الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«أنَّ أسماءَ بنت أبي بكر، جاءت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا نبيَّ اللهِ، ليس لي شيءٌ إلَّا ما أَدْخَلَ عليَّ الزُّبيرُ، فهل عليَّ جُناحٌ أنْ أَرْضَخَ مما يُدْخِلُ عليَّ؟ فقال: «ارْضَخِي ما اسْتَطَعْتِ، ولا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عليكِ».


رواه البخاري برقم: (1434)، ومسلم برقم: (1029) واللفظ له، من حديث أسماء -رضي الله عنها-.
وفي لفظ للبخاري برقم: (1433): «لا تُوكِي فَيُوكَى عليك»، و«لا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عليك»


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عليَّ جُنَاح»:
أي: مأثم. الغريبين، لأبي عبيد الهروي (1/ 375).

«أَرْضَخ»:
الرَّضْخ: العطية القليلة. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (2/228).

«لا تُوْعِي»:
أي: لا ‌تَجْمَعي ‌وتَشِحِّي ‌بالنفقة فيُشَحَّ عليك، وتجازي بتضييق رزقك. لسان العرب(15/ 397)
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أي: لا تجمعي في الوعاء إمساكًا وبُخْلًا. كشف المشكل (4/ 451).

«لا تُوكِي»:
أَي: لا تَدَّخِري وتَشُدِّي ما عِندك وتَمْنَعِي ما في يَدكِ فَتَنْقَطِعُ مادَّةُ الرِّزْقِ عنكِ. لسان العرب (15/ 406)

«لا تُحْصِي»:
الإِحْصَاءُ: العَدُّ والحِفْظ. لسان العرب (14/ 184)


شرح الحديث


قوله: «قالت: يا نبي الله، ليس لي شيء إلا ما أدخل عليَّ الزبير»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
تعني: ما يدخل عليها للإنفاق عليها وعلى أهل بيتها. المفهم (3/73).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
أي: ليس لي شيء من المال إلا ما أدخلَه زوجي الزبير في بيته، أفيجوز لي أن أتصدَّقَ منه؟ المنهل العذب(10/18).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والمعنى: ليس لي مال أتصدَّقُ به على المساكين، إلا الذي أعطاني زوجي الزبير قُوْتًا، أو أعمَّ من ذلك. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم (19/540).

قولها: «فهل عليَّ جناح أن أرضخ مما يُدخل عليَّ؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فهل عليَّ جُناح» أي: ذَنب. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (12/112).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الرَّضْخ: العطاء اليسير، والمعنى: فهل عليَّ إثم إذا أعطيتُ من مال الزبير في سبيل الله؟ فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/353).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«أنْ أَرْضَخَ» بفتح الضاد المعجمة، أي: أَعطي قليلًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 32).
وقال المازري -رحمه الله-:
إن كانت إنَّما سألته عن الإعطاء مما يُعطيها الزبير نفقة لها، فبيّن جوازه، وإن كان إنَّما أرادت بقولها: «مما يدخل عليَّ الزبير» أي: مما كان مِلْكًا له، فيكون محمل ذلك على أنه لا يَكْرَهُ ذلك منها، وأنَّها عادة عوَّدُوها أزواجهم. المعلم بفوائد مسلم(2/26).

