«كُنَّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أَكْثَرُنَا ظِلًّا الذي يستظِلُّ بكسائِهِ، وأمَّا الذين صاموا فلم يعملوا شيئًا، وأمَّا الذين أفطروا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ، وامْتَهَنُوا وعالَجُوا، فقال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ذهب المفطِرون اليوم بالأجرِ».
رواه البخاري برقم: (2890)، ومسلم برقم: (1119)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«كسائه»:
الكَسْو: مصدر كَسوته أَكسوه كسوًا، والاسم الكِسوة والكِسَاء من هذا اشتقاقه. والكُسْوَة والكِسْوَة لغتان، وهي لباس. جمهرة اللغة، لابن دريد (2/857)
«الرِّكَاب»:
الإبل التي تحمل القوم، وهي رِكاب القوم إذا حملت، أو أريد الحمل عليها، سُمِّيت رِكابًا، وهو اسم جماعة. لسان العرب، لابن منظور (1/431).
قال ابن العطار -رحمه الله-:
والرِّكاب: الإبل، وتجمع رَكَائِب. العدة في شرح العمدة (2/ 872).
«امتهنوا»:
"المَهْنَةُ الْخِدْمَةُ. ومَهَنَهُم أَي خَدَمَهُمْ، وأَنكر أَبو زَيْدٍ المِهْنةَ، بِالْكَسْرِ، وفتَح الْمِيمَ. وامْتَهَنْتُ الشَّيْءَ: ابْتَذَلْتُهُ. وَيُقَالُ: هو في مِهْنةِ أَهله، وَهِيَ الْخِدْمَةُ وَالِابْتِذَالُ". لسان العرب (13/ 424)
وقال الكرماني -رحمه الله-:
والامتهان: الخدمة والابتذال. الكواكب الدراري (12/ 158).
«عالجوا»:
"عالَج الشيءَ مُعالجة وَعِلَاجًا: زَاوَلَهُ؛ ...وعالَج المريضَ مُعالجة وعِلاجاً: عَانَاهُ. والمُعالِجُ: المُداوي سَوَاءٌ عالَجَ جَريحاً أَو عَليلًا". لسان العرب (2/ 327).
شرح الحديث
قوله: «كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
يَحتمِلُ: أنه في غزوة تبوك، أو الفتح. كشف اللثام (3/550).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هو سفر غزوة الفتح، وفي رواية قَزَعةَ (أحد الرواة) الآتية: «سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة ونحن صيام». البحر المحيط الثجاج (21/ 123).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كُنَّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-» زاد مسلم من وجه آخر عن عاصم: «في سفر، فمِنَّا الصائم ومِنَّا المفطر، قال: فنزلنا منزلًا في يوم حارٍّ». فتح الباري (6/ 84).
قوله: «أكثرنا ظلًّا الذي يستظِلُّ بِكِسَائِه»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «أكثرنا ظلًّا من يستظِلُّ بِكِسَائِه» يريد: لم يكن لهم أَخْبِيَة (يعني: خيامًا)؛ وذلك لِمَا كانوا عليه من القِلَّة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (17/ 591).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
قوله: «وأكثرنا ظِلًّا صاحب الكِسَاء» أي: إن أكثرَهم ظِلًّا من له كِسَاء يلقيه على رأسه اتقاءً لحرِّ الشمس.
فيه: دلالة على عدم احتفالهم بآلات السفر، كالخيم والفساطيط (يعني: بيوت الشَّعْرِ) ونحو ذلك، بحيث إنهم لم يكن معهم ما يَتَّقون به حرَّ الشمس، وإن أكثرهم ظِلًّا من له كساء، بل كان جلُّ احتفالهم -رضي الله عنهم- بآلات الحروب، وما يُعْنِى من ذلك، ويحتاج إليه على سبيل الضرورة، بخلاف حال أهل زماننا على ما يُرى. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/ 435).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أكثرنا ظِلًّا مَنْ يَستظِلُّ بكسائه» في رواية مسلم: «وأكثرنا ظِلًّا صاحب الكساء»، وزاد: «ومِنَّا مَنْ يتَّقي الشمس بيده». فتح الباري (6/ 84).
قوله: «وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئًا»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فأما الذين صاموا فلم يصنعوا شيئًا» في رواية مسلم: «فسقط الصُّوَّام» أي: عجزوا عن العمل. فتح الباري (6/ 84).
قوله: «وأما الذين أفطروا فبعثوا الرِّكَاب»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فبعثوا الرِّكاب» أي: أثاروا الإبل لخدمتها وسقيها وعلفها، وفي رواية مسلم: «فضربوا الأخبية، وسقوا الرِّكاب». فتح الباري (6/ 84).
