الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

 قلتُ: يا رسول الله، أوصني، قال: «اتَّقِ الله حيثُمَا كنتَ، وأَتْبِع السيئة الحسنة تمْحُها، وخالِقِ الناس بخُلُق حسَن».


رواه أحمد برقم: (21403) واللفظ له، والترمذي برقم: (1987) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب، والترهيب برقم: (3160)، صحيح سنن الترمذي برقم: (1987).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الحسنة»:
الحسنةُ يعبَّر بها عن كلّ ما ‌يَسُرُّ مِن نعمةٍ تَنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، والسيئة تضادّها. المفردات في غريب القرآن (ص: 235).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
الحسنة: اسم جامع لكل ما يُقرِّب إلى الله تعالى. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 50).

«السَّيِّئَة»:
نقيض الحسنة، قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} فصلت: 34. شمس العلوم (5/ 3299).

«الخُلْق»:
الخَلْقُ ‌والخُلْقُ ‌في ‌الأصل ‌واحد، كالشَّرب والشُّرب، والصَّرم والصُّرم، لكن خصّ الخَلْق بالهيئات والأشكال والصّور المدْرَكَة بالبصر، وخصّ الخُلْق بالقُوى والسّجايا المدْرَكَة بالبصيرة. المفردات في غريب القرآن (ص: 297).
قال ابن منظور -رحمه الله-:
الخُلُق: بضم اللام وسكونها، وهو الدِّين والطَّبع والسَّجِية، وحقيقته أنه ‌لصورة ‌الإنسان ‌الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها. لسان العرب (10/ 86).
وقال الجرجاني -رحمه الله-:
الخُلق: عبارة عن ‌هيئة ‌للنفس ‌راسخة ‌تصدر ‌عنها الأفعال بسهولة ويُسْر من غير حاجة إلى فكر ورَوِيَّة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا وشرعًا بسهولة، سميت الهيئة: خلُقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة: خلقًا سيئًا. التعريفات (ص: 101).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
الخُلُقُ: مَلَكَةٌ نفسانية تصدر عَنْهَا الْأَفْعَال النفسانية بسهولة من غير روية، وَقيل: هُوَ ‌اسْم ‌جَامع ‌للقُوى ‌المدْرِكَة ‌بالبصيرة، وَتُجْعَل تَارَة للقُوى الغريزية، وَتارَة للحالة المكتَسبة الَّتِي بهَا يصير الْإِنْسَانُ خَلِيقًا أَن يفعل شَيْئًا دون شَيْء. معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم (ص: 197).


شرح الحديث


قوله: «قلتُ: يا رسول الله، أوصني»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
سبب هذا الحديث: أنَّ أبا ذَرٍّ لَمَّا أسْلَمَ قديمًا أَمَرَهُ الشَّارعُ أنْ يَلْتَحِقَ بقومه؛ عسى أن ينفعهم الله به، ولَمَّا رأى حِرصَهُ على المقام معهُ بمَكَّةَ، وعَلِمَ الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- أنه لا يقدر على ذلك، قال لهُ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُما كنتَ...».المعين على تفهم الأربعين [ص: 238-239).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«يا رسول الله أوصنِي» الوصية: هي العهد إلى الشخص بأمر هام، كما يُوصِي الرَّجُل مثلًا على ثُلثِه، أو على ولدِه الصغير، أو ما أشبه ذلك. التلخيص المعين على شرح الأربعين (ص: 89).

قوله: «اتَّقِ الله»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«اتَّقِ» أمْر من التقوى، وهي امتثال أوامره تعالى، واجتناب نواهيه، وهذا على حد قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ} البقرة: 278، أي: غَضَبه، وهو أعظم ما يُتقى؛ لما يَنشأ عنه من العقاب الدنيوي والأخروي، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} آل عمران: 28. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 231).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«اتَّقِ الله»:
هذا من جوامع الكلم؛ فإنَّ التقوى -وإن قلَّ لفظها- كلمة جامعة، فحقُّه تقدس أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر بقدر الإمكان، ومن ثم شملت خير الدارين؛ إذ هي تجنُّب كل منهي عنه، وفعل كل مأمور به، فمن فعل ذلك، فهو من المتقين الذين أثنى عليهم في كتابه المبين. فيض القدير (1/ 120).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اتَّقِ الله»:
أي: بالإتيان بجميع الواجبات، والانتهاء عن سائر المنكرات، فإن التقوى أساس الدين، وبه يرتقي إلى مراتب اليقين، ثم التحقيق أن التقوى أدناها التبرؤ عن الشرك بالله، وأعلاها الإعراض عما سواه، وما بينهما مراتب بعضها فوق بعض؛ من ترك المحظور، ثم المكروه، ثم المباح مما لا يعني. ولله در من قال من أهل الحال:
من عَرف الله فلم تُغْنِه *** معرفةُ الله فذاك الشقي
ما يصنع العبد بعزِّ الغِنَى *** فالعز كل العز للمتقي. مرقاة المفاتيح (8/ 3177-3178).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فهذه الوصية وصيةٌ عظيمةٌ جامعة لحقوق الله، وحقوق عباده، فإن حقَّ الله على عباده أن يتقوه حقَّ تقاته، والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والآخرين. قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} النساء: 131.
وأصلُ التقوى: أن يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تَقِيهِ منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه، من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تَقِيهِ من ذلك؛ وهو فعلُ طاعته، واجتنابُ معاصيه. جامع العلوم والحكم (1/ 398).
وقال الشيخ صالح آل شيخ -حفظه الله-:
والأمر بتقوى الله -جلَّ وعلا- هنا على الوجوب؛ لأنّ التقوى أصل عظيم من أصول الدِّين. شرح الأربعين النووية (19/ 1).

