الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«‌مَثَلُ ‌الجليس ‌الصالح ‌والسُّوء، ‌كحامِل ‌المِسْك ‌ونافخ ‌الكِير، ‌فحامل ‌المِسْك: ‌إمَّا ‌أن ‌يُحذيك، ‌وإمّا ‌أنْ ‌تبتاع ‌منه، ‌وإمّا ‌أن ‌تَجد ‌منه ‌ريحًا ‌طيبة، ‌ونافِخ ‌الكِير: ‌إمّا ‌أن ‌يُحرق ‌ثيابك، ‌وإمّا ‌أن ‌تجد ‌ريحًا ‌خبيثة».


رواه البخاري برقم: (5534)، واللفظ له، ومسلم برقم: (2628)، من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«‌المِسْك»:
من الطِّيب فارسي معرَّب وكانت العرب تسميه المشموم. مختار الصحاح، للرازي (ص: 294).

«‌الْكِيرِ»:
بالكسر: كِيْرُ الحداد، وهو المبني من الطين، وقيل: الزِّق الذي ينفخ به النار. النهاية، لابن الأثير (4/ 217)
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
أما الكِير: فهو موضع نار الحدَّاد والصائغ، وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا. التمهيد - (15/ 102).

«يُحْذِيَكَ»:
أي: يُعْطيك، يُقال: أَحْذَيْتُهُ أَحْذِيه إِحْذَاءً، وهي الحُذْيَا والحَذِيَّة. النهاية، لابن الأثير (1/ 358).
وقال ابن دريد -رحمه الله-:
يقال: يحذي الناس، أي يعطيهم. جمهرة اللغة(3/ 1243).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
«يُحذيك» يعني: يَهَبُ لك الشيء منه. أعلام الحديث (3/ 2083).

«ريحًا»:
الريح: بمعنى الرائحة: ‌عَرَض ‌يُدرك ‌بحاسة ‌الشم، مؤنثة، يقال: ريح ذكية. المصباح المنير، للفيومي (1/ 244).


شرح الحديث


قوله: «مَثَلُ الجلِيسِ الصالِحِ والسَّوْءِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مثَل الجليس» أي: الْمُجَالِس «الصالح والسوء» بفتح السين وبضم أي: والجليس الصالح. مرقاة المفاتيح (8/ 3136 - 3137).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«الجليس الصالح» في بعضها: «جليس الصالح» من إضافة الموصوف إلى صفته. الكواكب الدراري (20/ 112).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«مثل الجليس الصالح والجليس السوء ‌كحامل ‌المسك ‌ونافخ ‌الكير» في الكلام لَفٌّ ونَشْر مرتَّب، والأصل مثل الجليس الصالح كحامل المسك ومثل الجليس السوء كنافخ الكير، و«السَّوء» بفتح السين يقال في القبح: رجل سَوء وعمل سَوء ورجل السَّوء وعمل السَّوء، و«السُوء» بضم السين كل ما يغم الإنسان، وكل ما يقبح، وقد ضُبط الحديث بكل منهما، وجاء القرآن بهما في قوله: {‌لِلَّذِينَ ‌لَا ‌يُؤْمِنُونَ ‌بِالْآخِرَةِ ‌مَثَلُ ‌السَّوْءِ} النحل: 60، بفتح السين وقوله: {‌وَأَدْخِلْ ‌يَدَكَ ‌فِي ‌جَيْبِكَ ‌تَخْرُجْ ‌بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} النمل: 12. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 127- 128).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنما مثَل» أي: إنما صفة «الجليس الصالح» صفة للجليس، وهو المراعي لحقوق الله وحقوق العباد، «و» مثَل «الجليس السوء» أي: ومثل الجليس السيئ والسوء في أصله مصدر، وهو صفة للجليس على تأويله بالمشتق، أي: ومثل الجليس السيئ، والسيئ ضد الصالح كذا وقع في بعض النُّسخ، وهو الأفصح والأحسن، وفي بعضها «مثل جليس الصالح وجليس السوء» فيكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فيكون بمعنى ما في النسخة الأولى، والجليس هو من اخترته للمجالسة معه، أي: مثل الصالح الذي تجالسه ومثل السيئ الذي تجالسه. الكوكب الوهاج (24/ 473).

