الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«يَتَعاقَبُون فيكم ‌ملائكةٌ ‌بالليلِ ‌وملائكةٌ ‌بالنهارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ، ثم يَعْرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسأَلهم وهو أَعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأَتيناهم وهم يصلون».


رواه البخاري برقم: (555) واللفظ له، ومسلم برقم: (632)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«يتعاقبون»:
أي: يعقُب بعضهم بعضًا، ويكون بعضهم في عقِب بعض، إذا انصرفت ملائكة عاقبتهم ملائكة. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 424).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«يتعاقبون» يتناوبون. الكواكب الدراري (25/ 135)

«يَعْرُجُ»:
عرَجَ... أي: صعد، والْمَعْرَج: المصعد. العين، للفراهيدي (1/ 223).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
العروج: هو الارتقاء. فتح القريب المجيب (3/ 472).

«باتوا»:
البيتوتة: دخولك في الليل. العين، للفراهيدي (8/ 138).
وبيَّتّ الأمر تبييتًا: إذا عملته بالليل. جمهرة اللغة، لابن دريد (1/ 257).


شرح الحديث


قوله: «يتعاقبون فيكم ‌ملائكة ‌بالليل ‌وملائكة ‌بالنهار»:
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «يتعاقبون» قيل: هو كقوله تعالى: {وَأَسَرُّوا ‌النَّجْوَى ‌الَّذِينَ ‌ظَلَمُوا} الأنبياء: 3، وعلى اللغة الضعيفة المشهورة عندهم بلغة: (أكلوني البراغيث) والوجه ما عليه أكثر النحاة من تخريجه على أن ملائكة بدل من الواو التي هي الفاعل، وهذا لا شذوذ فيه. فتح الإله في شرح المشكاة (3/87).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
التعاقب: التناوب والتداول، والمعنى: أن كل ملائكة تأتي تعقب الأخرى. فتح الباري (4/ 326).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ومعنى: «يتعاقبون» تأتي طائفة بإثر طائفة، وبعدها طائفة، وإنما يكون التعاقب بين طائفتين، أو بين رَجُلين، مرة هذا، ومرة هذا، ومنه قولهم: الأمير يعقب البعوث، أي: يرسل هؤلاء ندبًا شهرًا أو أشهرًا، وهؤلاء شهرًا أو أشهرًا، ثم يردهم، ويعقبهم بآخرين، فهذا هو التعاقب.
ومعنى هذا الحديث: أن ملائكة النهار تنزل في صلاة الصبح، فيحصون على بني آدم، ويعرج الذين باتوا فيهم ذلك الوقت، أي: يصعدون، وكل من صعد في شيء، فقد عرج؛ ولذلك قيل للدَّرَج: المعارج، فإذا كانت صلاة العصر نزلت ملائكة الليل معقِّبة فأحصوا على بني آدم، وعرجت ملائكة النهار، يتعاقبون هكذا أبدًا، والله أعلم. التمهيد (11/ 655).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث، البارئ سبحانه محيط بالكل، عالم بالجميع، له الحُجَّة البالغة التي لا يتطرق إليها اختلال، ولا يتوجه عليها سؤال، فلو شاء ما قرن الملائكة بالخَلق لكتب الأعمال، ولكنه كما جاء في الحديث؛ إنه قال: «عبادي إنما هي إعمالكم أحصيها عليكم»، فيُوقِف كل واحد على عمله، فإن أقر أخذ به، وإن أنكر شهدت عليه كل جارحة على نفسها؛ وذلك قوله تعالى: {‌وَمَا ‌كُنْتُمْ ‌تَسْتَتِرُونَ ‌أَنْ ‌يَشْهَدَ ‌عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} فصلت: 22. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 204).
وقال ابن العربي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» خلق البارئ تعالى الأزمنة سواء، وفضَّل بعضها على بعض بما شاء، فمن فضائل النهار: تعاقب الملائكة ونزولهم بالأمر، ومن فضائل الليل: نزول الرب إلى السماء الدنيا، (كما) في حديث النزول...
قوله: «الملائكة» يحتمل أن تكون الملائكة الذين هم الحفظة الكرام الذين قال الله: {‌يَحْفَظُونَهُ ‌مِنْ ‌أَمْرِ ‌اللَّهِ} الرعد: 11، ويحتمل أن تكون المعقِّبات؛ لقوله: «يتعاقبون»...