قوله: «حيثُما كنت»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«‌حيثُما ‌كنت»:
(ما) صلة، أي: في أيّ مكان كنت. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/ 204).
وقال المرتضى الزبيدي -رحمه الله-: مرتضى الزبيدي -رحمه الله-:
«‌حيثُ ‌كنت»
أي: في كل زمان ومكان، رآك الناس أو لا، فإن الله مطَّلع عليك، وفي بعض الروايات: «‌حيثُما ‌كنت»، و(ما) زائدة. اتحاف السادة المتقين (7/ 317).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«‌حيثُما ‌كنت»:
حيث: ظرف مكان، أي: في أي مكان كنتَ، سواء في العلانية، أو في السر، وسواء في البيت، أو في السوق، وسواء عندك أناس، أو ليس عندك أناس. شرح الأربعين النووية (ص: 195).
وقال الشيخ صالح آل شيخ -حفظه الله-:
و(حيثُما) هذه متعلِّقة بالأزمنة والأمكنة، يعني: في أي زمان كنت، وفي أي مكان كنت؛ لأن كلمة (حيث) قد تتوجه إلى الأمكنة، وقد تتوجه إلى الأزمنة، يعني: قد تكون ظرف مكان، وقد تكون ظرف زمان، وهي هنا محتَمِلة للأمرين، «‌اتَّقِ الله حيثُما ‌كنت» يعني: ‌اتَّقِ الله في أي مكان، أو في أي زمان كنت...، فإذن تتعلق التقوى بالأزمنة وبالأمكنة؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: «‌اتَّقِ الله حيثُما ‌كنت»؛ لأنه ما من مكان تكون فيه، أو زمان تكون فيه، إلا وثمَّ أمرٌ أو نهيٌ من الله -جل وعلا- يتوجه للعبد. شرح الأربعين النووية (ص: 151، 154).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «‌حيثُما ‌كنت»
أي: في أيِّ مكانٍ كنتَ فيه، حيث يراك الناس، وحيث لا يرونك؛ اكتفاءً بنظره تعالى؛ قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء: 1 الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 350).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله: «حيثُما كنت»:
مراده في السر والعلانية، حيث يراه الناس، وحيث لا يرونه. جامع العلوم والحكم (1/ 407).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «حيثُما كنت»
أي: في الخلاء، وفي النعماء والبلاء، فإن الله عالم بسِرِّ أمْرك، كما أنه مطَّلع على ظواهرك، فعليك برعاية دقائق الأدب في حفظ أوامره ومراضيه، والاحتراز عن مساخطه ومَساويه، وعن داود الطائي أنه سمع صوتًا من قبر: ألم أُزَكِّ؟ ألم أُصَلِّ؟ ألم أَصُمْ؟ ألم أفعل كذا؟ أُجِيب: بلى يا عبد الله، ولكن إذا خلوتَ بارزته بالمعاصي، ولم تراقبه. مرقاة المفاتيح (8/ 3177-3178).
وقال الملا علي القاري أيضًا:
«حيثُما كنت»
أي: في أي مكان حلَلْتَ، ومِن لازِمِهِ في أي زمان نزَلْتَ. مرقاة المفاتيح 4/ 1691).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌حيثُما ‌كنت»:
أي: وحدك، أو في جمْعٍ، فإن كانوا أهل بغي أو فجور فعليك بخُويْصَة نفسك.
أو المراد في أي زمان ومكان كنتَ فيه، رآك الناس أم لا؛ فإن الله مطَّلع عليك...
والخطاب لكل من يُتوجه إليه الأمر، فيعمّ كل مأمور، وأفراد الضمير باعتبار كل فرد، و(ما) زائدة، بشهادة رواية حذفها. فيض القدير (1/ 120).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«حيثُما كنت»:
في أي مكان نزلْتَ، وأي جهة حلَلْتَ، فلا يخص بالتقوى مكانًا دون مكان؛ لأنك بمرأى منه تعالى؛ ولأن الأماكن بالنسبة إلى علمه بعملك سواء. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 314).
وقال الصنعاني أيضًا:
«حيثُما كنت»:
في أي مكان كنتَ، فأنت عالم أن ربك مطَّلع عليك، لا يخفى عليه شعرة من شعرات حركاتك وسكونك ونومك ويقظتك، وهذا العلم يستلزم المراقبة لمولاك في كل حال؛ فإن مَن عَلِم أن مالِك ناصيتِه معه في كل حال، راقَبَه في أقواله والأفعال. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 547).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حظفه الله-:
«حيثُما كنت»:
في أي مكانٍ كنتَ، سواء كنتَ بين الناس أو كنت خاليًا منفردًا، وسواء كنت في بلدٍ أو في آخر؛ لأنه مع الأسف يوجد بعض الناس مَن يظهر عليه آثار الاستقامة والالتزام في بلد، ثم إذا سافر إلى بلدٍ آخر تنَصَّل من هذه الأمور، والله -جل وعلا- هو الرب، هو المعبود في كل مكان. شرح جوامع الأخبار (3/ 26).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
هذا حديث عظيم، جمَع فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين حق الله وحقوق العباد. فحقّ الله على عباده: أن يتقوه حقّ تُقاته، فيتّقوا سخطه وعذابه باجتناب المنهيات، وأداء الواجبات.
وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين، ووصية كل رسول لقومه أن يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} نوح: 3. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 49-50).