قوله: «‌كحَامِلِ ‌المِسْكِ ‌ونَافِخِ ‌الكِيرِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كحامل المسك» ناظرًا إلى الأول، «ونافخ الكير» بكسر الكاف زِقٌّ يَنفخ فيه الحداد، وأما المبني من الطين فَكَورٌ. مرقاة المفاتيح(8/ 3136 - 3137).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ونافخ الكِير» أي: الذي يَنفخ في الكِير، وهو شيءٌ ينفخ فيه الحداد لتشتعل النار. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 231).
وقال محمد الخادمي -رحمه الله-:
«‌ونافخ ‌الكير» منْفَخَة الحدادين، شبَّه الصلاح بالمسك؛ لطيب ريحه وعزة وجوده، وقوة رغبته، والسوء بالكير؛ لأنه لا يصلح إلا لإضرام النار وزيادة تسعيرها. بريقة محمودية (4/ 163).

قوله: «فحامل المِسك إمّا أن يُحذيك»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الفاء في «فحامل المسك» تفريعية لبيان وجه الشَّبَه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 128).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فحامل المسك إما أن يحذيك» من الإحذاء، أي: يعطيك مجانًا. مرقاة المفاتيح (8/ 3136- 3137).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
إنما أدخل المسك في هذا الباب ليدل على تحليله؛ إذ أصله التحريم؛ لأنه دم، فلما تغير عن الحالة المكروهة عن الدم، وهو الزهم، وبفيح الرائحة صار حلالًا بطيب الرائحة، وانتقلت حاله، وكانت حاله كحال الخمر تتحلَّل، فتحلُّ بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال، وأصل هذا في كتاب الله تعالى في قصة موسى: {‌فَأَلْقَاهَا ‌فَإِذَا ‌هِيَ ‌حَيَّةٌ ‌تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} طه: 20-21، فحكم لها بما انقلبت إليه، وأسقط عنها حكم ما انقلبت عنه، وحديث أبي موسى حُجة في طهارة المسك؛ لأنه لا يجوز حمل النجاسة، ولا يأمر -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فدل على طهارته، وجُلّ العلماء على هذا. شرح صحيح البخاري (5/ 444- 445).
وقال المازري -رحمه الله-:
جمهور الفقهَاء على طهارة المسك وجواز بيعه، وقال قوم: بنجاسته، والدليل عليهم: قوله ها هنا: «وإما أن تبتاع منه» والنَّجَس لا يُباع؛ ولأنه -صلى الله عليه وسلم- استعمله ولو كان نَجسًا لم يستعمله، والناس في الأعصار الماضية ما أحَد منهم ينكر استعماله فدلّ ذلك كلّه على طَهَارته. المعلم بفوائد مسلم (3/ 305).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
هذا مثَل الجليس الصالح؛ فإنه إما أن يعطيك من فوائده، ويهديك إلى مقاصده، وإمَّا أن تأخذ أنت من أخلاقه، وَيسري إليك من طباعه.
ولذلك قال أبو محمد الجُريري -رحمه الله-: كمال الرجل في ثلاثة: في الغربة والصحبة والفطنة، أما الغربة فلتَذْليل النفس، وأما الصحبة فليتخلَّق بأخلاق الرجال، وأما الفطنة فللتَّمْييز. حسن التنبه لما ورد في التشبه (1/ 65- 66).
وقال محمد الخادمي -رحمه الله-:
وقيل في شرح الحديث: الجليس الصالح لا يخلو عن ثلاثة: إما أن يعلِّمك ما ينجيك، وإما أن تسأله وتطلبه، وإما أن تغتنم بركات مجلسه، كما قيل: الجلوس في مجلس العلم خير من إحياء ليلة، والجليس السوء لا يخلو عن أحد أمرين: إما أن يحرق ثياب دِينك، وإما أن ينشر صِيتك بالسوء والقبح. بريقة محمودية (4/ 163).
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
و«يحذيك» ... أي: يعطيك مِسْكًا هديَّة بدون مقابل، وكثيرًا ما يفعل ذلك، فيمسح بمسكه يدك ليرغِّبك في الشراء. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 128).

