الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

 «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ؛ فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهنَّم».


رواه البخاري برقم: (538)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أَبْرِدُوا»:
أصل الكلمة: بَرَدَ، والبَرْد: ضد الحرِّ، والبُرُودة: نقيض الحرارة، بَرَدَ الشيء يَبْرُدُ بُرُودَةً.
والإِبْراد: الدُّخول في البَرد، يقال: أَبْرَدَ القوم، دخلوا في آخر النهار، وقولهم: أَبْرِدُوا عنكم من الظَّهيرة، أي: لا يسيروا حتى ينكسر حرُّها ويَبُوخُ -أي: يَفْتُر-. لسان العرب لابن منظور(3/84).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الإِبْرادُ: انكسارُ الوَهَجِ والحَرِّ، وهو مِن الإِبْرَادِ: الدخول في البَرْدِ.
وقيل: معناه: صلُّوها في أول وقتها، مِنْ بَرْدِ النهار وهو أوَّلُه. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 114).
وقال القرافي -رحمه الله-:
الإِبْرادُ: الدخول في وقت البَرْدِ، نحو: أتْهَمَ وأنْجَدَ؛ إذا دخل تهامة ونجدًا. وأصْبَحَ وأمسى: إذا دخل في الصباح والمساء.الذخيرة (2/26-27).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
ومعنى الإِبْرادُ بها: تأخيرُها حتى ينكسر الحرُّ، ويتَّسع فيء الحيطان، وفي حديث أبي ذرٍّ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَبْرِدْ! حتى رأينا فيء التُّلول». وهذا إنما يكون مع كثرة تأخيرها، ولا يُؤخِّرها إلى آخر وقتها، بل يُصلِّيها في وقتٍ إذا فرَغ يكون بينه وبين آخر الوقت فَضْلٌ. المغني (2/37).
وقال النووي -رحمه الله-:
أن يُؤخِّر الصلاة عن أول الوقت بقدر ما يحصل للحيطان فَيْءٌ يمشي فيه طالبُ الجماعة، ولا يُؤخِّر عن النصف الأول من الوقت. المجموع شرح المهذب (3/ 59 -60).

«فَيْحِ جَهنَّم»:
الفَيْحُ: سُطُوعُ الحَرِّ وفَوَرَانِه، ويُقال بالواو...، وفَاحَت القِدْرُ تَفِيْحُ وتَفُوحُ إذا غَلَتْ، وقد أخرجه مَخْرَجَ التَّشْبِيهِ والتمثيل: أي كأنّه نارُ جهنم في حَرِّها" النهاية لابن الأثير(3/ 484).
وقال النووي -رحمه الله-:
«فَيْحُ» هو بفاء مفتوحة، ثم مثناة من تحت ساكنة، ثم حاء مهملة، أي: سُطُوع حَرِّها، وانتشارُه وغَلَيَانِها. شرح النووي على مسلم (5/ 118).
وقال العيني -رحمه الله-:
واختُلف في جهنم: اسم عربي أو عَجَمي؟ فقيل: عربي مُشتق من الجُهُومَة، وهي كَرَاهَةُ المنْظَر، وقيل: مِن قولهم: بِئْرٌ جَهْنَامٌ أي: عمِيقة، فعلى هذا لم تُصْرف للعلَمِيَّة والتأنيث. وقال الأكثرون: هي عجميّة مُعرَّبة، وامتنع صرْفها للعلَمِيَّة والعُجْمَة. شرح سنن أبي داود للعيني (5/ 174).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وجهنَّمُ اسم لنارِ الآخرة، عربي لا مُعرَّب من الجَهَامَة، وهي كراهَةُ المنْظَر، غير مُنصَرف؛ للتَّعريف والتأنيث. فيض القدير (1/ 76)