قولها: «فقال: ارضخي ما استطعتِ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«ارضخي» أي: أُعطي بغير تقدير، ومنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَرْضَخُ للنساء من الغنيمة، ولا يَضْرِبُ لهن بسهم. المفهم(3/73).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«ارضخي» فعل أمر مِن رضخ: إذا أعطى عطاء ليس بالكثير. مصابيح الجامع (3/378).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ارضخي ما استطعتِ» أي: أعطي شيئًا وإن كان يسيرًا. شرح المصابيح (2/ 453).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ارضخي»... الخطاب لأسماء بنت أبي بكر، أي: أنفقي بغير إجحاف ولا إسراف. فيض القدير (1/475).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وإنَّما قال: «ارضخي» لِمَا عَرَفَ من حالها ومَقْدِرَتِها؛ ولأنه لم يكن لها أن تتصرَّفَ في مال زوجها بغير إذنه إلا في الشيء اليسير الذي جرت فيه العادةُ بالتسامح من قبل الأزواج، كالكَسْرَةِ والتَّمرة، والطعام الذي يَفْضُلُ في البيت، ولا يَصْلُحُ للخزن؛ لتسارع الفساد إليه، أو فيما سِيق إليها من نفقتها وحِصَّتِها؛ ولهذا كانت تستفتيه فيما أدخل عليها الزبير. وفي كتاب أبي داود «أن أسماء -رضي الله عنها- قالت: قلتُ: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليس لي من شيء، إلا ما أدخل عليَّ الزبير، فأعطي؟ قال: نعم، ولا تُوْكِي، فيُوكَى عليك». الميسر في شرح مصابيح السنة (2/438).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «ارضخي ما استطعتِ» ليس على ظاهره من ذلك بالأمر بالإرضاخ والتَّوسع فيه جَهْد طاقتها، فهذا لا يؤمر به أحد في مال غيره، وإنَّما يرجع «ما استطعتِ» إلى العدل في ذلك والاحتياط؛ ولذلك جاء بلفظ الرَّضخ الذي يدلَّ عليه -والله أعلم- بأن هذا اللفظ إنَّما جاء في نفقتها من مال الزبير وما أدخل عليها.
وقد يَحتمِلُ أن المراد بذلك: ما مَنحه إياها ووهبه لها؛ لقولها: «ما أدخل عليَّ»، فيكون الحديث على ظاهره بالتَّوسع في العطاء، والله أعلم.
وقيل: قد يكون أَمره بالإرضاخ فيما يخصُّها وأهل بيتها من الإنفاق عليهم، ومثله قوله لهند (زوجة أبي سفيان): «بالمعروف».
وقيل: أعطِ من حظِّك منه، وقد جاء في الحديث في كتاب أبي داود في المرأة التي قالت له: «إنَّا كَلٌّ (أي: من لا يستقل بأمره) على آبائنا وأبنائنا، وأزواجنا، فما يَحِلُّ لنا من أموالهم؟ فقال: الرَّطْب تأكُلْنَه وتُهدينَه»، وهذا -والله أعلم- كان عُرْفًا لهم. إكمال المعلم (3/560).
وقال النووي -رحمه الله-:
«ما استطعتِ» معناه: مما يرضى به الزبير، وتقديره: أن لكِ في الرَّضْخ مراتبَ مباحةً بعضها فوق بعض، وكُلُّها يرضاها الزبير، فافعلي أعلاها أو يكون معناه: ما استطعتِ مما هو مِلْكٌ لكِ. شرح صحيح مسلم (7/ 119).
وقال الكوراني-رحمه الله-:
وإنَّما قيَّده به لتكون نفس المتصدِّقة بذلك طيبة بخلاف الكثير، فإن الشيطان رُبَّما وسوس إليه، وهذا أيضًا يختلف باختلاف الأشخاص؛ ولذلك قيَّده بالاستطاعة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/434).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها، أو مما هو مِلْكُ الزبير، ولا يَكْرَهُ الصدقة منه، بل رضي بها على عادة غالب الناس. شرح صحيح مسلم (7/ 119).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ما استطعتِ» أي: ما قدرتِ عليه وإن كان قليلًا، وأنفقي شيئًا وإن كان يسيرًا، ولا تجعليه حقيرًا، فإنه رُبَّما يكون عند الله كثيرًا، وفي ميزان القبول كبيرًا، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الزلزلة: 7، قال -عز وجل-: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء: 47، وقال -جل عظمته-: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 40. مرقاة المفاتيح (4/1319).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ما استطعتِ» هو خطاب لمؤنَّث أُمِرَ بالإعطاء حسب الاستطاعة.
وفيه إرشاد إلى أنها لا تَبْسُطْ كُلَّ البسط. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 285).