قوله: «يتعاقبون» أي: طائفة بإثر طائفة، وإنما يكون التعاقب بين طائفتين، أو بين رَجُلين، مرة هذا ومرة هذا، ومنه قوله: الإمام يعقب الجيوش، أي: يرسل هؤلاء وقتًا شهرًا وشهورًا.
وأما قوله: «يتعاقبون» فجمع، وقد تقدم الفعل، وإنما خاطب بذلك من هذه لغته الذين قالوا: "أكلوني البراغيث"...
ومعنى الحديث: أن ملائكة النهار تنزل في صلاة الصبح فيحصون على بني آدم، وتعرج ملائكة الليل الذين باتوا فيهم ذلك الوقت، أي: يصعدون، وكل من صعد فقد عرج، فإذا كانت صلاة العصر نزلت ملائكة الليل فأحصوا على بني آدم، وعرجت ملائكة النهار، وهكذا أبدًا، حتى ينفد عمر بني آدم.
فإن قيل: فإذا مات العبد، ما تصنع الملائكة الحفظة الموكلون به؟
قال بعض العلماء: إنهم يستغفرون له. وقال غيرهم من المتأخرين: إنهم يكتبون له الحسنات في كل من سبَّه وأخذ في عرضه، فتكتبها له، والله أعلم. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 204- 205).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار»:
يحتمل أن يكون هؤلاء (الملائكة) هُم الحفظة الكُتّاب، وأن ذلك مما يخص كل إنسان، وعليه حمله الأكثرون، وهو الأظهر، وقيل: يحتمل أن يكون من جملة الملائكة لجملة الناس. إكمال المعلم (2/ 598).
وقال ابن حجر -رحمه الله- بعد نقل كلام القرطبي السابق:
ويقويه (أي: أنهم غير الحفظة) أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله: «كيف تركتم عبادي؟» فتح الباري (2/ 35).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فيكم» أي: المصلين أو مطلق المؤمنين. فتح الباري (2/ 35).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: التعاقب مغاير للاجتماع فيكون بين قوله: «يتعاقبون» وبين قوله: «يجتمعون» منافاة، قلتُ: كل منهما في حالة، فلا منافاة. عمدة القاري (5/ 45).

قوله: «ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر» لطفٌ من الله تعالى بعباده المؤمنين وتكرمة لهم، أن جعل اجتماعهم عندهم وورودهم عليهم ومفارقتهم لهم في أوقات عباداتهم؛ ليكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة، وثناؤهم عليهم أطيب ثناء، وقد زاد هؤلاء في هذا الحديث على من روى الاجتماع في صلاة الصبح فقط، وعضده بقوله: {وَقُرْآنَ ‌الْفَجْرِ ‌إِنَّ ‌قُرْآنَ ‌الْفَجْرِ ‌كَانَ ‌مَشْهُودًا} الإسراء: 78، فقد تبين في هذا الحديث أن الاجتماع في وقتين. إكمال المعلم (2/ 599).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر» وذاك أن ملائكة الليل تهبط عند صلاة العصر، وملائكة النهار تهبط قبل صلاة الفجر، وإنما فعل الحق سبحانه ذلك ليُظهر للملائكة فضيلة هذه الأُمَّة؛ ولهذا في تمام الحديث: «فيقول لهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهو يصلون». كشف المشكل (3/ 427).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر» يعني: يكتب الملائكة الذين يكونون مع الناس في الليل حتى يجيء الملائكة الذين يكونون معهم في النهار؛ أي: في النهار عند صلاة الصبح، فإذا جاء الذين يكونون معهم في النهار وقتَ صلاة الصبح يعرج الذين كانوا معهم في الليل، وإذا كان وقت العصر يجيء الذين يكونون معهم في الليل ويعرج الذين جاؤوا وقت الصبح.