قوله: «وأَتْبِع السيئةَ الحسنة تَمْحُها»:
قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وهذا موافق لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114. شرح الأربعين النووية (ص: 73).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وأَتْبِع السيئةَ»:
الصادرة منك، وظاهر الحديث يَعُم الصغائر والكبائر، قال المناوي: وجرى عليه بعضهم، لكن خصَّه الجمهور بالصغائر. اهـ. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/33).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
ينبغي أن تُمْحى كلُّ سيئة بحسنة من جنسها؛ لكي تضادها، فإن البياض يُزال بالسواد، لا بالحرارة والبرودة. إحياء علوم الدين (4/ 35).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
فعُلِمَ منه: أن العبدَ لا يستغني في حالٍ من الأحوال عن محوِ آثار السيئات عن قلبه، بمباشرة حسناتٍ تضادُّ آثارُها آثارَ تلك السيئات؛ فسماعُ الملاهي يُكفَّر بسماع القرآن، ومجالس الذِّكر، وشربُ الخَمر يكفَّر بالتصدُّق بكل شراب حلال، فقِسْ على هذا؛ لأن المرضَ يُعالَج بضدِّه. شرح المصابيح (5/ 344).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فسماع الملاهي يُكفَّرُ بسماع القرآن، وبمجالس الذكر، وشرب الخمر يُكفَّرُ بالتصدُّق بكل شراب حلال، وعلى هذا قفس؛ لأن المرض يُعالج بضده، والمتضادات هي المتناسبات، فلذلك ينبغي أن يمحو كلَّ سيئة بحسنة من جنسها؛ لكي تضادها، فالبياض يزال بالسواد لا بغيره، وحب الدنيا أثر السرور بها في القلب، فلا جرم كفارته كل أذى يصيب المسلم من الهم والغم. شرح المشكاة (10/ 3235-3236).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وَأتْبع»:
أمر من باب الأفعال: هو متعدٍ إلى مفعولين «السيئة الحسنة» أي: التوبة والطاعة مطلقًا، أو بأن تباشر حسنات تضاد آثارُها تلك السيئات.
«تَمْحُها»:
أي: تدفع الحسنةُ السيئةَ، وترفعها، والإسناد مجازي، والمراد يمحو الله بها آثارها من القلب، أو من ديوان الحفَظة، هذا إذا كانت بينه وبين الله تعالى، فإن تعلقت بالعبد فتُدفع الحسنةُ إلى خصمه عوضًا عن المظلمة، أو يرضيه الله من فضله، حُكي عن بعضهم أنه رُئِي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وأحسن إليّ، إلا أنه حاسبني حتى طالبني بيومٍ كنتُ صائمًا، فلما كان وقت الإفطار أخذت حنْطَةً من حانوتِ صديق لي فكسرتها، فذكرتُ أنها ليست لي، فألقيتها على حِنْطَتهِ، فأخذ من حسناتي بمقدار أَرْشِ كسْرِها.
قال البيضاوي: صغائر الذنوب تقع مكفّرة بالحسنات، وكذا ما خفي من الكبائر؛ لعموم قوله تعالى: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء: 31، والحديث، أما ما ظهر منها، وتحقق عند الحاكم، فلا يسقط حدُّها ولا بالتوبة. مرقاة المفاتيح (8/3178).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«تَمْحُهَا»:
أي: السيئة المثْبَتة في صحيفة الكاتبين؛ وذلك لأن المرض يُعالَج بضدِّه، فالحسنات يذهبن السيئات، وأصل ذلك أن القلب كالمرآة يحجبه عن تجلي أنوار المعرفة كُدُورات الشهوة والرغبة فيها، ويرتفع من كل ذنب ظُلْمة إليه، ومن كل حسنة نور إليه، فالحسنات تَصْقُل النفس، فكذلك الحسنة تمحو السيئة. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/25- 26).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وظاهر قوله: «تَمْحُهَا» وقوله تعالى: {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114، أنَّ الحسنة تمحو السيئة من الصحف.
وقيل: عبَّر به عن ترك المؤاخذة بها، فهي موجودة فيها بلا محو إلى يوم القيامة، وهذا تجوُّز يحتاج لدليل، وإن نقله القرطبي في «تذكرته»، وقال بعض المفسرين: إنه الصحيح عند المحققين.
ثم هذا في الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرها -على الصحيح- إلا التوبة بشروطها، وحينئذٍ يصح إدخالها في الحديث؛ بأن يراد بالسيئة ما يعمّ الكبيرة، وبالحسنة ما يشمل التوبة منها، وأما التبعات فلا يُكفِّرها إلا إرضاء أصحابها. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 232).
وقال المظهري -رحمه الله-:
فإن قيل: كيف تُزيل الحسنة السيئة؟
قلنا: لا تخلو السيئة: إما أن تكون بين العبد وبين الله تعالى، أو بين العبد وبين إنسان كالْمَظْلَمة، فإن كانت بين الرَّجُل وبين الله تعالى: فإن الرَّجُل إذا عمل سيئة يَغضب الرب عليه، وإذا عمل حسنة يرضى عنه الرب -جل جلاله-، والرضا والغضب لا يجتمعان في قضية واحدة، بل إذا رضي الله تعالى عن العبد يترك غضبه، ويعفو عن سيئاته؛ لأن رحمته تعالى سبقت غضبه.
وإن كانت السيئة بين العبد وبين الإنسان: فإنه إذا عمل حسنة تُدفَع تلك الحسنة إلى خصمه؛ عوضًا من مَظْلمة يوم القيامة، وتسقط الْمَظلمة عن رقبته، فإذا كان كذلك فقد أزالت الحسنة مَظْلَمة خصمه عنه. المفاتيح في شرح المصابيح (1/124-125).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أَتْبِع السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحها» ظاهرُه أن السيِّئات تُمحى بالحسنات، وقد تقدَّم ذكرُ الآثار التي فيها أن السَّيِّئة تُمحى من صحف الملائكة بالحسنة إذا عُمِلت بعدها.