قوله: «ولا توعي فيوعي الله عليك»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «ولا تُوْعِي فيُوْعِي الله عليك» وفي الرواية الأخرى: «ولا تُحْصِي فيُحْصِي الله عليك»، وفي غير مسلم: «ولا تُوْكِي»، وكُله نهي عن الإمساك والبخل، أي: لا تُخزِّنْ مالك في وعاء، ولا تشدَّهُ بوِكَاء (أي: الخيط الذي يربط به فم السقاء ونحوه)، وأصل الوعي الحفظ، وهو بمعنى الإحصاء في الحديث الآخر، والإحصاء: معرفة قدر الشيء. إكمال المعلم (3/559).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فيوعي الله عليكِ» أي: تغبط عليك أعمالك؛ لِيُشدِّدَ عليك في الحساب، أو يَمْنعَ عنك فَضلَهُ وجُوْدَهُ...، والقصدُ مزيد التأكيد والحثُّ على الإنفاق. فتح الإله في شرح المشكاة (6/319).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«ولا تُوْعِي» الإيعاء: حفظ الأمتعة بالوعاء وجعلها فيه، والمراد به: أن لا تمنعَ فضل الزاد عمَّن افتقرَ إليه. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/438).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لا توعي» أي: ولا تجعلي مَالَكِ في الوعاء، أي: الظَّرف؛ يعني: لا تمنعي مَالَكِ في الوعاء عن الفقراء، فيمنع الله عنك نعمه. المفاتيح شرح المصابيح (2/ 523).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لا توعي فيوعي الله عليكِ» أي: لا تُمْسِكي المال في الوعاء، فيمسك الله فَضْلَه وثوابه عنكِ. المفهم (3/74).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«فيوعي الله عنكِ» أي: يمنعُ عنكِ فَضْلَه، ويسدُّ عليك باب المزيد، وفي معناه: ما ورد في غير هذه الرواية: «ولا تُوْكِي فيوكِي عليكِ». الميسر في شرح مصابيح السنة (2/438).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فيُوْكِي الله عليكِ» «ويُوْعِي» «ويُحْصِي» على اختلاف الأحاديث مقابلة اللفظ باللفظ، وتجنيس للكلام بمثله في جزائه، أي: يمنعكِ كما منعتِ، ويقتِّر عليكِ كما قتّرتِ، ويُمْسِكُ فَضْلَه كما أمسكتِ، كما قال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} آل عمران: 54، وقيل: لا تُحْصِي ما تعطي، فتستكثره نفسَكِ، فيكون سبب انقطاعه ومنعكِ له.
وقد يُرَادُ هنا بالإحصاء والوعي معرفة عددهِ خوف أن تزول البركة منه، كما جاء في غير حديث، وأمرهُ بأن تَهِيْلوا (الصبَّ) ولا تَكِيْلُوا، وقول عائشة: «حتى كِلناه ففُنِيَ»، وهذا أولى ما يقال في الحديث عندي. إكمال المعلم (3/559).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى النهي إذ ليس الإيعاء حرامًا؟ قلتُ: لازمه -وهو الإمساك- حرام، أو النهي ليس للتحريم بالإجماع،. قال التيمي: المراد منه النهي عن الإمساك والبخل، وجمع المتاع في الوعاء وشده وترك الإنفاق منه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (7/200).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: قد جاء في الحديث: «كِيلُو طعامكم يبارك لكم فيه».
قلتُ: ذاك معنًى آخر، وهو إذا عرف مقدارهُ نقف فيه على القناعة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/434).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
دلَّ هذا الحديث أن الصدقة قد تنمي المال، وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن مَنْ شَحَّ ولم يتصدق فإن الله يُوْكِي عليه، ويمنعه من البركة في ماله والنماء فيه. شرح صحيح البخاري (3/436).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: دليل على جواز إنفاق الزوجة من مال زوجها، إلا أن يُقال: إنه مُقيَّد بحديث أبي أمامة: «لا تُنْفِقُ امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها»، وهذا قاله -صلى الله عليه وسلم- في حِجة الوداع. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 286).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
فيه دليل على جواز إنفاق المرأة من مال زوجها، وكأن المراد إذا عَلِمَ وسَمِحَ. التنوير شرح الجامع الصغير(2/ 285).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: الحث على الإنفاق في وجوه الخير، والنهي عن الإمساك والبخل، وعن ادِّخار المال في الوعاء.
ومنها: كراهة إحصاء الصدقة؛ لئلا يكون سببًا للبخل، وانقطاع فضل الله تعالى.
ومنها: بيان أن إحصاء الصَّدقة سبب للبخل؛ لأن النفس تستكثر ما تتصدَّق به، فتبخل.
ومنها: أن إحصاء الصَّدقة سبب لحبس الرزق، وقطع فَضْلِ الله تعالى.
ومنها: بيان أن الجزاء من جنس العمل.
ومنها: بيان ما كان عليه الصحابيات من العناية بالسؤال عمَّا يُشكِلُ عليهن من أمور دينهن.
ومنها: بيان ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من العناية بتعليم أُمَّتِه السَّخاء والجود حتى يفيض الله -عزَّ وجلَّ- عليهم بركاته. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم (19/535-536).


ابلاغ عن خطا