«أرأيتمْ لو أنَّ نَهْرًا ببابِ أحدِكُمْ، يغتسِلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ، هل يبقى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى مِن دَرَنِهِ شَيءٌ، قال: فذلك مَثَلُ الصَّلواتِ الخمسِ، يمحو اللهُ بهنَّ الخطايا».
رواه البخاري برقم: (528)، ومسلم برقم: (667) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«نَهْرًا»:
النَّهْرُ والنَّهَرُ: من مجاري المِيَاه. المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده (4/ 302).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
النهر: ما بين جَنبي الوادي، سُمي نهرًا لسعته، وسمي النهار به لسعة ضوئه، ويقال: نَهْر ونَهَر بسكون الهاء وفتحها. المفهم (2/ 293).
«دَرَنِهِ»:
بفتح الدال والراء أي: وسَخِهِ. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 256).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
يُقال: دَرِنَ الثوب دَرَنًا فهو دَرِنٌ مثل: وسِخَ وسَخًا فهو وَسِخٌ وزنًا ومعنى. المصباح المنير، للفيومي (1/ 193).
«يَمْحُو»:
محا الشيء يمحوه، ويمحاه محوًا: أذهب أثره. المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده (4/ 33).
شرح الحديث
قوله: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم»:
قال الدماميني -رحمه الله-:
«أرأيتم» هي هنا بمعنى: أخبروني؛ مثل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} العلق: 9-10، وهو منقول من (رأيت) بمعنى: أبصَرْتَ، أو عرْفْتَ كأنه قيل: لأبصرت وشاهدتَ حالته العجيبة، أو عرفتها، أخبرني عنها، فلا يستعمل إلا في الإخبار عن حالة عجيبة، ولا بد من استفهام ظاهر أو مقدر يبين الحالة المستخبَر عنها، كما مر في: «أَرَأَيْتَكُمْ ليلتَكُم هذه». مصابيح الجامع (2/ 212- 213).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أرأيتم؟» أقول: استفهام تقرير متعلق بالاستخبار، أي: أخبروني. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 5).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لو أن نهرًا» (لو) الامتناعية تقتضي أن تدخل على الفعل الماضي وأن يُجَاب، والتقدير: لو ثبت نهرٌ بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسًا لما بقي من درنه شيء، فوضع الاستفهام موضعه تأكيدًا وتقريرًا؛ إذ هو في الحقيقة متعلق الاستخبار، أي: أخبروني هل يبقى لو كان كذا؟ الكاشف عن حقائق السنن (3/ 864).
وقال الدماميني -رحمه الله- أيضًا:
«لو أن نهرًا»: بفتح الهاء وإسكانها، «بباب أحدكم» ظرف مستقر صفة لـ(نهر). مصابيح الجامع (2/ 213- 214).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم» الحديث، أي: أخبروني لو أن نهرًا، إشارة إلى سهولته وقرب متناوَله. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (3/ 198).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«أرأيتم لو أنّ نهرًا بباب أحدكم» أي: أخبروني؛ لأنّ الرُّؤية سبب الإخبار، سواء كان بمعنى العلم أو رُؤية البصر. والنّهر: بفتح الهاء وإسكانها، والفتح أفصح، به ورد القرآن، والتقييد: «بباب أحدكم» ليكون أسهل عليه خمس مرات. الكوثر الجاري (2/ 207).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أن نهرًا» بفتح الهاء وتسكن أي: جاريًا، «بباب أحدكم» أي: مثلًا، «يغتسل» وفي نسخة: «ثم يغتسل» أي: أحدكم «فيه» أي: في النهر، وهو أبلغ من لفظ «منه». مرقاة المفاتيح (2/ 507).
قوله: «يغتسِلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ»:
قال الدماميني -رحمه الله-:
«يغتسل منه» إما صفة ثانية، أو حال من الضمير المستكن في الظرف المذكور، «كل يوم» ظرف ليغتسل، «خمس مرات» مصدر له. مصابيح الجامع (2/ 213- 214).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كل يوم» أي: وليلة، مع أنه لا يلزم التشبيه من كل الوجوه. مرقاة المفاتيح (2/ 507).