شرح الحديث


قوله: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ»:
قال ابن رجب -رحمه الله-:
عامَّة روايات هذا الحديث من طُرقه إنما فيها: «أَبْرِدُوا بالصلاة»، أو «عن الصلاة»، وليس في شيء منها في الصحيح ذِكْر الظُّهر، إلا في رواية أبي سعيد التي خرَّجها البخاري هاهنا. فتح الباري (4/ 238).
وقال الزرقاني -رحمه الله- عن رواية: «أَبْرِدُوا عن الصلاة»:
أي: صلاة الظهر؛ لأنها التي يشتد الحَرُّ غالبًا في أول وقتها، وبه صرح في حديث أبي سعيد عند البخاري وغيره بلفظ: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ»، فيُحمل المطْلق على المقيد، كما أفاده الإمام في الترجمة، وحَمَلَ بعضهم الصلاة على عمومه؛ بناءً على أن المفرد المعَرَّف يَعُمُّ، فقال به أشْهَبُ في العصر، وأحمد في العِشاء في الصيف دون الشتاء، ولم يقل به أحد في المغرب، ولا في الصبح؛ لضيق وقتهما. شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 111).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معنى الإِبْرادُ: انكسارُ شدَّة حَرِّ الظهيرة؛ وذلك أنَّ فُتورَ حرِّها بالإضافة إلى وَهَجِ الهاجِرة بَرْدٌ، وليس ذلك بأن يُؤخّر إلى أحد بَرْدَي النهار، وهو بَرْدُ العَشِيِّ؛ إذ فيه الخروج من قول الأُمَّة. أعلام الحديث (1/ 424).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: أَخِّرُوا إلى أن يَبْرُدَ الوقت، يقال: أَبْرَدَ إذا دخل في البَرْدِ، كأَظْهَر إذا دخل في الظهيرة، ومثله في المكان أَنْجَدَ إذا دخل نجدًا، وأَتْهَمَ إذا دخل تهامة.
والأمر بالإِبْرَادِ أمر استحباب، وقيل: أمر إرشاد، وقيل: بل هو للوجوب، حكاه عياض وغيره، وغَفَل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب، نعم قال جمهور أهل العلم: ‌يستحب ‌تأخير ‌الظُّهر ‌في ‌شدة ‌الحَرِّ إلى أن يبْردَ الوقت، وينكسرَ الوَهَجُ، وخصَّهُ بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا قول أكثر المالكية، والشافعي أيضًا، لكن خصَّهُ بالبلد الحار، وقيَّد الجماعة بما إذا كانوا ينْتَابُون مسجدًا مِن بُعْدٍ، فلو كانوا مجتمعين، أو كانوا يمشون في كَنٍّ فالأفضل في حقهم التعجيل، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر. فتح الباري، لابن حجر (2/ 16).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
والأمر بالإِبْرَاد ‌أمر ‌ندب ‌واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء. فتح الباري (4/ 242.
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
قال في القَبَسِ: ليس للإِبْراد في الشريعة تحديد، إلا ما في حديث ابن مسعود: «كان قَدْرُ صلاةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصَّيف ثلاثةَ أقدامٍ إلى خمسةِ أقدامٍ، وفي الشِّتاء خمسةَ أقدامٍ إلى سبعةِ أقدامٍ»، أخرجه أبو داود والنسائي؛ وذلك بعد ظِلِّ الزوال، فلعلَّ الإِبْرَاد كان ريثَما يكون للجدار ظِلٌّ يأوي إليه المُجْتَازُ.
والأمر للاستحباب عند الجمهور، وقيل: أمر إرشاد، وقيل: للوجوب، حكاه عياض وغيره، فنقَل الكرماني الإجماع على عدم الوجوب غَفْلة، وخصَّه بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا قول أكثر المالكية، والشافعي، لكن خصَّه أيضًا بالبلد الحار، وقيَّد الجماعة بما إذا كانوا ينْتَابون مسجدًا مِن بُعْدٍ، فلو كانوا مجتمعين أو كان الْمُنتَابُونَ في كَنٍّ، فالأفضل لهم التعجيل، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظُّهر أفضل مطلقًا، وقالوا: معنى «أَبْرِدُوا»: صلُّوا في أول الوقت؛ أخذًا مِن بَرْدِ النهار، وهو أوَّله، وهو تأويل بعيد، يرده قوله: «فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهنَّم»، فإنَّ التعجيل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير. شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 111-112).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وينبغي أن يَقْتَصِد في الإِبْرَادِ، بحيث يكون بين الفراغ منها وبين آخِر الوقت فَضْلٌ؛ لأنَّ المقصود من الإِبْرَادِ يحصل بذلك...، ولأن الإِبْرَادَ الشديد يُخاف معه أن يُفعل بعضُ الصلاة بعد خروج الوقت. شرح العمدة (4/201).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«أَبْرِدُوا» أي: افْعَلوها في وقت البَرْدِ، وهو الزمان الذي يتبين فيه شدة انكسار الحَرِّ؛ لأن شدة الحَرِّ تُذهِب الخشوع.
قَالَ ابن التين-رحمه الله-:
«أَبْرِدُوا» أي: ادْخُلُوا في وقت الإِبْرَادِ، مثل: أَظْلَم، دَخَلَ في الظلام، وأمْسَى دخل في المساء. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 144).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
الإِبْرَادُ إنما يُشرع في الظُّهر...، وقال أشْهَبُ المالكي: يشرع في العصر أيضًا، وخالَف جميع العلماء، ففي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ». الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 354).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
خصّ الشافعيُّ الإِبْرَادَ بالإمام الْمُنْتَاب من بُعْد، دون الفَذِّ والجماعة بموضعهم كما مرّ، ولم يقل: الإِبْرَادُ في غير الظُّهر إلا أشْهَبُ. قال: يُبْرد بالعصر كالظهر، وقال أحمد: تُؤخَّر العِشاء في الصيف كالظُّهر، وعكَسَ ابن حبيب فقال: إنما تُؤخر في ليل الشتاء؛ لِطُولِه، وتُعَجَّل في الصيف؛ لِقِصَرِهِ، وقد يُحتج بحديث الباب على مشروعية الإِبْرَادِ للجمعة كما مرّ، وبه قال بعض الشافعية، وهو مقتضى صنيع المؤلّف. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/ 488.
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أَبْرِدُوا» بقطع الهمزة، وكسْر الراء، «بِالظُّهْرِ» وفي رواية للبخاري: «بالصلاة» أي: بصلاة الظُّهر كما بيَّنَتْهُ هذه الرواية، أي: أَدْخِلُوهَا في البَرْد؛ بأنْ تُؤَخِّروها نَدْبًا عن أول وقتها إلى أن يصير للحيطان ظِلٌّ يمشي فيه قاصد الجماعة من محلٍّ بعيد، بشرط عدم وجود ظِلٍّ يمشي فيه، وأن لا يجاوز به نصف الوقت، وأن يكون بِقُطْرٍ حَارٍّ. فيض القدير (1/ 76).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
وحِكْمَتُه: دفْعُ المشقة لسَلْبِ الخشوع أو كماله، كما فيمن حضَرَهُ طعامٌ يتوقُ إليه، أو يُدافعُه الخَبَثُ.
والأخبار الآمرة بالتعجيل عامة أو مطلقة، والأمر بالإِبْرَادِ خاص، فهو مقدَّم، وزَعْمُ أن التعجيل أكثر مشقة، فيكون أفضل، مُنِعَ بأن الأفضلية لا تنحصر في الأشق، فقد يكون غير الشاق أفضل، كالقصر في الصلاة.
وأما خبر مسلم عن خَبَّاب بن الأَرَت: «شكَونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حَرَّ الرَّمْضَاء فلم يُشْكِنَا» أي: لم يُزِلْ شَكْوانا، فمنسوخٌ بالنسبة إلى الإِبْرَادِ، أو محمول على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإِبْرَادِ.
وظاهر الخبر وجوب الإِبْرَادِ، لكن لما قام الإجماع على عدَمِه حُمِل على الندب، وإنما لم نؤمر بالتأخير لشدة البَرد مع أنه أيضًا من جهنم؛ لأنه إنما يكون وقت الصبح، ولا يزول إلا بطلوع الشمس، فيخرج الوقت، وخرج بِالظُّهْرِ غيرها حتى الجمعة؛ للأمر بالتبكير إليها، وإبراد النبيِّ بها؛ لبيان الجواز.
والأذان وأمْره بالإِبْرَادِ حُمل على الإقامة، بدليل التصريح بها في رواية الترمذي. فيض القدير (1/ 76).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والمراد: تأخيرُ الظُّهر عن أول وقتها حتى يعتدل حَرُّ الظهيرة؛ ذلك لأنه مع شدة الحَرِّ لا تُقْبِل القلوب على الصلاة؛ لشُغْلها بالْمُؤْذِي من شدة الحَرِّ، كما نُهي عن الصلاة عند حضور الطعام، وعند مدافعة الأخبَثين، وهذا الحديث دالٌّ على الأمر بتأخير صلاة الظهر أيام الحرِّ، وهو حديث صحيح، وقال المصنف: هو متواتر، رواه بضعةُ عشرَ صحابيًا.
قلت: إلا أنه قد عارضه حديث خَبَّاب بن الأَرَت: «شكَونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حَرَّ الرَّمْضَاء في جِبَاهِنَا وأَكُفِّنَا فلم يُشْكِنَا» أخرجه مسلم، في رواية البيهقي: «فما أشْكَانا»، وقال: «إذا زالت الشمس فصَلُّوا»، وقال الحافظ ابن حجر: مالَ الطحاوي إلى نسخ حديث خبَّاب هذا، وحَمَل بعضهم حديث الإِبْرَادِ على ما إذا صار الظل فيئًا، وحديث خبَّاب على ما إذا كان الحصى لم تَبْرد؛ لأنه لا تَبْرُد حتى تصْفَرَّ الشمس، فلذلك رخَّص -صلى الله عليه وسلم-: في الإِبْرَادِ، ولم يرخِّص في التأخير إلى خروج الوقت. انتهى. التنوير شرح الجامع الصغير (1/240-241).
قال ابن رجب -رحمه الله-:
وأما قول صاحب (الغَرِيبَيْن): «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ»: صلُّوها في أول وقتها، وبَرْدُ النهار أوَّلُه.
فهو خطأ، وتغيير للمعنى، وصلاة الظهر في أول وقتها في شدة الحَرِّ ليس إبرادًا، بل هو ضده، بخلاف أول النهار، كما في الحديث: «من صلى البَرْدَيْنِ دخل الجنة». فتح الباري (4/ 239).