قوله: «وامتهنوا وعالجوا»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
«وامتهنوا» الامتهان: الابتذال في الخدمة من المهانة، وهي الحقارة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 459).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وعالجوا» أي: خدموا الصائمين، وتناولوا السقي والعلف، وفي رواية مسلم: «فضربوا الأبنية» أي: البيوت التي يسكنها العرب في الصحراء كالخِباء والقُبُّة، وسقوا الرِّكاب. إرشاد الساري (5/ 88).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وعالجوا» أي: تناولوا الطبخ والسقي، وكل هذا عبارة عن الخدمة، وهي أعمُّ من أن يخدموا أنفسهم أو يخدموا غيرهم، أو يخدموا أنفسهم وغيرهم، بل هم خدموا الصائمين؛ لأنهم سقطوا. عمدة القاري (14/ 174).
قوله: «فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ذهب المفطرون اليوم بالأجر»:
قال الشيخ بندر العبدلي -حفظه الله-:
قوله: «ذهب» أي: اختصَّ. شرح كتاب الصيام من عمدة الأحكام (ص: 18).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» فيه من المبالغة ما فيه، أي: أنهم مضوا واستصحبوا معهم الأجر، ولم يتركوا لغيرهم شيئًا منه، كما في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} البقرة: 17. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1598).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«اليوم» أي: يوم كان الناس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر، فصام قوم فلم يصنعوا شيئًا؛ لعجزهم عن العمل، وأفطر قوم فبعثوا الرِّكاب وعالجوا، فبشَّرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم ذهبوا «بالأجر» أي: الوافر. فيض القدير (3/566).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفي ذكر اليوم إشارة إلى عدم إطلاق هذا الحكم. مرقاة المفاتيح(4/ 1402).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «بالأجر» أي: الوافر، وليس المراد نقص أجر الصُّوَّام، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم، ومثل أجر الصُّوَّام؛ لتعاطيهم أشغالهم وأشغال الصُّوَّام، فلذلك قال: «بالأجر كله»؛ لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. فتح الباري (6/ 84).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فإن قيل: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوم صاموا في السفر وقعدوا، وآخرين سقوا واستقوا، واطحنوا لهم واعتجنوا «ذهبَ المفطرُونَ اليوم بالأجْرِ» فجعل أجر أهل الفطر في السفر أكثر من الصيام.
قلنا: قد اتَّفقنا على أنَّ مَنْ أفطر في السفر ليس له أجره في الصوم، فضلًا عن أن يكون أجره مثل أجر الصائم أو فوقه، وإنما أراد -صلى الله عليه وسلم- أن أجرَ الخدمة في السفر والقدرة على العدو أفضلُ من أجر الصائم؛ لأنه يتقوى لعدوِّه؛ ولأنه يحصل له مثل أجر الصائم لخدمته له، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن فطَّرَ صائمًا فله مثلُ أجرِهِ»، وكذلك نقول نحن: إن الفطرَ عند مُداناةِ العدوِّ أفضلُ. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 497).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فاللام (يعني في قوله: «الأجر») للعهد، ويَحتمِلُ: كونها للجنس، وتُفيد المبالغةُ بأن يبلغ أجرهم مبلغًا ينغمر فيه أجر الصُّوَّام، فيجعل كأن الأجر كلَّه للمفطر كما يقال: زيد الشجاع. فيض القدير (3/566).
وقال السندي -رحمه الله-:
«ذهب المفطرون بالأجر» أي: حصل لهم بالإعانة في سبيل الله من الأجر فوق ما حصل للصائمين بالصوم، بحيث يقال: كأنهم أخذوا الأجر كلَّه، والله تعالى أعلم. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 182).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» ففيه أمران:
أحدهما: أنه إذا تعارضت المصالح قُدِّم أُوْلَاها وأقواها.
والثاني: أن قوله: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» فيه وجهان:
أحدهما: أن يُرادَ بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها، والمصالح التي جرت على أيديهم، ولا يُرادُ مطلق الأجر على سبيل العموم.
والثاني: أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغًا ينغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك، ويجعل كأن الأجر كله للمفطر، وهذا قريب مما يقوله بعض الناس في إحباط الأعمال الصالحة ببعض الكبائر، وأن ثواب ذلك العمل صار مغمورًا جدًّا بالنسبة إلى ما يحصل من عقاب الكبيرة، فكأنه كالمعدوم المحبط، وإن كان الصوم ها هنا ليس من المحبطات، ولكن المقصود: التشبيه في أن ما قلَّ جدًّا قد يجعل كالمعدوم مبالغة، وهذا قد يوجد مثله في التصرفات الوجودية، وأعمال الناس في مقابلتهم حسنات من يفعل معهم منها شيئًا بسيئاته، ويجعل اليسير منها جدًّا كالمعدوم بالنسبة إلى الإحسان والإساءة، كحجامة الأب لولده في دفع المرض الأعظم عنه، فإنه يُعدُّ محسنًا مطلقًا، ولا يُعدُّ مسيئًا بالنسبة إلى إيلامه بالحجامة، ليسارة ذلك الألم بالنسبة إلى دفع المرض الشديد. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 22-23).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
ذَكَرَ هذين ابن دقيق العيد، ولم يرجِّحْ منهما شيئًا، ورجحتُ الأول؛ لأنه اللائق بالسياق؛ إذْ على الثاني لا يبقى في تخصيصهم بذلك كبير فائدة. فتح الإله في شرح المشكاة (6/504).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ذهب المفطرون اليوم بالأجر» لِمَا كفوا الصائمين مُؤْنةَ ضرب الأبنية وسقي الرِّكاب. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 317).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال أبو عبد الله ابن أبي صُفْرَة: فيه: أن أجر الخدمة في الغزو أعظمُ من أجر الصيام، إذا كان الْمُفْطِرُ أقوى على الجهاد، وطلب العلم، وسائر الأعمال الفاضلة من مَعونَةِ ضعيفٍ، أو حَمْلِ ما بالمسلمين إلى حمله حاجة.