قال عطيّة العَوفي: بلغني أنَّه من بكى على خطيئة مُحيت عنه، وكُتِبت له حسنة.
وعن عبد الله بن عمرو، قال: مَن ذَكر خطيئةً عمِلَها، فَوَجِلَ قلبُه منها، فاستغفر الله -عز وجل- لم يحبسها شيءٌ حتَّى يمحوها عنه الرَّحمن.
وقال بِشْرُ بنُ الحارث: بلغني عن الفضيل بن عياض قال: بكاءُ النَّهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاءُ اللَّيل يمحو ذنوبَ السِّرِّ.
وقد ذكرنا قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» الحديث.
وقالت طائفة: لا تُمحى الذُّنوب من صحائف الأعمال بتوبةٍ ولا غيرها، بل لا بدَّ أن يُوقف عليها صاحبُها ويقرأها يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} الكهف: 49. جامع العلوم والحكم(1/ 451 -454).
وقال ابن رجب أيضًا:
«وأتْبِع السَّيِّئة الحَسنَة تَمحُها»، لما كان العبد مأمورًا بالتقوى في السرِّ والعلانية، مع أنه لا بُدَّ أن يقع منه أحيانًا تفريط في التقوى، إما بترك بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمَره أن يفعل ما يمحو به هذه السيئة، وهو أن يُتبعها بالحسنة، قال الله -عز وجل-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} هود: 114.
وفي الصحيحين عن ابنِ مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قُبلَةً، ثم أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك له، فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلت هذه الآية، فدعاه فقرأها عليه، فقال رَجلٌ: هذا له خاصة؟ قال: «بل للناس عامة».
...وقد يُراد بالحسنة في قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «أَتْبِع السَّيئة الحسنة» ما هو أعمُّ من التوبة، كما في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114، وقد رُوي من حديث معاذ أن الرَّجُل الذي نزلت بسببه هذه الآية أمَره النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يتوضَّأ ويُصلِّي.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ وأبو داود والترمذي والنسائي وابنُ ماجه من حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذنِبُ ذنبًا، ثم يقومُ فيتطهَّر ثم يُصلِّي، ثم يستغفر الله إلَّا غَفَرَ الله له»، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} آل عمران: 135.
وفي الصحيحين عن عثمانَ أنه توضأ، ثم قال: رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ نحو وُضوئي هذا، ثم قال: «مَنْ توضأ نحو وُضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّثُ فيهما نفسَه، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه».
...وقد اختلف الناسُ في مسألتين:
إحداهما: هل تُكفِّرُ الأعمالُ الصالحةُ الكبائرَ والصغائرَ، أم لا تكفِّر سوى الصغائر؟ فمنهم من قال: لا تُكفِّر سوى الصغائر، وقد رُوي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوُضوء أنه يُكفِّر الصغائر، وقال سلمان الفارسي في الوُضوء: إنه يكفِّر الجراحات الصِّغار، والمشي إلى المساجد يُكفِّر أكبرَ من ذلك، والصلاة تكفِّر أكبرَ من ذلك، خرجه محمد بن نصر المروزي.
وأما الكبائر فلا بدَّ لها من التوبة؛ لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالمًا، واتفقت الأمَّةُ على أن التوبة فرض، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفّرةً بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يُحْتَجْ إلى التوبة، وهذا باطلٌ بالإجماع.
وأيضًا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبقَ لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البرّ في كتابه التمهيد، وحكى إجماع المسلمين على ذلك، واستدلَّ عليه بأحاديث:
منها: قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصَّلواتُ الخمسُ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ، ورمضانُ إلى رمضان، مُكفراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ» وهو مخرَّج في الصحيحين، من حديث أبي هريرة، وهذا يدلُّ على أن الكبائرَ لا تكفِّرها هذه الفرائضُ.
وذهب قومٌ من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ، ومنهم ابن حزم الظاهري، وإيَّاه عنى ابنُ عبد البرّ في كتاب التمهيد بالردِّ عليه، وقال: قد كنتُ أرغبُ بنفسي عن الكلام في هذا الباب، لولا قولُ ذلك القائل، وخشيتُ أن يغترَّ به جاهلٌ، فينهمِكَ في الموبقاتِ؛ اتِّكالًا على أنَّها تكفرُها الصلواتُ دونَ الندم والاستغفار والتوبة، والله نسألُه العصمة والتوفيقَ.
...والصَّحيح قول الجمهور: إنَّ الكبائر لا تُكفَّرُ بدون التوبة؛ لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد، وقد قال -عز وجل-: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات: 11.
وقد فسَّرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم، ومنهم من فسَّرها بالعزم على أن لا يعود، وقد روي ذلك مرفوعًا من وجه فيه ضعفٌ، لكن لا يُعلم مخالفٌ من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومَنْ بعدهم، كعمر بن عبد العزيز، والحسن وغيرهما...
...ومما يستدل به على أن الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها، أو العقوبة عليها: حديثُ عُبادةَ بن الصامت، قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ عليهم الآية، فمن وفَّى منكم فأجرهُ على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فعُوقِبَ به فهو كفَّارَةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فسترهُ الله عليه فهو إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» خرجاه في الصحيحين، وفي رواية لمسلم: «مَن أتى منكم حَدًا فأُقيم عليه فهو كفارته»، وهذا يدل على أن الحدود كفارات. قال الشافعي: لم أسمع في هذا الباب أن الحدَّ يكونُ كفارةً لأهله شيئًا أحسنَ مِنْ حديث عُبادةَ بن الصامت.