قوله: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ»:
قال ابن رجب -رحمه الله-:
بوَّب البخاري على هذه الأحاديث: (الإِبْرَادُ بالظُّهْرِ في شدة الحَرِّ)، فدل ذلك على أنه يَرى الإِبْرَادَ في شدة الحرِّ بكل حال، سواء كان في البلاد الحارة أو غيرها، وسواء كان يصلي جماعة أو وحْدَه.

وهذا قول كثير من أهل العلم، وذكَر طائفة من المالكية كالقاضي إسماعيل وأبي الفرج أنه مذهب مالك، وذكر صاحب (المغني) من أصحابنا: أنه ظاهر كلام أحمد والخرقي، ورجَّحه، وكذلك حكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وحكاه الخطابي عن أحمد ورجَّحه ابن المنذر، وحكاه عن أهل الرأي، وحكاه الترمذي في (جامعه) عن ابن المبارك وأحمد وإسحاق، ورجَّحه.
ولذلك ذكر بعض الشافعية أنه ظاهر الحديث، ومالَ إليه، والمنصوص عن الشافعي: أنه لا يُستحب الإِبْرَادُ إلا في شدة الحرِّ في البلاد الحارة لمن يصلي جماعة في موضع يقصده الناس من بُعد، كذا نص عليه في (الأُم)، وعليه جمهور أصحابه.
ولهم وجه: أنه لا يُشترط البلاد الحارة، وحكوا قولًا للشافعي: أنه لا يشترط بُعد المسجد، بل يُبْرِد ولو كانت منازلهم قريبة منه.
واشترط طائفة من أصحابنا للإبراد: أن تكون الصلاة في مسجد، قالوا: وسواء كان مما ينْتَابُه الناسُ أو لا، وأن تكون البلدان حارة شديدة الحر أو متوسطة.
ومنهم من اشترط مسجد الجماعة فقط.
وكذلك قال ابن عبد الحكم وطائفة من المالكية العراقيين: أنه لا يُبرد إلا بالصلاة في مساجد الجماعة دون من صلى منفردًا.
وذكر القاضي إسماعيل، عن ابن أبي أويس، عن مالك، قال: بلَغَني أن عمر قال لأَبي محذورة: إنك بأرضٍ حارة، فأَبْرِدْ، ثم أَبْرِدْ، ثم نادِ، فكأنني عندك.فتح الباري(4/239- 242).