والمراد بهذا الحديث تحريض الناس على المواظبة على هاتين الصلاتين. المفاتيح (2/ 34).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر» وإنما جمعهم الله ليكونوا شهداء لعبادة عباده، (و) خصَّ هذين الوقتين؛ لأن العبادة فيهما مع كونهما وقت اشتغال وغفلة أدل على الخلوص. شرح المصابيح (1/ 385).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ويجتمعون في الفجر وصلاة العصر» اجتماعهم لا ينافي تعاقبهم؛ لأن التعاقب يصدُق مع الاجتماع كهذا، وبدونه كتعاقب الضدين، أو المراد باجتماعهم: اجتماعهم في الصلاة جماعة، وبالتعاقب: التعاقب خارجها. منحة الباري (2/ 271).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ويجتمعون في صلاة الفجر» أي: أولها «وصلاة العصر» أي: آخرها واجتماعهم في الوقتين من لُطف الله؛ ليكونوا شاهدين بما شهدوه من الخير، وقيل: خُصَّتا لأن العبادة فيهما مع كونهما وقت اشتغال وغفلة أدل على الخلوص. مرقاة المفاتيح (2/ 541).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
والصبح فاتحة الحياة ومبدأ الأعمال كما أن العصر والعَتَمة فاتحة الصحائف، وربما إذا صلى العتمة لم يصلِّ بعدها أبدًا. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 203).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وأما تعاقبهم في هذين الوقتين فلأنهما وقت الفراغ من وظيفتَي الليل والنهار، ووقت رفع أعمال العباد إلى الله تعالى. الكواكب الدراري (4/ 200).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه إشارة إلى الحديث الآخر «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما» فمن ثم وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه. فتح الباري (2/ 35).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: شهودهم معهم الصلاة في الجماعة أم مطلقًا؟ قلتُ: اللفظ يحتمل للجماعة وغيرهم، ولكن الظاهر أن ذلك في الجماعة. عمدة القاري (5/ 45).

قوله: «ثم يَعْرُجُ الذين باتوا فيكم»:
قال العيني -رحمه الله-:
وقال بعضهم: أي: المصلين أو مطلق المؤمنين، قلتُ: لا يصح أن يكون مطلق المؤمنين؛ لأن هذه الفضيلة للمصلين، والدليل على ذلك قوله: «يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر». عمدة القاري (5/ 45).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
ومعنى قوله: «باتوا فيكم» إقامتهم فيهم؛ لأنّ الملائكة لا نوم عندهم، يسبحون الليل والنهار. الكوثر الجاري (2/ 226).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فهو (وقت العصر) وقت العروج وعرض الأعمال على الله تعالى، فيوجب الله تعالى فيه مغفرته للمصلين من عباده. شرح صحيح البخاري (2/ 521).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قال الشارح الأول: قوله: «ثم يعرج...» إلى آخره: فيه إيذان بأن ملائكة الليل لا يزالون حافظين العباد إلى الصبح، وكذلك ملائكة النهار إلى الليل، انتهى.
وفيه نظر؛ إذ تغايرهم وحفظهم المحتمل لكونه حفظًا مخصوصًا لا يستلزم أنهم الحفظة. فتح الإله في شرح المشكاة (3/88).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ثم يعرج الذين باتوا فيكم» استدل به بعض الحنفية على استحباب تأخير صلاة العصر؛ ليقع عروج الملائكة إذا فرغ منها آخر النهار.
وتُعُقِّب بأن ذلك غير لازم؛ إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة، بل جائز أن تفرغ الصلاة ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار، ولا مانع أيضًا من أن تصعد ملائكة النهار وبعض النهار باقٍ، وتقيم ملائكة الليل، ولا يرد على ذلك وصفهم بالمبيت بقوله: «باتوا فيكم»؛ لأن اسم المبيت صادق عليهم ولو تقدمت إقامتهم بالليل إقامتهم قطعة من النهار. فتح الباري (2/ 35).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما وجه التخصيص بالذين باتوا وتَرْك ذِكْر الذين ظلوا؟
قلتُ: إما للاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر؛ لقوله تعالى: {‌سَرَابِيلَ ‌تَقِيكُمُ ‌الْحَرَّ} النحل: 81، وإما لأن الليل مظنة المعصية ومظنة الاستراحة فلما لم يعصوا فيه واشتغلوا بالطاعة في النهار أولى بذلك، وإما لأن حكم طرفي النهار يُعلم من حكم طرفي الليل فذكره يكون تكرارًا. الكواكب الدراري (4/ 200).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قوله: «ثم يعرج الذين باتوا فيكم» ولم يذكر عروج الملائكة الذين كانوا بالنهار، ولا أن الله تعالى يسألهم كيف تركتم عبادي كما يسأل ملائكة الليل، فهل يظهر لذلك معنى أم لا؟
والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الليل محل اختفاء واستتار عن الأعين وإغلاق الناس أبوابهم على ما يبيتون عليه، فكان سؤال ملائكة الليل أبلغ في أنهم لم يروا إلا خيرًا من مجيئهم إليهم وهم يصلون وتركهم وهم يصلون بخلاف النهار، فإنه محل الانتشار والإظهار وإن أمكن الاختفاء فيه والإظهار في الليل ولكن جرى ذلك على غالب الأحوال.