...وأيضًا فيدلُّ على أن الكبائرَ لا تكفِّرُها الأعمالُ: أنَّ الله لم يجعلْ للكبائر في الدُّنيا كفَارة واجبةً، وإنما جعلَ الكفارةَ للصغائر، ككفَّارةِ وطءِ المُظاهِرِ، ووطءِ المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمامُ أحمد وغيرُه، وكفارة من ترك شيئًا من واجبات الحج، أوِ ارتكب بعضَ محظوراته، وهي أربعةُ أجناس: هديٌ، وعِتقٌ، وصدقةٌ، وصيامٌ؛ ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمدِ عندَ جمهور العلماءِ، ولا في اليمين الغموس أيضًا عند أكثرهم، وإنَّما يؤمرُ القاتلُ بعتق رقبة استحبابًا، كما في حديث واثلة بن الأسقع أنَّهم جاؤوا إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في صاحبٍ لهم قد أوْجَب، فقال: «أعتِقُوا عنه رقبةً يعتقه الله بها مِن النار»، ومعنى أوْجَب: عَمِلَ عملًا يجب له به النارُ، ويقال: إنه كان قتل قتيلًا.
...والأظهر -والله أعلم- في هذه المسألة -أعني مسألة تكفير الكبائر بالأعمالِ- أنه إن أُريدَ أن الكبائر تُمحى بمجرَّد الإتيان بالفرائضِ، وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تُكفَّرُ الصغائر باجتناب الكبائر، فهذا باطل.وإن أريد أنه قد يُوازَن يومَ القيامة بين الكبائرِ وبينَ بعض الأعمال، فتُمحَى الكبيرة بما يُقابلها من العمل، ويَسقُطُ العمل، فلا يبقى له ثوابٌ، فهذا قد يقع. جامع العلوم والحكم (1/ 411 -438).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ثم نبَّه على تدارك ما عساه يفرط من تقصيره في بعض الأوامر، والتورط في بعض النواهي فقال: «وأتبع» بفتح الهمزة، وسكون المثناة فوق، وكسر الموحدة: أَلْحِقْ.
«السيئةَ» الصادرة منك صغيرة، وكذا كبيرة كما اقتضاه ظاهر الخبر، و«الحسنة» بالنسبة إليها التوبة منها، فلا مُلْجِئ لقَصْره على الصغيرة، كما ظُنَّ، وأيًّا ما كان فالحسنات تؤثر في السيئات بالتخفيف منها، يعني أَلْحِق «الحسنة» إياها صلاة أو صدقة أو استغفارًا أو تسبيحًا، أو غيرها.
«تَمْحُها» أي: السيئة المثْبَتة في صحيفة الكاتبين؛ وذلك لأن المرض يُعالَج بضده، كالبياض يزال بالسواد وعكسه، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114. يعني: فلا يُعجزك إذا فرَطَتْ منك سيئة أن تُتبعها حسنة، كصلاة.
... وظاهر قوله: «تَمْحُها» أنها تُزال حقيقة من الصحيفة، وقيل: عبَّر به عن ترك المؤاخذة، ثم إنَّ ذا يُخصّ من عمومه السيئة المتعلقة بآدمي، فلا يَمحُها إلا الاستحلال، مع بيان جهة الظُّلامة إن أمكن، ولم يترتب عليه مفسدة، وإلا فالمرجو كفاية الاستغفار والدعاء له. فيض القدير (1/ 120).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
«وأتبع السيئةَ الحسنة تمحها» فإن الطبيب متى تناول المريض شيئًا مضرًا أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيِّسُ هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات، وإنما قَدّم في لفظ الحديث السيئة، وإن كانت مفعولة؛ لأن المقصود هنا مُحْوُهَا لا فعل الحسنة، فصار كقوله في بول الأعرابي: «صُبُّوا عليه ذَنُوبًا من ماء». وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات؛ فإنه أبلغ في المحو. الزهد والورع والعبادة (ص: 87).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
ثم لما كان العبد لا بد أن يحْصُل منه تقصير في حقوق التقوى وواجباتها أمر -صلى الله عليه وسلم- بما يدفع ذلك ويمحوه، وهو أن يُتْبِع الحسنة السيئة، (والحسنة) اسم جامع لكل ما يُقرب إلى الله تعالى، وأعظم الحسنات الدافعة للسيئات: التوبة النصوح، والاستغفار والإنابة إلى الله، بذكره وحبِّه، وخوفه ورجائه، والطمع فيه، وفي فضله كل وقت، ومن ذلك: الكفارات المالية والبدنية التي حددها الشارع.
ومن الحسنات التي تدفع السيئات: العفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين، وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بينهن ما اجتُنبت الكبائر»، وكم في النصوص من ترتيب المغفرة على كثير من الطاعات.