قوله: «وأما أنْ تبتاع منه»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«تبتاع» أي: تشتري. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 231).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
تطابقت الأخبار واستفاضت على أن المسك يجتمع في غُدَّة حيوان، هو الغزال أو يشبهه، فيتعفَّن في تلك الغُدة، حتى تيبس وتسقط، فتؤخذ تلك الغدة كالجليدات المحشوَّة؛ وتلك الجلدة هي المسماة بفأرة المسك، والجمهور من علماء الخلف والسلف على طهارة المسك وفأرته، وعلى ذلك يدل استعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- له وثناؤه عليه، وإجازة بيعه، كما دل عليه هذا الحديث، ومن المعلوم بالعادة المستمرة بين العرب والعجم استعماله واستطابة ريحه، واستحسانه في الجاهلية والإسلام، ولا يستقذره أحد من العقلاء ولا ينهى عن استعماله أحد من العلماء. المفهم (6/ 634).

قوله: «وإمّا أن تجد مِنه ريحًا طيبة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإما أن تجد منه رائحة طيبة» وهذا بيان أقل المنفعة. مرقاة المفاتيح (8/ 3136- 3137).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
«وإِمّا أن تجد منه ريحًا طيبة» من حكمةٍ تجدها عنده، أو رحمة تنزل عليه وأنت معه.حسن التنبه لما ورد في التشبه (1/ 66).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة» أي: أنك لا بد وأن تنتفع منه بنفع، فالجليس الصالح إما أن يمنحك حكمة، أو تأخذها منه بطلب الإفادة والتعليم، أو تلذذ بحسن حديثه وخلقه وآداب شمائله. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 198- 199).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وحاصل معنى الحديث: أن حامل المسك ممن ينفعك لا محالة، إما بإهداء المسك إليك أو بيعه منك ولا يخلو على الأقل من أن ينفعه برائحته الطيبة، وكذلك الجليس إما أن تحصل منه على علم ينفعك، أو أنه ينفعك بصحبته. الكوكب الوهاج (24/ 474).

قوله: «ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك »:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك» من الإحراق أي: يكون سببًا للإحراق، أو التقدير يحرق بناره ثيابك، ولعله وقع اختصارًا؛ حيث لم يقل: إما أن يحرق أعضاءك أو ثيابك. مرقاة المفاتيح (8/ 3136- 3137).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: « ونافخ الكير إما أن يُحرِق ثِيابَكَ» إلى آخره، هذا مثَل جليس السوء؛ فإما يتلف عليك دِينك، ويدنِّس منك عرضك، وإما أن تجد منه رائحة مُنْتِنَة من غِيبة أو نميمة أو نحو ذلك، أو مِن سخط ينزل عليه وأنت عنده، أو عذاب يأخذه وأنت معه، فمن يُجالس العبد السوء فقد تعرض لذلك كله. حسن التنبه لما ورد في التشبه (1/ 65- 66).