والوجه الثاني: أن ملائكة الليل إذا صلوا معهم الصبح عرجوا فحسن سؤالهم ليجيبوا بما فارقوهم عليه، وملائكة النهار قد لا يعرجون بعد الصلاة بل يستكملون في الأرض بقية النهار؛ لأنهم يضبطون ما وقع في جميع النهار بناء على القول بأنهم الحفظة، وعلى تقدير كونهم غير الحفظة فقد أخبر أنهم «ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» والظاهر منهم استيعاب النهار، وإذا لم يفارقوا بني آدم عقب الصلاة أمكن أن يطرأ بعد الصلاة ما لا يريد الله تعالى منهم الإخبار به وهو أعلم أو ما لا يريدون هم أن يشهدوا به فلم يسألهم عن ذلك.
والوجه الثالث: أنه يحتمل أن يكون إنما تعرج ملائكة الليل فقط، وأنهم الذين يعرجون وينزلون وأن ملائكة النهار هم الحفظة لا يفارقون بني آدم، ويقوي هذا الثالث أنه لم يُنقل لنا عروج ملائكة النهار، وفيه موافقة الجمهور في أن المراد الحفظة، فيحمل على أن الحفظة ملائكة النهار وأنهم مقيمون مع بني آدم، وأن ملائكة الليل غير الحفظة ينزلون من العصر إلى صلاة الصبح، ولا يضر في ذلك قوله: «يتعاقبون»؛ إذ التعاقب يقتضي الاشتراك، فقد يَرِدُ التفاعل على غير بابه كقولهم: طارقت النعل، والله أعلم.
وقد اقتصر الشيخان في بعض طرقه على اجتماع الملائكة في الصبح فقال: «ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر»، ثم يقول أبو هريرة: فاقرءوا إن شئتم: {‌إِنَّ ‌قُرْآنَ ‌الْفَجْرِ ‌كَانَ ‌مَشْهُودًا} الإسراء: 78. طرح التثريب (2/ 306).
وقال الكوراني -رحمه الله- أيضًا:
والأظهر في الجواب: أن ملائكة الليل يشهدون أربع صلوات: العصر والمغرب والعشاء والصبح، فهم أكثر علمًا واطلاعًا. الكوثر الجاري (11/ 233).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
وقيل: استعمل «باتوا» بمعنى: أقاموا، سواء كان ليلًا أو نهارًا، وهذا أصح وأقوى، ويؤيده رواية النسائي: «الذين كانوا فيكم»، ولابن خزيمة وغيره: «يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل، وتثبت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر، فتصعد ملائكة النهار، وتثبت ملائكة الليل». التوشيح (2/ 605).

قوله: «فيسأَلهم وهو أَعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
سؤال الله لهم على ظاهره «والله أعلم بهم» تعبد منه تعالى للملائكة، كما أمرهم أن يكتبوا أعمالهم وهو أعلم بالجميع. إكمال المعلم (2/ 598).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم» بشأنهم، وما علموا من حال عباده؛ فليس السؤال للاستعلام بل لإقرار الملائكة بقيام عباده بأشرف الطاعات، وهي: صلاة العصر، وصلاة الصبح. الكوثر الجاري (2/ 226).