قوله: «فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهنَّم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة؛ لكونها قد تسْلُبُ الخشوع، وهذا أظهر، أو كونِها الحالةَ التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث عمرو بن عَبَسَةَ عند مسلم حيث قال له: «أَقْصِرْ عن الصلاة عند استواء الشمس؛ فإنها ساعَةٌ تُسَجَّرُ فيها جهنَّمُ»، وقد استُشْكِل هذا بأن الصلاة سببُ الرحمة، ففِعْلُها مظِنَّةٌ لطرد العذاب، فكيف أَمَر بتركها؟
وأجاب عنه أبو الفتح اليعمري: بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله، وإن لم يُفهم معناه.
واستنبط له الزَّيْنُ ابنُ المنير معنىً يناسبه فقال: وقتُ ظهور أثَر الغضب لا يُنْجَعُ فيه الطلب إلا ممن أُذِنَ له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبًا ودعاءً، فناسَبَ الاقتصار عنها حينئذٍ، واستَدل بحديث الشفاعة؛ حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله تعالى غَضِبَ غضبًا لم يَغْضَب قبْلَهُ مثله، ولا يَغضب بعده مثله، سوى نبينا -صلى الله عليه وسلم- فلم يعتذر، بل طلب؛ لكونه أُذِنَ له في ذلك.
ويمكن أن يقال: سَجْرُ جهنمَ سببُ فَيْحِهَا، وفَيْحُهَا سببُ وجود شدة الحَرِّ، وهو مَظِنَّة المشقة التي هي مَظِنَّةُ سَلْبِ الخشوع، فناسب أن لا يُصَلى فيها، لكن يَرُدُّ عليه أن سَجْرَها مستمر في جميع السَّنة، والإِبْرَادُ مختص بشدة الحرِّ، فهما متغايران، فحكمة الإِبْرَادِ دفع المشقة، وحكمة الترك وقت سَجْرِها؛ لكونه وقت ظهور أثر الغضب، والله أعلم. فتح الباري (2/ 17).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
واستدراكه -أي الحافظ- مبني على مذهبه من الاختصاص، أما على مذهب مالك مِن ندْب الإِبْرَادِ في جميع السَّنَةِ، ويُزاد لشدة الحرِّ، فلا استدراك. شرح الزرقاني على الموطأ (1/111).
وقال ابن رحب -رحمه الله-:
واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمَر بالإِبْرَادِ.
فمنهم من قال: هو حصول الخشوع في الصلاة؛ فإن الصلاة في شدة الحرِّ كالصلاة بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، وكصلاة من يدافِع الأخبَثين؛ فإن النفوس حينئذٍ تتوق إلى القيلولة والراحة، وعلى هذا فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة.

ومنهم من قال: هو خشية المشقة على مَن بُعد من المسجد بمشْيِهِ في الحرِّ، وعلى هذا فيخْتَص الإِبْرَادُ بالصلاة في مساجد الجماعة التي تُقصد من الأمكنة المتباعدة.
ومنهم من قال: هو وقت تنفُّس جهنم.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمرو بن عَبَسَةَ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «الصلاةُ مشهودةٌ محضورةٌ حتى يسْتَقِلَّ الظلُّ بالرمح، ثم أقْصِرْ عن الصلاة؛ فإن حينئذٍ تُسْجَرُ جهنمُ، فإذا أقبل الفيءُ فإن الصلاة مشهودة محضُورة حتى تصلي العصر».
وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبَّان من حديث أبي هريرة -مرفوعًا-، قال: «فإذا انتصف النهار فأَقْصِرْ عن الصلاة حتى تميل الشمس؛ فإن حينئذٍ تُسْعَرُ جهنمُ، وشدة الحرِّ من فَيحِ جهنم، فإذا مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متَقَبَّلَة حتى تُصلي العصر».
وخرّجه ابن ماجه، ولفظه: «فإذا كانت -يعني: الشمس- على رأسك كالرُّمح فدَع الصلاة؛ فإن تلك الساعة تُسْعَر فيها جهنم، وتُفْتَح فيها أبوابُها، حتى تَزيغَ الشمس عن حاجبِك الأيمن، فإذا زالت فالصلاة محضورة متقبَّلة».
وهذا يدل على أن شدة الحرِّ عقيب الزوال من أثر تسجُّرها، فكما تُمنع الصلاة وقت الزوال، فإنه يستحب تأخرها بعد الزوال حتى يَبرُد حرُّها، ويزولَ شدَّةُ وهَجِهَا؛ فإنه إثر وقت غضب، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يتحرَّى بصلاته أوقات الرضا والرحمة، ويجتنب أوقات السخط والعذاب، وعلى هذا فلا فرق بين المصلي وحده وفي جماعة أيضًا. فتح الباري(4/239- 242).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فلما قال: «فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهنَّم»، وعلَّل بعلَّة تُعْلَم بالوحي؛ عُلِمَ أنه قصَد معنىً يخفى على أكثر الناس؛ وهو كراهة إيقاع الصلاة حال تسعير النار، كما كُره إيقاعُها وقت مقارنة الشيطان لها، وكُره الصلاة وقت الغضب من الله كما كُره الصلاة في مكان الغصب؛ لأن القلوب لا تُقْبِل على العبادة وقت تلك الساعة كلَّ الإقبال، ولا ينزل من الرحمة ما ينزل في غير ذلك الوقت. شرح العمدة (4/198- 199).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
وفي هذه الأزمنة لا يُوجد ذلك الحرُّ، والحمد لله؛ وذلك لوجود المكيِّفات والمراوِح الكهربائية التي تخفِّف مِن شدة الحرِّ، فلا يَحُسُّ الناس بذلك الحر الشديد المزعج الذي يتصبب منه العَرَق، والذي تبتلُّ منه الثياب، فلا يطْمَئِن المصلي في صلاته؛ فلأجل ذلك لم يَروا داعيًا إلى الإِبْرَادِ في شدة الحر، لكن لو كان هناك بلاد ليس فيها هذه المكيفات ونحوها، فإن الإِبْرَادَ مستحب في حقهم، وما ذاك إلا أن الحكم يدور مع علَّته، فمتى وُجدت العلَّة وُجد الحُكم، أما في سائر السَّنة التي ليس فيها حر، فإن وقت الصلاة إذا زالت الشمس، فإذا ابتدأت زيادة الظل في جهة الشرق فذلك وقت الظهر.شرح "عمدة الأحكام (8/ 10).