ومما يُكفِّر الله به الخطايا: المصائب؛ فإنه لا يصيب المؤمن من هَمٍّ ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله عنه بها خطاياه، وهي إما فوات محبوب، أو حصول مكروه بدني أو قلبي، أو مالي، داخلي أو خارجي، لكن المصائب بغير فعل العبد، فلهذا أمره بما هو من فعله؛ وهو أن يُتبع السيئة الحسنة. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 50).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وقوله:«وأتبع السيئةَ الحسنة تمحها» عندما يفعل المرء سيئة فإنه يتوب منها، والتوبة حسنة، وهي تَجُبُّ ما قبلها من الكبائر والصغائر، ويكون أيضًا بفعل الحسنات، فإنها تمحو الصغائر، وأما الكبائر فلا يمحوها إلا التوبة منها. فتح الإله في شرح المشكاة (9/703).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقوله: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»، اعلموا -وفقكم الله- أنَّ الحسنة تمحو السيئة كانت قبلها أو بعدها، وكونها بعدها أولى بذلك منها قبلها؛ لأن الأفعال تَصْدر عن القلوب وتتأثر بها، فإذا أتى سيئةً فقد تمكَّن في القلب اختيارها، فإن أتْبعها بالحسنة نشأت عن اختيار في القلب فتَمْحُو تلك، حتى لا تعود إليه، وإن لم يأت بعدها بإرادة حسنة، ولا فَعَلها، تداعى ذلك إلى أمثالها، والخير عادة، والشر لَجَاجَة. عارضة الأحوذي (8/119).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«أَتْبِع السيئةَ الحسنة» إذا فعلتَ سيئة -والإنسان معلوم أنه ليس بمعصوم- أتْبِعْها حسنة، استغْفر وتُبْ إلى الله -جلَّ وعلا-، وأَتْبِعها حسنة تمحُها، والحسنة تمحو السيئة إذا كانت بقدْرها ولو لم يصحبها توبة؛ لأن مفاد الخبر: «أَتْبع السيئةَ الحسنة تمحها»، فعلتَ سيئة أتْبعتها حسنة تمحُها، لكن لا تكون هذه السيئة من الكبائر، من الفواحش التي لا بد من التوبة فيها، لا يكفي فعل الحسنات. شرح الأربعين النووية (12/ 14).

قوله: «وخالِقِ الناس بخُلُق حسن»:
قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
معناه: عامِل الناس بما تحب أن يعاملوك به، واعلم: «أن أثْقَل ما يُوضع في الميزان الخُلق الحسن». وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أحبَّكم إلي وأقربَكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسِنُكم أخلاقًا».
وحُسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار المؤمنين، لا يجزون بالسيئة السيئة، بل يعفون ويصفحون، ويحسنون مع الإساءة إليهم. شرح الأربعين النووية (ص73-74).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وخَالِقِ الناس بخُلق حسن» أي: تكلَّف معاشرتهم بالمعروف؛ من طلاقة وجهٍ، وخفض جناح، وتلطُّفٍ وإيناس، وبذل ندى، وتحمل أذى، فإن فاعل ذلك يُرجى له في الدنيا الفلاح، وفي الآخرة الفوز بالنجاة والنجاح. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 33-34).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «وخَالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسن» هذا من خصال التقوى، ولا تَتِمُّ التقوى إلا به، وإنما أفرَده بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإنَّ كثيرًا من النَّاسِ يظنُّ أن التقوى هي القيامُ بحقِّ اللهِ دونَ حقوق عباده، فنصَّ له على الأمر بإحسان العشرة للنَّاس، فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلِّمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا، ومَنْ كان كذلك، فإنَّه يحتاج إلى مخالقَةِ النَّاسِ بخلق حَسن ما لا يحتاج إليه غيرُه ممن لا حاجةَ للنَّاس به، ولا يُخالطهم، وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكُلِّيَّة، أو التقصير فيها، والجمعُ بَيْنَ القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جدًّا، لا يَقوى عليه إلَّا الكُمَّلُ مِنَ الأنبياءِ والصدِّيقين.
وقال الحارث المحاسبي: ثلاثةُ أشياء عزيزة أو معدومة: حسنُ الوجه مع الصِّيانة، وحُسْنُ الخُلق مع الدِّيانة، وحُسنُ الإِخاء مع الأمانة.
وقال بعضُ السلف: جلس داود -عليه السلام- خاليًا، فقال الله -عز وجل-: ما لي أراك خاليًا؟ قال: هجرتُ الناسَ فيك يا ربَّ العالمين، قال: يا داود ألا أدُلُّك على ما تستبقي به وجوه الناس، وتبلغ فيه رضاي؟ خالِقِ النَّاسَ بأخلاقهم، واحتجز الإِيمانَ بيني وبينك.
وقد عدَّ الله في كتابه مخالقة الناس بخُلق حسن من خصال التقوى، بل بدأ بذلك في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران: 133، 134.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسناده عن سعيدٍ المقبري قال: بلغنا أن رجلًا جاء إلى عيسى ابن مريمَ -عليه السلام-، فقال: يا معلِّمَ الخير، كيف أكون تقيًا للهِ -عز وجل- كما ينبغي له؟ قال: بيسيرٍ من الأمر: تُحِبُّ الله بقلبك كُلِّه، وتعمل بكدحك وقوَّتك ما استطعت، وترحمُ ابنَ جنسك كما ترحم نفسَك، قال: من ابنُ جنسي يا معلِّم الخير؟ قال: ولَدُ آدم كلهم، وما لا تُحب أن يؤتى إليك، فلا تأته لأحدٍ، وأنت تقيٌّ للهِ -عز وجل- كما ينبغي له.
وقد جعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حُسن الخُلق أكمل خصالِ الإِيمانِ، كما خرَّج الإِمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا»، وخرَّجه محمد بن نصر المروزي، وزاد فيه: «وإن المرءَ ليَكُونُ مؤمنًا وإنَّ في خُلُقه شيئًا فيَنقُصُ ذلك من إيمانه».
وخرَّج أحمد وأبو داود والنسائي وابنُ ماجه، من حديث أسامة بن شريك قال: قالوا: يا رسولَ الله، ما أفضلُ ما أُعطي المرءُ المسلمُ؟ قال: «الخُلق الحَسَنُ».
وأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن صاحبَ الخُلق الحسن يَبلُغُ بِخُلقِه درجةَ الصَّائم القائم؛ لئلا يشتغِلَ المريدُ للتقوى عن حُسن الخلق بالصَّوم والصلاة، ويَظُنُّ أن ذلك يقطعه عن فضلهما، فخرَّج الإِمام أحمد وأبو داود من حديث عائشة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ المؤمن ليُدرِكُ بحُسْنِ خُلُقه درجاتِ الصَّائم القائم».
وأخبر أن حُسن الخُلق أثقلُ ما يُوضَعُ في الميزان، وأن صاحبَه أحبُّ الناسِ إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا، فخرَّج الإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث أبي الدرداء، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما مِنْ شيءٍ يوضَعُ في الميزان أثقلُ من حُسن الخلق، وإنَّ صاحبَ حُسن الخلق ليَبلُغُ به درجةَ صاحب الصَّوم والصلاة».
وخرَّج ابن حبان في صحيحه من حديث عبدِ الله بن عمرو، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أخبركم بأحبِّكُم إلى الله، وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامة؟ قالوا: بلى، قال: أحسَنُكُم خُلُقًا».
وقد سبق حديث أبي هريرة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «أكثرُ ما يُدخِلُ الجنَّة تقوى الله، وحُسنُ الخلق».
وخرَّج أبو داود من حديث أبي أمامة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُه»، وخرَّجه الترمذي وابنُ ماجه بمعناه من حديث أنس. جامع العلوم والحكم (1/ 454، 456).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وخَالق الناس»:
أمر من المخالقة، مأخوذ من الخُلُق مع الخَلْق، أي: خالِطهم وعاملهم «بخُلق حسن» وهو بسْط المحيَّا، وبذل الندى، وتحمل الأذى. مرقاة المفاتيح (8/ 3178).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وخَالِق الناس بخُلُقٍ» بضمتين، «حسن» بالتحريك أي: تَكَلَّف معاشرتهم بالمجاملة؛ من نحو طلاقة وجه وحلم، وشفقة، وخفض جانب، وعدم ظنِّ السوء بهم، وتودُّد إلى كل كبير وصغير، وتلطُّف في سياستهم، مع تباين طباعهم.
يقال: فلان يتخلَّق بغير خُلقه، أي: يتكلف، وجمع هذا بعضهم في قوله: وأن تفعل معهم ما تحب أن يفعلوه معك، فتجتمع القلوب، وتتفق الكلمة، وتنتظم الأحوال، وذلك جِماع الخير، وملاك الأمر.
...وحسن الخُلق وإن كان جِبِلِّيًا، لكن في الحديث رمز إلى إمكان اكتسابه، وإلا لما صح الأمر به كما سيجيئ إيضاحه، والأمر به عامٌّ خُصَّ بمستحقه، فخرج الكفرة والظلمة، فأغلظ عليهم.
ثم هذا الحديث من القواعد المهمة لإبانته لخير الدارين، وتضمُّنه لما يلزم المكلَّف من رعاية حق الحق والخلق.
وقال بعضهم: وهو جامع لجميع أحكام الشريعة؛ إذ لا يخرج عنه شيء، وقال آخر: فصَّل فيه تفصيلًا بديعًا؛ فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام، كل منها جامع في بابه، ومترتب على ما قبله.
قال الراغب: الفرق بين الخُلق والتّخَلق: أن التخلُّق معه استثقال واكتساب، ويحتاج إلى بعث وتنشيط من خارج، والخلق معه استخفاف وارتياح، ولا يحتاج إلى بعث من خارج. فيض القدير (1/120).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قوله: «الناس»:
وإن كان لفظه عامًا إلا أنه أراد بذلك من يستحق تحسين الخلق له، فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على ظلم الناس، فلا يؤمر بتحسين الخُلق لهم، بل يؤمر بأن يغلظ عليهم. تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (2/209).
قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-:
«وخَالِق الناس بخُلق حسن»:
الناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن، بأن يحسن إليهم، ويراد بهم أيضًا غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل، والخُلق الحسن يشمل: ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل، والإحسان لمن له حق الإحسان. شرح الأربعين النووية (ص: 157).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وخَالِق الناس بخُلق حسن»:
هو ملَكة نفسانية تسهِّل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، والآداب المرضية، فتصير ذلك كالخلقة في صاحبه، فيدخل فيه التحرر من البخل والشحِّ والكذب وغير ذلك من الصفات المذمومة، ويدخل فيه التحبُّب إلى الناس بالقول والفعل، والبذل، وطلاقة الوجه مع الأقارب والأجانب، والتساهل في الأمور، والتسامح، وما يلزم من الحقوق، وترْك التقاطع والتهاجر، واحتمال الأذى مع الأعلى والأدنى، مع طلاقة الوجه، وإدامة البِشر.
فهذه الخصال تجمع محاسن الخلق، ومكارم الأفعال، ولقد كان جميع ذلك وأضعافه من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم-، وبه وصَفه الله بأنه على خلق عظيم، وجمع من قال:
طلاقة الوجه وكف الأذى *** وبذلك المعروف حسن الخلق.
هذه أمهات مكارم الأخلاق، وفي عَطْفِه على التقوى ما يشعرك بعلو شأن الخلق الحسن، وفي قوله: «الناس» إعلام بأنه يحسن خلقه مع كل مؤمن وكافر، قال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} البقرة: 83. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 314).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
وأوَّل الخلق الحسن: أن تكفَّ عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم، وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي، والإحسان الفعلي، وأخَصُّ ما يكون بالخلق الحسن: سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام، والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته ومشقة حشمته، وقد يحسن المزح أحيانًا إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه، وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عُدم أو زاد على الحد فهو مذموم.
