«دينارٌ أنفقتَهُ في سبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنفقتَهُ في رقبةٍ، ودينارٌ تصدَّقْتَ به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَهُ على أهلِكَ، أعظمُهَا أجرًا الذي أنفقتَهُ على أهلِكَ».
رواه مسلم برقم: (995)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«رقبة»:
هي في الأصل العنق، فجُعِلَتْ كنايةً عن جميع ذات الإنسان؛ تسمية للشيء ببعضه، فإذا قال: أعتق رقبة، فكأنه قال: أعتق عبدًا أو أَمَة. النهاية، لابن الأثير (2/ 249).
شرح الحديث
قوله: «دينار أنفقته في سبيل الله»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«دينار» مبتدأ، وسَوَّغَ الابتداءَ به مع كونه نكرةً إرادةُ التنويع، فهو كقوله: فيوم لنا، ويوم علينا، أو إرادةُ الجنس به، كقولهم: تمرة خير من جرادة. دليل الفالحين (3/ 117).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«في سبيل الله» أي: في مُؤْنِ الغزو، وفي سبيل الخير. التيسير شرح الجامع الصغير (2/10).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«في سبيل الله» أي: في الجهاد بإعانة ذلك عليه، ويحتمل: أن المراد به الأعم:؛ أي: في طاعة الله. دليل الفالحين (3/ 117).
قوله: «ودينار أنفقته في رقبة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ودينار أنفقتَهُ في رقبة» أي: في فَكِّها أو إعتاقها. مرقاة المفاتيح (4/1351).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «أنفقته في رقبة» أي: في عتقها، أو أَعَنْتَ به مُكَاتبًا. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 403).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ودينار أنفقتَهُ في رقبة» أي: فعَتَقْتَ به، كأن بقي ذلك من النَّجم (أي: القسط) الذي على المكَاتَب، وبه تحصل حُرْيَّتَهُ، أو المراد به الجنس؛ أي: وما أُنْفِقَ في عتق الرقبة وتخليصها من الرِّق، أو تصدَّق به عليها، فخلصت به من التلف الذي كان بها من الجوع والظمأ أو العُرِي. دليل الفالحين (3/ 117).
قوله: «ودينار تصدقت به على مسكين»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «على مسكين» أي: محتاج، فيشمل الفقير أيضًا عمومه. دليل الفالحين (3/ 117).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ودينار تصدقت به على مسكين» المراد به ما يشمل الفقير؛ لأنهما إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا. فيض القدير (3/536).
قوله: «ودينار أنفقته على أهلك»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ودينار أنفقتَهُ على أهلك» يعني: على مَؤُونة مَنْ تلزمُكَ مَؤُونته. فيض القدير (3/536).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ودينار أنفقتَهُ على أهلك» يعني: مَنْ يلزمُهُ إنفاقه. التنوير شرح الجامع الصغير (6/120).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ودينار أنفقتَهُ على عيالك» أي: مَنْ تعولهم، وفي نسخة: « على أهلك». دليل الفالحين (3/ 117).
قوله: «أعظمها أجرًا الذي أنفقتَهُ على أهلك»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «أعظمها» أي: أكثر تلك الدنانير. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (11/383).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«أعظمها» أي: الأربعة المذكورة «أجرًا الذي أنفقتَهُ على أهلك»؛ لأن مَنْ تلزمه مَؤُونتهم يقع الإنفاق فيهم واجبًا، وهو أفضل من ثواب المندوب بأضعاف مضاعفة، ومَنْ لا تلزمَهُ مَؤُونتهم يكون في الإنفاق عليهم صِلةُ رحمهم، وثوابُها أعظم مما ذُكِرَ بكثير، كما دلَّت عليه الأحاديث الكثيرة فيه. فتح الإله في شرح المشكاة (6/409-410).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وجه هذا (أي: أعظمية للأجر) أن النفقة على الأهل واجبة، وليس الواجب كالنَّفل. كشف المشكل من أحاديث الصحيحين (3/555).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وإنما كان الإنفاق على الأهل أفضل؛ لأنه صدقة وصلة الرَّحِم. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 547).