قوله: «هل يبقى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
والدَّرَن: الوسخ، وقد يُطلق الدَّرَن على الحَبِّ الصغار التي تحصل في بعض الأجساد. فتح الباري (2/ 11).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «هل يبقى من درنه؟» على معنى التقرير لا على الاستفهام، والدَّرَن: الوسَخ، ضربه مثلًا لمحو الصلوات الخطايا كما نصه في الحديث نفسه. إكمال المعلم (2/ 645).
وقال النعماني -رحمه الله-:
قوله: «ذلِك» إشارة إلى الاغتسال. مزيد فتح الباري (ص: 44).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «من درنه شيئًا» ولا يكون مصداق الدّرن إلا صغيرة؛ لأن الكبيرة صدأ يأكل الحديد أيضًا. فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 138).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقال بعض المنتمين إلى العلم من أهل عصرنا: إن الكبائر والصغائر تكفِّرها الصلاة والطهارة، واحتج بظاهر حديث الصنابحي هذا (إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض، خرجت الخطايا من فيه...)، وبمثله من الآثار، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فما ترون ذلك يبقي من درنه؟» وما أشبه ذلك، وهذا جهل بيِّن، وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك، وكيف يجوز لذي لب أن يحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع قول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} التحريم: 8، وقوله -تبارك وتعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور: 31، في آي كثير من كتابه، ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفِّرة للكبائر، والمتطهِّر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبِق، ولا قاصد إليه، ولا حضره في حينه ذلك الندم عليه، ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لَمَا كان لأمر الله -عز وجل- بالتوبة معنى، ولكان كل من توضأ وصلى يشهد له بالجنة بإثر سلامه من الصلاة، وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر، وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح.
وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض، والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة، فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر، ولا نادم على ذلك، فمحال، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الندم توبة»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما اجتُنِبَت الكبائر». التمهيد (3/ 152- 153).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «هل يبقى من درنه شيء؟» كذا صحت الرواية بفتح ياء «يَبقى»؛ مبني للفاعل، وبإثبات «مِن»، وبتمام الكلام على درنه من غير شيء، ويحمل على أن «مِن» زائدة على الفاعل؛ لأن الكلام قبلها غير موجب، فكأنه قال: هل يبقى درنُه؟ وقد تخيل بعض الناس أن في الكلام حذفًا، فقال: هل يبقى من درنه شيء؟ ولا تعضده الرواية ولا القانون النحوي.
وظاهر هذا الحديث: أن الصلوات بانفرادها تستقل بتكفير جميع الذنوب كبائرها وصغائرها، وليس الأمر كذلك لاشتراطه في الحديث المتقدم اجتناب الكبائر، فدل ذلك على أن المكفَّر بالصلوات هي جميع الصغائر إن شاء الله. المفهم (2/ 293- 294).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال بن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة؛ لأنه شبه الخطايا بالدَّرن والدَّرن صغير بالنسبة إلى ما هو أَكبر منه من القُروح والخُرّاجات انتهى. وهو مبنيٌّ على أن المراد بالدَّرن في الحديث الحِبُّ والظاهر أنّ المراد به الوَسخ؛ لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتنظف.فتح الباري(2/ 12).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: خاطب أولًا الجماعة، ثم أفرد في «تقول» فما وجهه؟
قلتُ: أقبل على الكل أولًا فخاطبهم جميعًا، ثم أفرد؛ إشارة إلى أن هذا الحكم لا يخاطَب به معيَّن؛ لتناهيه في الظهور، فلا يختص به مخاطَب دون مخاطَب،. مصابيح الجامع (2/ 213- 214).
«قالوا: لا يبقى مِن دَرَنِهِ شَيءٌ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قالوا: لا يَبْقَى من درنه» بعد هذه الاغتسالات المتكررة «شيءٌ» مِن الوَسخ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/ 183).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«لا يُبقي من درنه شيئًا» (رواية البخاري) «يبقي» أيضًا مضارع (أبقى) وفاعله ضمير يعود إلى ما تقدم؛ أي: لا يُبقي ذلك الفعل أو الاغتسال المذكور، و «شيئًا»: مفعول به. مصابيح الجامع (2/ 216).