وقال الكوراني -رحمه الله- أيضًا:
«فيسألهم ربهم» فإنه يدل على كلام الله. الكوثر الجاري (11/ 270).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
سؤاله تعالى عن الملائكة إما لأن يتباهى بعباده العاملين، وإما للتوبيخ على القائلين: {‌أَتَجْعَلُ ‌فِيهَا ‌مَنْ ‌يُفْسِدُ ‌فِيهَا} البقرة: 30. شرح المصابيح (1/ 386).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فيسألهم» قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم؛ وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة: {‌أَتَجْعَلُ ‌فِيهَا ‌مَنْ ‌يُفْسِدُ ‌فِيهَا ‌وَيَسْفِكُ ‌الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} البقرة: 30، أي: وقد وجد فيهم من يسبِّح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم. فتح الباري (2/ 36- 37).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أعلم بهم» أي: بالمؤمنين من الملائكة، فحُذفت صلة التفضيل.
قلتُ: إلا أن يراد: عالم؛ فلا حاجة لصلة. اللامع الصبيح (3/ 366).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله تعالى: «كيف تركتم عبادي؟» قال علماؤنا: سؤال البارئ سبحانه للملائكة ليس هو سؤال استخبار؛ فإنه أعلم بهم وبسرِّهم وجهرهم، وإنما هو على معنى التعبُّد الذي كلفهم وأمرهم أن يكتبوا ويحصوا جميع أعمال العباد...
قال: فتقول الملائكة: «تركناهم وهم يصلون» فيحب البارئ أن يسمع ذكرهم بالطاعة.
قال أهل الإشارة: إنما ذلك لتقوم الحجة على الملائكة حين قالت: {أَتَجْعَلُ ‌فِيهَا ‌مَنْ ‌يُفْسِدُ ‌فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} البقرة: 30 الآية، فكان سؤاله لهم على معنى التوبيخ لهم لما قالوا.المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 206- 207).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهؤلاء الملائكة: إن كانوا هم الحفظة، فسؤال الله لهم بقوله: «كيف تركتم عبادي؟» إنما هو سؤال عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكَتبِهم إياها عليهم.
وعلى أنهم هم الحفظة مذهب الجمهور -وإن كانوا غيرهم وهو الأظهر عندي-، فسؤاله تعالى لهم: إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال: {أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا} البقرة: 30، وإظهارًا لما سبق في معلومه إذ قال لهم: {إِنِّي أَعلَمُ مَا لا تَعلَمُونَ}البقرة: 30، وهذه حكمة اجتماعهم في صلاة الفجر والعصر، والله تعالى أعلم.
أو يكون سؤاله لهم استدعاء لشهادتهم لهم؛ ولذلك قالوا: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، وهذا من خَفِيِّ لطفه -تبارك وتعالى-، وجميل ستره؛ إذ أطلعهم بكرمه عليهم حالة عباداتهم، ولم يطلعهم عليهم ولا جمعهم لهم في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم في معاصيهم وشهواتهم، فسبحانه من حليم كريم جليل؛ إذ ستر القبيح وأظهر الجميل. المفهم (2/ 261).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: إذا كان الله أعلم بحالهم كما صرح به في الحديث فأي حكمة في السؤال؟
قلتُ: ليظهر شرف المؤمن عند سائر الكروبيين (اسم لصنف من الملائكة) فإنهم الذين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} البقرة: 30. الكوثر الجاري (11/ 233).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كيف تركتم عبادي؟» قال ابن أبي جمرة: ‌وقع ‌السؤال ‌عن ‌آخر ‌الأعمال؛ لأن الأعمال بخواتيمها، قال: والعباد المسؤول عنهم هم المذكورون في قوله تعالى: {‌إِنَّ ‌عِبَادِي ‌لَيْسَ ‌لَكَ ‌عَلَيْهِمْ ‌سُلْطَانٌ} الحجر: 42. فتح الباري (2/ 37).
وقال ابن أبي جمرة -رحمه الله-:
الكلام عليه (أي سؤال لله للملائكة) من وجوه:
الوجه الأول: أنْ يُقال: لم سأل مولانا -جل جلاله- عن آخر الأعمال لا غير؟ وأنْ يُقال: لم جاوبت الملائكة بأكثر مما سُئلوا؟ وأنْ يُقال: من هؤلاء العبيد المسؤول عنهم؟ وأنْ يُقال: لم خصت هذه الأوقات بالسؤال دون غيرها؟ وأن يقال: ما الفائدة لنا بالإخبار بهذا؟ وما يترتب عليه من الفقه؟
فالجواب عن الأول: أنه قد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الأعمال بخواتيمها ، فالحكم هنا كالحكم هناك.