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «أعظمها» أي: الدنانير أو النفقات، وإنما كان أعظم إمَّا لكونه فرضًا، أو لأنهم أقرب وأولى. لمعات التنقيح (4/ 376).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وإنما فُضِّلت النفقة على الأهل بُعْدها على الواقع في قلوب الناس؛ فإن المنفق درهمًا في رقبة أو على مسكين يرى بعين المتطوِّع المتنفِّل، ويرى أنه أنفق ما أنفق بفضله، والذي يُنْفِقُ على أهله إنَّما أنفق ما كان واجبًا عليه، وبعيدًا عن الحمد عليه. والأعمال إنما تُقرِّب إلى الله بقدر ما تُبْعِدُ من الدنيا، وتُبْعِدُ من الله بقدر ما تُقرِّب من الدنيا. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 56).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
تقديم النفقة على العيال؛ لأن منهم مَنْ تجب عليه نفقته، فكان آكد من التطوع، ومنهم مَنْ تظاهرت صلته لقرابته وضعفه، ومنهم مَنْ تعينت عليه لضمِّه له؛ ولكونه في جملته، فكان حقُّه عليه أوجبَ من غيره، وقوله الآخر: «أعظمها أجرًا الذي أنفقت على أهلك» وقد ذكر النفقة في سبيل الله، والعتق والصدقة يؤكِّد ذلك، وكذلك قوله في الحديث الآخر: «كفى بالمرء إثمًا أن يَحْبِسَ عمَّن يملك قُوْتَه» يؤكِّد أنه في الواجب؛ لأن الإثم إنَّما يتعلق بتركه. إكمال المعلم (3/ 512).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
لأن مَنْ تلزمه مُؤْنتهم يكون في الإنفاق عليهم صِلْةُ رحمهم، وثوابُها أعظم مما ذكر بكثير. دليل الفالحين (3/ 117).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
الأهل في هذا الحديث يَعمُّ أهل البيت من الزوجة والأولاد وغيرهم، فهو بمعنى العيال. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2/94).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«أعظمها أجرًا الذي تنفقه على أهلك» الصواب هذا محمول على ما إذا استوت الحالة في الأهل والأجنبي، فلو كان أحدهما أحوج أو أوكد لكان المُنفِقُ في الأوكد أعظمَ أجرًا، فإذا استوت المراتب فترتيب الأعظم كما وقع في الحديث. المفهم (3/40).
وقال النووي -رحمه الله-:
(فيه:) الحث على النفقة على العيال، وبيان عظم الثواب فيه؛ لأن منهم مَنْ تجب نفقته بالقرابة، ومنهم مَنْ تكون مندوبة، وتكون صدقة وصِلةً، ومنهم مَنْ تكون واجبة بِمِلْكِ النكاح. شرح صحيح مسلم (7/81).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه فضيلة الإنفاق على الأهل واجبًا كان أو مندوبًا، وإذا كان أفضلهما فإنه يُقدَّم على ما ذُكِرَ من النفقات. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 403).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
واسْتُدِلُّ به (يعني: بالحديث) على أن فرض العين أفضلُ من فرض الكفاية؛ لأن النفقة على الأهل فرض عين، أفضل من نفقة الجهاد، وهو فرض كفاية. التنوير شرح الجامع الصغير (6/120).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
فيه دليل على أن إنفاق الرجل على أهله أفضلُ من الإنفاق في سبيل الله، ومن الإنفاق في الرِّقاب ومن التصدق على المساكين، وإنما كان الإنفاق على الأهل أفضل؛ لأنه فرض، والفرض أفضل من النفل، أو لأنه صدقة وصِلْةٌ. مرعاة المفاتيح (6/367).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الفرض أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه».
لكن الشيطان يرغِّب الإنسان في التطوع، ويقلِّل رغبته في الواجب، فتجده مثلًا يحرص على الصدقة، ويَدَعُ الواجب، يتصدق على مسكين أو ما أشبه ذلك، ويدَعُ الواجب لأهله، يتصدق على مسكين أو نحوه، ويدع الواجب لنفسه؛ كقضاء الدَّين مثلًا، تجده مدينًا؛ يطالبه صاحب الدَّين بدينه وهو لا يوفي، ويذهب يتصدق على المساكين، وربما يذهب للعمرة أو لحج التطوع وما أشبه ذلك ويدَعُ الواجب، وهذا خلاف الشرع وخلاف الحكمة، فهو سَفَهٌ في العقل وضلال في الشرع... على كل حال هذه الأحاديث كلها تدل على أنه يجب على الإنسان أن ينفق على مَنْ عليه نفقته، وأن إنفاقه على مَنْ عليه نفقته أفضلُ من الإنفاق على الغير. شرح رياض الصالحين (3/158).