قوله: «فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهنَّم»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
فَيْحُ جهنم: سُطوع حرِّها، وارتفاع لهيبها، وقد يحتمل أن يكون أراد به الْمَثَل، فشَبَّه بحرِّ جهنم؛ يحذرهم أذاه وضرره. يقول: كما تحذرون فَيْحَ جهنم، فاحذروا حرَّ الظهيرة وأذاها. أعلام الحديث (2/ 1495).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما إضافة ذلك إلى جهنم -أعاذنا الله منها-: فمجاز لا حقيقة، كما تقول العرب في الشمس إذا اشتد حرُّها: هذه نار، تُريد كالنار، وكذلك يقال: فلانٌ نار، يريد أنه يفعل كفعل النار؛ مجازًا واستعارة، ومعلوم أن نار جهنم تفضُلُ نار بني آدم سبعين جزءًا، أو تسعة وستين جزءًا، وفي هذا ما يُوضح لك أن ذلك مجازٌ، أو لغةٌ معروفة في لسان العرب، ومَن قال قولهم، ومنه: أحْرَقَ الحزنُ قلبي، وأحْرَقَ فلان فؤادي بقوله كذا، ومِن هذا المعنى قيل: الحرُّ من فَيحِ جهنم، والله أعلم". الاستذكار (1/ 97- 98).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ» أي: قوَّتَه، «مِن» بعض أو ابتداء، «فَيْحِ» بفتح الفاء، وسكون المثناة تحت، «جَهنَّم» أي: هيَجَانها وغليَانها، وانتشار لهبِهَا، فعُلم أن (مِن) تبعيضية أو ابتدائية.
وقال بعضهم: جنسية؛ بناء على ما قيل من أنَّ كون شدة الحرِّ من فَيح جهنم تشبيه لا حقيقة. فيض القدير (1/ 76).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «مِن فَيْحِ جَهنَّم» ها هنا سؤال عقلي، وهو أنَّ التجربة أن شدة الحرِّ وضعْفَها بقُرب الشمس وبُعدها، فكيف إنَّ شدة الحرِّ من فَيحِ جهنم؟
فنُجيب بما يفيد في مواضع عديدة، وهو: للأشياء أسباب ظاهرة وباطنة، والباطنة تذكرها الشريعة، وأما الظاهرة فلا تنفيها الشريعة الغراء؛ فإنه أخبر بها المخبر الصادق، فكذلك يقال في الرعد والبرق والمطر، ونهر جيحان وسيحان. العرف الشذي شرح سنن الترمذي (1/ 178).
وقال العيني -رحمه الله-:
فيه: استحباب الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ عند اشتداد الحر في الصيف.
وفيه: أن جهنم مخلوقة الآن، خلافًا لمن يقول من المعتزلة: إنها تُخلق يوم القيامة. عمدة القاري (5/ 24).


ابلاغ عن خطا