قال رجلٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف لي أنْ أعلم إذا أحسنتُ وإذا أسأتُ؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سمعتَ جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنتَ، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأتَ».
رواه أحمد برقم: (3808)، وابن ماجه برقم: (4223)، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1327)، صحيح الجامع برقم: (610).
شرح الحديث
قوله: «قال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف لي أنْ أعلم إذا أحسنتُ وإذا أسأتُ؟»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
«كيف لي؟» أي: كيف يحصل لي العلم بإحساني إذا صدر مني؟ الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3193).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كيف لي أنْ أعرف إذا أحسنتُ أو إذا أسأتُ؟» وفي نسخة بالواو بمعنى (أو)، والمعنى: كيف يحصل لي العلم بإحساني أو إساءتي إذا صدر مني عمل غير معروف حُسنه وقُبحه شرعًا؟ مرقاة المفاتيح (8/ 3124).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل» من المسلمين، ولم أرَ مَن ذكر اسمه «فقال» ذلك الرجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا رسول الله، كيف» يثبت «لي» ويحصل «أن أعلم إذا أحسنتُ» العمل؟ و«إذا» معترضة بين العلم ومفعوله؛ وهو قوله: «أني قد أحسنتُ»، والتقدير: وكيف يحصل لي علم إحسان عملي وقت إحساني إياه؟
وجملة قوله: «وإذا أسأتُ» عملي فكيف يحصل لي «أني قد أسأتُ» عملي معطوفة على جملة الإحسان؛ أي: وكيف يحصل لي علمي بإساءة عملي وقت إساءتي إياه؟ مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/ 37-38).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «كيف لي أنْ أعلم؟» كأنَّه سأل عن معرفة الإحسان إلى الخلق أو مع الخالق، والجواب مبني على ما جاء «أنتم شُهداء الله» والله تعالى أعلم. حاشية السندي على مسند أحمد (1/645-646).
قوله: «إذا سمعتَ جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنتَ، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأتَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا سمعتَ جيرانك» أي: جميعهم؛ لعدم اجتماعهم على الضلالة غالبًا.
«يقولون: قد أحسنتَ فقد أحسنتَ، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ فقد أسأتَ» فيه: إشارة إلى أنَّ ألسنة الخلق أقلام الحق. مرقاة المفاتيح (8/ 3124).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أراد بهذا الحديث: أن المُحْسِن مَن سلم الناس من يده ولسانه، والمسيء: مَن لم يسلم الناس من يده ولسانه. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 227).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إذا سمعتَ جيرانك» بكسر الجيم، أي: الصلحاء منهم «يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنتَ» أي: كنتَ من المحسنين؛ سترًا من الله، وتجاوزًا عما عُرف من الْمُثْنَى عليه مما انفرد بعلمه؛ لأن العفو من صفاته، وإذا تجاوز عمَّن يستحق العذاب في علمه، وحَكَمَ بشهادة الشهود كان ذلك منه مغفرة وفضلًا و{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} المدثر: 56.
«وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ» أي: كنتَ من المسيئين؛ لأنهم إنما شهدوا بما ظهر من سيِّئ عمله، وهو به عاصٍ، فإذا عذَّبه الله بحق ما ظهر من عمله سيِّئ الموافق للشهادة، ولا يجوز أن يعذبه بما شهدوا عليه وهو عنده على عمل صالح. فيض القدير (1/ 378).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
ينبغي أن يُقَيَّد بكون الجيران من أهل الحق والإنصاف غير مُفرِطين في المحبة والعداوة، كما قالوا مثل ذلك في حديث: «مَن أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومَن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، أنتم شهداء اللَّه في الأرض» وذلك ظاهر، ويجوز أن يُجعل هذا كناية عن الإحسان إلى الجيران. لمعات التنقيح (8/ 264).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قال العلقمي: قال الدميري: هذا الحديث نظيره ما في الصحيحين عن أنس لَمَّا مُرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال: «وجبت وجبت وجبت»، ومُرَّ عليه بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال كذلك، ثم قال: «أنتم شهداء الله في الأرض، مَن أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومَن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار».
والمراد أن الشخص إذا أثنى عليه جيرانه أنه محسن كان من أهل الإحسان، وإذا أثنوا عليه شرًّا كان من أهله.
واستعمال الثناء في الشر للمؤاخاة والمشاكلة، وحقيقته إنما هي في الخير.
قلتُ: وهذا رأي الجمهور، وعند ابن عبد السلام أنه حقيقة فيهما. السراج المنير (1/ 135).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا سمعتَ جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنتَ» أي: في نفس الأمر، وعند الله تعالى، «وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأتَ» عند الله، وفي نفس الأمر...، فالله تعالى جعل ما يجري على ألسن العباد دليلًا لما عنده من حال عبده، ويحتمل أنه خص جيرانه هنا بالذكر وأنه إذا أحسن إليهم اغتفرت إساءته في غير ذلك؛ لعظمة حق الجار، وإذا أساء إليهم لم يعتد بإحسانه إلى غيرهم. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 98).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال» لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: في إجابة سؤالي: «إذا قال» لك «جيرانك: إنك قد أحسنتَ» عملك «فقد أحسنتَ» أي: فقد وُفِّقتَ إلى إحسان عملك، «وإذا قالوا» أي: قال لك جيرانك: «إنك قد أسأتَ» عملك الآن «فقد أسأتَ» عملك الآن؛ أي: لم توفَّق إلى إحسانك إياه.مرشد ذوي الحجا والحاجة (26/ 38).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال أبو عبيد: فلا أرى النبي -صلى الله عليه وسلم- رضي بدون إجماع الجيران على الثناء. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (16/ 487).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
أي: إذا ذكرك صلحاء جيرانك وأصحابك ومعامليك بخير وصلاح وحسن معاملة فلا شك أنت من أهله؛ فإنَّ إطلاق ألسنة الخلق التي هي القلم الحق بشيء في العاجل، عنوان على ما يسير إليه في الآجل، والثناء بالخير دليل على محبة الله تعالى لعبده. إتحاف السادة المتقين (2/ 6).