قوله: «فذلك مَثَلُ الصلواتِ الخمسِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قال» -صلى اللَّه عليه وسلم- «فذلك» أي: ما ذُكر من الاغتسال الموصوف بالتكرار خمس مرّات «مَثَلُ الصلوات الخمس». البحر المحيط الثجاج (14/ 389).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
والفاء في «فذلك» جواب شرط محذوف أي: إذا أقررتم ذلك، وصح عندكم فهو مثل الصلوات إلى آخره، ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114، قيل: صلاة الفجر والظهر طرف، وصلاة العصر والمغرب طرف، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} صلاة العشاء الثالث. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 865).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ووجه التمثيل: أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة والأدران المشاهدة في بدنه وثيابه؛ فيطهِّره الماء الكثير العَذْبُ إذا والى استعماله، وواظب على الاغتسال منه، فكذلك تطهِّر الصلاةُ العبدَ عن أقذار الذنوب حتى لا تبقي له ذنبًا إلا أسقطته وكفَّرته، ويكون ذلك بالوضوء كالصلاة، وإنما يكفِّر الوضوء الذنوب؛ لأنه يراد به الصلاة، كما طلب بالمراد وهو الصلاة، وذلك أقوى في التكفير، وأولى بالإسقاط، وكما يطهِّر الماء الوسخ، فكذلك يُذهب الهموم والغموم الداخلة على العبد أيضًا؛ فإن الهموم أصلها الذنوب. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 134- 135).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«قال: فذلك» أي: النهر المذكور. شرح المصابيح (1/ 356).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فكذلك» الفاء، فيه جواب شرط محذوف أي: إذا أقررتم ذلك وصح عندكم فهو مثل الصلوات.
وفائدة التمثيل: التقييد، وجعل المعقول كالمحسوس. عمدة القاري (5/ 16).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«يمحو الله بهنَّ الخَطايا» يعني: يزيل ويغفر ببركة الصلوات الخمس الذنوبَ الصغائر، «الخطايا» جمع خطيئة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 7- 8).
وقال السندي -رحمه الله-:
«يمحو الله بهن الخطايا» خصها العلماء بالصغائر، ولا يخفى أنه بحسب الظاهر لا يناسب التشبيه بالنهر في إزالة الدرن؛ إذ النهر المذكور لا يبقى من الدرن شيئًا أصلًا، وعلى تقدير أن يبقى فإبقاء القليل والصغير أقرب من إبقاء الكثير الكبير، فاعتبار بقاء الكبائر وارتفاع الصغائر قلبٌ لما هو المعقول نظرًا إلى التشبيه، فلعل ما ذكروا من التخصيص مبني على أن للصغائر تأثيرًا في درن الظاهر فقط، كما يدل عليه ما ورد من خروج الصغائر من الأعضاء عند التوضؤ بالماء، بخلاف الكبائر فإن لها تأثيرًا في درن الباطن، كما جاء أن العبد إذا ارتكب المعصية تحصل في قلبه نقطة سوداء، ونحو ذلك، وقد قال تعالى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14، وقد عُلم أن أثر الكبائر تُذهبه التوبة التي هي ندامة بالقلب، فكما أن الغسل إنما يذهب بدرن الظاهر دون الباطن، فكذلك الصلاة، فتفكَّر، والله تعالى أعلم. حاشية السندي على سنن النسائي (1/ 231).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«بها» أي: بالصلوات، وفي بعضها: «به» أي: بأدائها، «الخطايا» أي: الصغائر؛ لأنها شبَّهها بالدَّرن، وهو لا يبلغ مبلغ الجذام ونحوه. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 337).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«الخطايا» جمع خطيئة؛ وهي: الذنب، مِن خطِئ بالكسر، والمراد: الصغائر؛ لأن الكبائر لا تسقط إلا بالحدود أو التوبة، ومظالم العباد بالأداء والاستحلال. الكوثر الجاري (2/ 208).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن بزيزة في شرح الأحكام: يتوجه على حديث العلاء («الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر») إشكال يصعب التخلص منه؛ وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفَّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك، فما الذي تكفِّره الصلوات الخمس؟ انتهى، وقد أجاب عنه شيخنا الإمام البلقيني: بأن السؤال غير وارد؛ لأن مراد الله {إِنْ تَجْتَنِبُوا...} النساء: 31، أي: في جميع العمر، ومعناه: الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث: أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها، أي: في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث، انتهى.