وأما كون الملائكة أجابوا بأكثر مما سُئلوا؛ فلأنهم علموا أنه سؤال موجب للرحمة والإفضال، فزادوا في موجب ذلك، بأنْ قالوا: «وجدناهم وهم يصلون» ويترتب على هذا من الفقه وجهان:
أحدهما: أنَّ أعلى العبادات الصلاة؛ لأنه عليها وقع السؤال والجواب.
والوجه الآخر: أنَّ الملائكة تفرح بعمل العبد الصالح، وأنهم يحبون له رحمة المولى على ذلك، وحسن جزائه، ولولا ذلك لما زادوا من عند أنفسهم، ما لم يُسألوا عنه.
وأما من هم هؤلاء العبيد المشار إليهم بهذا التخصيص العظيم، وهو كونه -جل جلاله- أضافهم إلى نفسه، وذكره لهم رحمة؛ لأنه قد أخبر في كتابه أن ذِكْره لعبده هو رحمة له، في سورة مريم بقوله -عز وجل-: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ} مريم: 2، فهم الذين وصفهم الله -عز وجل- في كتابه بقوله سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الحجر: 42.
وأما قولنا: لم خصت هذه الأوقات بالسؤال فيها عن غيرها؟ فمن باب التشريف؛ لأن الله -جل جلاله- يشرِّف من يشاء من عباده حيوانًا كان أو جمادًا، أو ما شاء، ويترتب عليه من الفقه: وجهان: منها: أن هذين الوقتين أشرف الأوقات، وقد دلت عليه آثار كثيرة...
والوجه الثاني: أنَّ الصلاة التي توقع فيهما تكون أفضل الصلوات. جمع النهاية في بدء الخير والغاية (1/202-203).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: سألهم عن كيفية الترك فما الفائدة في ذكر الجزء الثاني من الجواب وهو «وأتيناهم»؟
قلتُ: زادوا على الجواب إظهارًا لفضيلتهم وحرصًا على ذكر ما يوجب مغفرتهم كما هو وظيفتهم فيما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} غافر: 7. الكواكب الدراري (4/ 200).

قوله: «فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأَتيناهم وهم يصلون»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قولهم: «تركناهم وهم يصلون» أي: تركناهم في هذه الساعة وهم يصلون الصبح.
«وأتيناهم» أي: لمَّا نزلنا بهم كانوا يصلُّون العصر. المفاتيح (2/ 34).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«تركناهم وهم يصلون» وجه إيثار المضارع أنَّ الملائكة علموا من قرائن أحوالهم أنهم مديمون الصلاة، وفاعلوها وقتًا بعد وقت ما عاشوا، فأخبروا بما يطابق ذلك، «وأتيناهم وهم يصلون» أي: عازمون على إقامة الصلاة. فتح الإله في شرح المشكاة (3/88).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«وأتيناهم وهم يصلون» أي: العصر، وقد يُفهم منه كون وقت العصر في آخر النهار؛ إذ الظاهر أن ملائكة النهار يصعدون وملائكة الليل ينزلون في آخر النهار، وقد وقع: «أتيناهم يصلون» إلا أن يراد الإخبار بالصلاة في وقت العصر كله، ثم يجوز أن يكون بعض الناس مصلين مع كراهته، أو يكفي مقارنة الحال لعاملها في جزء، فافهم. لمعات التنقيح (2/ 383).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي قوله: «أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» ولم يذكروا سائر الأعمال دليل على فضل المصلين من هذه الأمَّة وأن الصلاة أفضل الأعمال. الاستذكار (2/ 351).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«وأتيناهم» هو زيادة في الجواب عن سؤال: «كيف تركتم؟» لإظهار فضل المؤمنين، والحرص على ما يوجب مغفرتهم، فإنها وظيفتهم، كما قال تعالى: {‌وَيَسْتَغْفِرُونَ ‌لِلَّذِينَ ‌آمَنُوا} غافر: 7. اللامع الصبيح (3/ 366).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» لم يراعوا الترتيب الوجودي؛ لأنهم بدأوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم طابقوا السؤال؛ لأنه قال: «كيف تركتم؟»، ولأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله.