ومن الخلق الحسن: أن تُعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل.
فمن اتقى الله، وحقق تقواه، وخالَق الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلق الحسن؛ فقد حاز الخير كله؛ لأنه قام بحق الله وحقوق العباد، ولأنه كان من المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 51).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
اشتَمَلَ هذا الحديث على أحكامٍ ثلاثة: حقُّ الله، وحقُّ المُكَلَّف، وحقُّ العِباد؛ أَمَّا حقُّ الله تعالى: فحيثُمَا كنتَ تَتَّقيهِ، فهوَ ناظر إليكَ ومعكَ ورقيب.
والتَّقْوَى لفظَةٌ وجِيزَةٌ جامعةٌ لكلِّ خيرٍ دينيّ ودُنيَويٍّ؛ لأنها امتِثالُ الأوامِر، واجتنابُ النَّواهِي.
وعبَّرَ عنهُ بعضهم: ألا يَرَاكَ حيثُ نهاك، ولا يفقدكَ حيثُ أَمَرك.
ولهذا قال بعضهم: إذا أردتَ أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك، أو اخرج من داره، أو كُلْ غيرَ رزقه!
وبتقوى الله يتضَمَّن ما تضمنه الحديثُ السالِفُ: «إنَّ اللهَ كتبَ الإحسان على كلِّ شيءٍ»، وكذا ما تَضمَّنَهُ حديثُ جبريل السالف من الإيمان والإسلام والإحسان؛ لأنَّ سائر أحكام التكليف لا تخرج عن أمر ونَهْي، فإذا اتقى الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى، فقد أَتى بجميع وظائف المكلفين.
وأَمَّا حقُّ المكلَّف فمَحو الحسنةِ بالسيئة، كما سلف: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} هود: 114، أي: عِظَةٌ لِمن اتَّعظ؛ فلا تعجز أيها المسكين إذا أتيت سيئة بقلبك، أو لسانك أو جوارحك، احتَلْ بأن تتبعها بحسنةٍ مِن صلاة، أو صدقة -وإنْ قَلت-، أو ذِكْرٍ.
والباقياتُ الصالحات: سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله، والله أكبر، أو سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم؛ فإنَّهُ أحبُّ الكلام إليهِ، وحبيب إلى الرحمن، وخفيف على اللسان، وثقيل في الميزان -كما سيأتي-.
فإنَّ عجزتَ عن إِتْبَاع الحسنة السيئة فأنتَ مخذُولٌ، والسيئةُ الصَّغيرةُ مقابلة بالحسنة الصغيرة والذكر اليسير، والكبائرُ بالتوبةِ والإنابةِ.
وأَمَّا حقّ العِباد: فهو مُخالقتهم -أي: معاشرتهم- بخُلُقٍ حسنٍ، فعامِلْهم بما تحب أن يعاملوك به؛ مِن: كفِّ الأذى، وبَذْل النَّدَى، وطلاقةِ الوجهِ؛ أي عامل النَّاس بما تُحِبّ أن يعاملوكَ به، فتجتمع القلوب، ويتفق السرُّ والعلانية، فتأْمَن الكيد والشر؛ وذلك جِماعُ الخير، ومِلاكُ الأمر -إن شاء الله تعالى-، وأثقل مَا وُضِعَ في الميزان: خلقٌ حسنٌ، وصحَّ أنَّ نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ خِيَارَكُمْ أحاسِنُكُمْ أَخْلاقًا»، وجاء: «إنَّ العَبْدَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِم بالنَّهار القَائِمِ باللَّيلِ…» الحديث، وهو مِن سِيما النَّبيين والمُرْسَلين، وخصوص المؤمنين، ويكفي في ذلك مَدْحُ الباري -سبحانه وتعالى- نبيَّه محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم: 4. المعين على تفهم الأربعين (ص242-243).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قال بعض السّلف لمن ودَّعه: اتقِ الله، فمن اتّقى الله فلا وحشة عليه.
وقال آخر لمن ودّعه للحجّ: أوصيك بما وصّى به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا حين ودّعه: «‌اتّقِ ‌الله ‌حيثُما ‌كنت، وأتْبِع السّيئة الحسنة تمْحُها، وخالِق النّاس بخلق حسن». وهذه وصيّة جامعة لخصال البرّ كلّها. لطائف المعارف (ص: 413).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وخالِقِ الناس بخلق حسن»:
عامِلهم بالأخلاق الحسنة بالقول والعمل؛ فإن ذلك خير، وهذا الأمر: إما على سبيل الوجوب، وإما على سبيل الاستحباب. الأربعون النووية بتعليقات الشيخ ابن عثيمين (ص: 28).
قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-:
وحُسن الخُلق تارة يكون طبعًا، وتارة يكون حَملًا يعني: طاعة لله -جل وعلا- لا طبعًا في المرء، وما كان من حُسن الخلق على امتثال الطاعة، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرًا ممن يفعله على وفق الطبيعة، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء: أن الأمر إذا أمر به في الشرع يعني: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع، فإذا امتثلها اثنان، فإن من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرًا في الإتيان بالواجبات.
كما ثبت في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لعائشة: «إن أجركِ على قدر نَصَبِك»، وهذا محمول على شيئين، يعني: مشروط بشرطين:
الأول: أن يكون من الواجبات.
والثاني: أن يكون مما توجَّه الأمر للعبد به، فيكون أجره على قدر مشقته في امتثال الأمر.
أما النوافل فلا؛ لحديث الذي يقرأ القرآن فيه تفاصيل القاعدة المعروفة عند أهل العلم. شرح الأربعين النووية (ص: 158)


ابلاغ عن خطا