وعلى تقدير ورود السؤال، فالتخلص منه بحمد الله سهل؛ وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبًا للكبائر؛ لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها، والله أعلم.
وقد فصَّل شيخنا الإمام البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة:
أحدها: ألا يصدر منه شيء ألبتة، فهذا يُعاوَض برفع الدرجات.
ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تكفر عنه جزمًا.
ثالثها: مثله، لكن مع الإصرار فلا تكفّر إذا قلنا: إن الإصرار على الصغائر كبيرة. رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر.
خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر، وهذا فيه نظر، يحتمل إذا لم يجتنب الكبائر ألا تكفّر الكبائر، بل تكفر الصغائر، ويحتمل ألا تكفر شيئًا أصلًا، والثاني أرجح؛ لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يُعمل به، فهنا لا تكفر شيئًا إما لاختلاط الكبائر والصغائر، أو لتمحض الكبائر، أو تكفر الصغائر، فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة؛ لدورانه بين الفصلين، فلا يعمل به، ويؤيده أن مقتضى تجنب الكبائر أن هناك كبائر، ومقتضى: «ما اجتنبت الكبائر» أن لا كبائر، فيُصان الحديث عنه. فتح الباري (2/ 12).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يمحو الله بهن» أي: بالصلوات فالنسبة في مكفرات مجازية «الخطايا» أي: الصغائر، والجملة مبينة لوجه الشَّبَه، وهو أن الذنوب كالوسخ؛ لأنها توسخ الظاهر والباطن، والصلاة تزيل تلك الأوساخ والأقذار الحسية والمعنوية، كما أن النهر يزيل الأوساخ الحسية. مرقاة المفاتيح (2/ 507).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
هذا مثل ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- لمحو الخطايا بالصلوات الخمس، فجعل مثل ذلك مثل من ببابه نهر يغتسل فيه كل يوم خمس مرار، كما أن دَرَنَهُ ووسَخَه ينقَّى بذلك حتى لا يبقى منه شيء، فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء.
واستدل بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفِّر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفِّرها مجرد الصلاة بدون توبة يقولون: هذا العموم خُصَّ منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، ما اجتُنِبَت الكبائر». فتح الباري (4/ 221- 222).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
وفائدة التمثيل: التأكيد، وجعل المعقول كالمحسوس؛ حيث شبَّه حال المقترف لبعض الذنوب المحافِظ على أداء الصلوات الخمس بحال المغتسل في نهر على باب داره كل يوم خمس مرات، بجامع أن كلًّا منهما يزول بفعله الأقذار وهي الذنوب في الأول، والأوساخ في الثاني. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 248).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقام الصلوات الخمس في غسل الذنوب مقام الماء في غسل الأوساخ، وإنما ضرب المثل بالنهر؛ لأن النهر لجريته لا يقف فيه الماء الأول الذي اغتسل به في المرة الأولى، وإنما يتجدد عند كل مرة من الاغتسال ماء جديد، فشبَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس بالمرات الخمس في الاغتسال، وأن تلك المرة الأولى أزالت ما وجدَتْه من الخطايا بإزالةٍ ذهبت بها الجرية، ثم جاءت الغسلة الثانية فغسلت ما عساه تجدد، ثم ذهبت به الجرية، ثم جاءت الغسلة الثالثة كذلك، فكانت الغسلات ماحية ما يتجدد بين كل غسلتين من الذنوب.
وهذا لأن الذنوب إنما تصدر عن الأعضاء -أعضاء الآدمي- التي يستعملها في الصلاة، فيكون غسل ما نظر إليه بعينه، ونطق بلسانه، وبطش بيديه، ومشى برجليه، بأن شغل كلًّا من ذلك في عبادة ربه مرة بعد مرة، وكان ذلك ماحيًا لآثار الخطايا.
وإنما ضرب المثل بالماء؛ لأن الماء هو الماحي للكتابة، وقد سبق أن الكاتبَين يكتبان حركات العبد وأنفاسه، فكانت الصلوات مُزيلة ما يَرْقُمَانه كما يزيل الماء أثر الكتابة المكتوبة بالمداد. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 199- 200).