وقوله: «تركناهم وهم» ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر سواء تمت أم منع مانع من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا؛ لأن المنتظر في حكم المصلي، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: «وهم يصلون» أي: ينتظرون صلاة المغرب. فتح الباري (2/ 37).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلقًا:
الاحتمال الأول أَولى؛ لأنه الذي يقتضيه ظاهر الحديث، واللَّه تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (14/ 27).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن التين: الواو في قوله: «وهم يصلون» واو الحال، أي: تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها؛ لأنا نقول: هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا مَن دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك. فتح الباري (2/ 37).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
الظاهر: أنهم فارقوهم وهم يصلون، ولا يلزم من ذلك معارضة النصوص التي تدلّ على شهودهم؛ لأن الشهود لا يستلزم انقضاء الصلاة، على أن هؤلاء الذين فارقوا قد اجتمعوا مع الذين بَقُوا معهم، فالصلاة لم تَخْلُ من شهود الملائكة من أولها إلى آخرها، واللَّه أعلم. البحر المحيط الثجاج (14/ 27).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» فإن قلتَ: كان مقتضى الحال أن يبدؤوا أولًا بالإتيان ثم بالترك، ولم يراعوا الترتيب.
قلتُ: لأن المقصود هو الإخبار عن صلاتهم، والأعمال بخواتيمها، فناسب أن يخبروا عن آخر أعمالهم قبل أولها...
فإن قلتَ: يلزم من هذا أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة، فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم شهدوها.
قلتُ: الخبر محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك.
ذكر ما يستفاد منه:
فيه: أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عليها وقع السؤال والجواب.
وفيه: التنبيه على أن الفجر والعصر من أعظم الصلوات.
وفيه: الإشارة إلى شرف هذين الوقتين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذٍ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله...
وفيه: الإيذان بأن الملائكة تحب هذه الأمَّة ليزدادوا فيهم حبًّا ويتقربون بذلك إلى الله تعالى.
وفيه: الدلالة على أن الله تعالى يتكلم مع ملائكته.
وفيه: الحث على المثابرة على صلاة العصر؛ لأنها تأتي في وقت اشتغال الناس. عمدة القاري (5/ 46).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
واختصاصهم بالشهادة لهم بالصلاة التي وجدوهم عليها من دون سائر أعمال الإيمان دليل على فضل الصلاة على سائر الأعمال والقُرَب. إكمال المعلم (2/ 599).
وقال ابن حبان -رحمه الله-:
في هذا الخبر بيان واضح بأن ملائكة الليل إنما تنزل والناس في صلاة العصر، وحينئذٍ ‌تصعد ‌ملائكة ‌النهار، ضد قول من زعم: أن ملائكة الليل تنزل بعد غروب الشمس. صحيح ابن حبان (1/ 179).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فخصتا العصر بالمحافظة مع الوسطى لاشتراكهما في تعاقب الملائكة. شرح صحيح البخاري (2/ 180).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
في هذا الحديث شهود الملائكة للصلوات، والأظهر أن ذلك في الجماعات، وقد يحتمل الجماعات وغيرها. التمهيد (11/ 655).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
في هذا الحديث أنهم يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، وهو أكمل معنى من الحديث الذي روي: أنهم يجتمعون في صلاة الفجر خاصة، وأظن من مال إلى هذه الرواية احتج بقول الله -عز وجل-: {وَقُرْآنَ ‌الْفَجْرِ ‌إِنَّ ‌قُرْآنَ ‌الْفَجْرِ ‌كَانَ ‌مَشْهُودًا} الإسراء: 78.
ومعنى {وَقُرْآنَ ‌الْفَجْرِ} القراءة في صلاة الفجر؛ لأن أهل العلم قالوا في تأويل هذه الآية: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وليس في هذا دفع لاجتماعهم في صلاة العصر؛ لأن المسكوت عنه قد يكون في معنى المذكور سواء، ويكون بخلافه، وهذا باب من الأصول قد بيناه في غير هذا الموضع...