وفيه: أن التعاون في الجهاد والتفاضل في الخدمة من حِلٍّ (يعني: مكان النزول) وتِرْحَال (يعني: السفر) واجب على جميع المجاهدين.
وفيه: جواز خدمة الكبير للصغير إذا رعى له شرفًا في قومه أو في نفسه، أو نجابةً في علم أو دين أو شبهه، وأما في الغزو فالخادم المحتسب أفضل أجرًا من المخدوم الحسيب. شرح صحيح البخاري (5/84-85).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا لابن أبي صفرة:
قال ابن أبي صُفْرَة: فيه: أن أجر الخدمة في الغزو أعظم من أجر الصيام.
قلتُ: وليس ذلك على العموم.
وفيه: الحضُّ على المعاونة في الجهاد، وعلى أن الفطر في السفر أولى من الصيام، وأن الصيام في السفر جائز خلافًا لمن قال: لا ينعقد.
وليس في الحديث بيان كونه إذْ ذاك كان صوم فرض أو تطوع.
وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها المصنف (يعني: البخاري) أيضًا في غير مظنتها (يعني: مكانها المناسب لها)؛ لكونه لم يذكره في الصيام، واقتصر على إيراده هنا، والله أعلم. فتح الباري (6/ 85).
وقال العيني -رحمه الله- مُتعقِّبًا لابن حجر:
قيل: هذا الحديث من الأحاديث التي أوردها في غير مظانها؛ لكونه لم يذكره في الصيام، واقتصر على إيراده هنا.
قلتُ: يمكن أن يقال: إن له بعض مَظِنَّة هنا، وهو أن قوله: «فبعثوا الرِّكاب، وامتهنوا وعالجوا» عبارة عن الخدمة؛ لأن معنى قوله: «بعثوا الرِّكاب» أي: إلى الماء للسقي، والرِّكاب: بالكسر الإبل التي يسار عليها، ومعنى قوله: «وامتهنوا» أي: خدموا؛ لأن الامتهان: الخدمة والابتذال، ومعنى قوله: «وعالجوا» أي: تناولوا الطبخ والسقي، وكل هذا عبارة عن الخدمة، وهي أعمُّ من أن يخدموا أنفسهم أو يخدموا غيرهم، أو يخدموا أنفسهم وغيرهم، بل هم خدموا الصائمين؛ لأنهم سقطوا على ما يجيء من رواية مسلم، وكان ذلك في السفر؛ لأن في رواية مسلم عن مُوَرِّقٍ عن أنس، قال: «كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر...» الحديث، فحينئذٍ يطابق الحديث الترجمة (يعني: عنوان الباب) من هذا الوجه. عمدة القاري (14/ 174).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
فيه: ردٌّ على مَنْ يقول: إن المسافر لا يصح صومه. المفهم (3/ 182).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث دليل على ما كانت الصحابة عليه من الزَّهادة في الدنيا، والصبر على المؤلِمَّات في طاعة الله تعالى.
وفيه: جواز حكاية مثل ذلك للقدوة والتأسي.
وفيه: جواز اتِّخاذ الأبنية ونحوها في الأسفار للاستظلال.
وفيه: اتِّقاء الشمس وحرِّها عن البصر والبدن باليد ونحوها.
وفيه: وجوب القيام بمصالح الدواب من الإبل وغيرها بالسقي وغيره.
وفيه: التنبيه على فعل الرخصة بكثرة الأجر فيه إذا كان في تركها مشقَّة.
وفيه: أن اطِّلاع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الشيء وتقريره إياه من غير نكير شرع، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أقرَّهم على الصوم والفطر.
وفيه: أنه إذا تعارضت المصالح قُدِّمَ أُوْلَاها وأقواها، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 873).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أن الفطر لمن شقَّ عليه الصوم أفضل. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 317).
وقال الشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني -رحمه الله-:
من أساليب الدعوة: الترغيب، دلَّ هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- للمجاهدين: «ذهب الْمُفْطِرُون اليوم بالأجر»...، فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب في دعوته؛ لِمَا له من الأهمية والتأثير في نفوس المدعُوِّين. فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري (1/420-421).