُ: أن يُفسَّر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة. فتح الباري (11/101).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وأراد بالمائة التكثير، فلا تدافع بينه وبين رواية: السبعين («إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»). وقال الحرالي: خصَّ المائة لكمالها في العدد المثلث من الآحاد والعشرات، وعشرها وتر الشفع؛ لأن ما تم في الثالث كان ما زاد عليه تكرار له، يجزئ عنه الثلاث. فيض القدير (3/ 11).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أحسن الأجوبة عندي: أن استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب أداء الشكر؛ لأن الله تعالى غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فإن هذا هو الذي أجاب به النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا سئل عن قيامه حتى تفطَّرتْ قدماه، كما سبق في حديث المغيرة، وعائشة -رضي الله عنهما-، فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» فدلَّ على أن استغفاره من باب القيام بالشكر على ما مَنَّ الله به عليه، وإكرامه له بما لَمْ يكرم به غيره، ومنه مغفرة ما تقدَّم منه وما تأخَّر. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (42/219).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: بيان ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من ملازمة الاستغفار، مع أن الله -سبحانه وتعالى- غفر له ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخَّر، قال الله -عز وجل-: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الفتح: 2.
ومنها: ما كان يَعْتَريه -صلى الله عليه وسلم- مما يدفعه إلى التوبة والاستغفار...
ومنها: أنه ينبغي للعبد ملازمة التوبة والاستغفار في سائر أحواله، ولا يستلزم ذلك وجود الذنب، كما هو حال النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، بل هو في حقِّه من باب الشكر، ودوام المراقبة لله -سبحانه وتعالى-، كما قال في حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: «قام النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدَّم من ذَنبك وما تأخر، قال: أفلا أَكون عبدًا شكورًا» متفق عليه، وعن عائشة -رضي الله عنهما- «أنَّ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدمَاه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذِنبك وما تأخر، قال: أفلا أَحب أن أكون عبدًا شكورًا». متفق عليه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج(42/217).