قد يحتمل أن يكون ذَكَرَ قرآن الفجر من أجل الجهر؛ لأن العصر لا قراءة فيها تظهر، والله أعلم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر» وهذا حديث مسند صحيح ثابت، وهو أولى من آراء الرجال، وألزم في الحُجة لمن قال به، والله المستعان. التمهيد (11/ 656- 657).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه بيان لطف الله تعالى بعباده وإظهار جميل أفعالهم وستر قبيحها؛ إذ جعل اجتماع الملائكة مع بني آدم في حالة عبادتهم ولم يجعل اجتماعهم معهم في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم على شهواتهم، فله الحمد على توفيقه للخير وإظهاره والإثابة عليه، وعلى ستره للقبيح ومحبة ستره وكراهة إشاعته حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم– لهزال: «لو سترته بثوبك كان خيرًا لك». طرح التثريب (2/ 307).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
دلَّ الحديث على أن ملائكة الليل غير ملائكة النهار. فتح الباري (4/ 326).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
ومن المفهوم الواضح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخصص هاتين الصلاتين بالمحافظة؛ ‌تسهيلًا ‌للأمر ‌في ‌إضاعة غيرهما من الصلوات، أو ترخيصًا لتأخيرها عن أوقاتها، وإنما أمر بأدائهما في الوقت المختار، والمحافظة عليهما في جماعة؛ لما فيهما من الفضل والزيادة في الأجر؛ فإن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار؛ قال الله تعالى: {إِنَّ ‌قُرْآنَ ‌الْفَجْرِ ‌كَانَ ‌مَشْهُودًا} الإسراء: 78، وصلاة العصر: هي الصلاة الوسطى؛ نص عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح، ويجتمع فيها -أيضًا- ملائكة الليل وملائكة النهار.
ثم إن إحداهما تقام في وقتِ تَثَاقُل النفوس؛ لتراكم الغفلة، واستيلاء النوم، والأخرى تقام عند قيام الأسواق في البلدان، واشتغال الناس بالمعاملات؛ فنبه المكلفين على هذه المعاني بزيادة تأكيد. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 187- 188).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وفيه: إيذان بأن ملائكة الليل لا يزالون حافظين العباد إلى الصبح.
وفيه: زيادة شرف الصلاتين؛ وذلك لتعاقب الملائكة في وقتيهما؛ ولأن وقت صلاة الصبح وقت لذة النوم كما قيل: إن الكَرَى (النوم) عند الصباح يطيب، والقيام فيه أشق على النفس من القيام في غيره، وصلاة العصر وقت الفراغ عن الصناعات وإتمام الوظائف، والمسلم إذا حافظ عليها مع ما فيه من التثاقل والتشاغل فَلَأَنْ يحافظ على غيرها بالطريق الأولى. فتح القريب المجيب (3/ 472).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان فضل صلاة الجماعة في الفجر والعصر.
2. ومنها: أن الصلاة أعلى العبادات بعد الشهادتين؛ لأنه وقع عنها السؤال والجواب.
3. ومنها: أن فيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة.
4. ومنها: الإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، قال الحافظ: وقد ورد أن الرزق يُقْسَم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذٍ في طاعة بورك في رزقه، وفي عمله، ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما، والاهتمام بهما.
5. ومنها: أن فيه تشريفَ هذه الأُمّة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيّها -صلى اللَّه عليه وسلم- على غيره.
6. ومنها: أن فيه الإخبارَ بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان.
7. ومنها: الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رُسُلِ ربنا، وسؤال ربنا عنّا.
8. ومنها: إعلامنا بحبّ الملائكة لنا؛ لنزداد فيهم حبًّا، ونتقرب إلى اللَّه بذلك.
9. ومنها: إثبات كلام اللَّه تعالى مع ملائكته الكرام.
10. ومنها: ما استنبطه منه بعض الصوفية من أنه يُستَحَبّ ألا يفارق الشخص شيئًا من أموره إلا وهو على طهارة، كشعره إذا حلقه، وظفره إذا قَلَمَهُ، وثوبه إذا أبدله، ونحو ذلك، (و) بعدُ هذا الاستنباط مما لا يخفى على بصير، واللَّه تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (14/ 28).


ابلاغ عن خطا