قوله: «وأمّا أن تجد منه ريحًا خبيثة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» أي: دخانه، وهذا أقل المضرة. مرقاة المفاتيح (8/ 3136- 3137).
وقال محمد الخادمي -رحمه الله-:
«وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» أي إن لم تتابعه تتضرر بكآبةِ جهله وفحشه وفسقه، ولو بمجرد مجالسته إذا اتخذته خليلًا. بريقة محمودية (4/ 163).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» مِن مزاولة أعماله، والمراد النهي عن مجالسة من تؤذي مجالسته في دِين أو دنيا، والترغيب في مجالسة من تنفع مجالسته، وفيه ضرب الأمثال وشرف المسك. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 198- 199).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله في تمثيل الجليس السوء والجليس الصالح بحامل المسك أو نافخ الكير: فيه تجنب خلطاء السوء ومجالسة الأشرار وأهل البدع والمغتابين للناس؛ لأن جميع هؤلاء ينفذ أثرهم إلى جليسهم، والحضّ على مجالسة أهل الخير وتلقّي العلم والأدب، وحسن الهدي والأخلاق الحميدة. إكمال المعلم (8/ 108).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
مقصود هذا التمثيل: الحض على صحبة العلماء والفضلاء وأهل الدين، وهو الذي يزيدك نطقُه علمًا وفعله أدبًا ونظره خشية، والزجر عن مخالطة من هو على نقيض ذلك. المفهم (6/ 634).
وقال محمد الخادمي -رحمه الله-:
وبالجملة مقصود الحديث: النهي عن مجالسة من تؤذي مجالسته دِينًا أو دنيا، والترغيب في مجالسة من تنفع مجالسته فيهما، وفيه إيذان بطهارة المسك.
تجنَّب قرين السوء واصرم حِباله *** فإن لم تجد منه محيصًا فدارِهِ
ولازِمْ حبيب الصدق واترك مِرَاءَه *** تَنَلْ منه صفو الوِدِّ ما لم تُمَارِهِ
ولله في عرض السموات جنة *** ولكنها محفوفة بالمكارِهِ. بريقة محمودية (4/ 163).
وقال المظهري -رحمه الله-:
والمراد من هذا الحديث: أن مجالسة الصلحاء تنفع في الدنيا والآخرة؛ لأنك تجد منهم التربية وتعليم الخير، وتصل إليك بركتهم، ويَحسن صِيْتُك بين الناس بأن يقال: فلان يجالس الصلحاء، ومجالسة الفسَّاق تكون بعكس هذا. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 231).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قيل: فيه إرشاد إلى الرغبة في صحبة الصلحاء والعلماء ومجالستهم؛ فإنها تنفع في الدنيا والآخرة، وإلى الاجتناب عن صحبة الأشرار والفساق؛ فإنها تضر دينًا ودنيا، قيل: مصاحبة الأخيار تورث الخير، ومصاحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إن هبت على الطيب عقبت طيبًا، وإن مرت على النَّتَن حملت نتنًا، وقيل: إذا جالست الحمقى علِقَ بك من حماقتهم ما لا يعلق بك من العقل إذا جلست العقلاء؛ لأن الفساد أسرع إلى الناس، وأشد اقتحامًا في الطبائع. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3201- 3202).
وقال العيني -رحمه الله-:
ذكر ما يستفاد منه فيه: النهي عن مجالسة من يُتأذى بمجالسته، كالمغتاب والخائض في الباطل، والندب إلى من يُنال بمجالسته الخير من ذكر الله وتعلُّم العلم وأفعال البر كلها.
وفي الحديث: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخَالِل».
فيه: دليل على إباحة المقايسات في الدِّين. عمدة القاري (11/ 221).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه: دليل على طهارة المِسك وجواز بيعه. أعلام الحديث (3/ 2083).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي الحديث: النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدِّين والدنيا والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما.
وفيه: جواز بيع المسك والحكم بطهارته؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مدحَه ورغَّب فيه، ففيه الرد على مَن كرهه وهو منقول عن الحسن البصري وعطاء وغيرهما، ثم انقرض هذا الخلاف واستقر الإجماع على طهارة المسك وجواز بيعه. فتح الباري (4/ 324).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وفيه: مدح المسك المستلزم لطهارته، ومدح الصحابة؛ حيث كان جليسهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى قيل: ليس للصحابي فضيلة أفضل من فضيلة الصحبة؛ ولهذا سموا بالصحابة مع أنهم علماء كرماء شجعانًا إلى تمام فضائلهم -رضي الله عنهم-. الكواكب الدراري (20/ 112).
وقال السعدي -رحمه الله-:
اشتمل هذا الحديث على الحث على اختيار الأصحاب الصالحين، والتحذير من ضدهم، ومثَّل النبي -صلّى الله عليه وسلم- بهذين المثالين مبينًا أن الجليس الصالح جميع أحوالك معه وأنت في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك: إما بهِبَةٍ، أو بِعَوَض، وأقل ذلك: مدة جلوسك معه، وأنت قرير النفس برائحة المسك.
فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر، فإنه إما أن يعلِّمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذِّرك من الإقامة على ما يضرك، فيحثك على طاعة الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ويبصِّرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله، فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجنَّدة، يقود بعضها بعضًا إلى الخير، أو إلى ضده.
وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح -وهي فائدة لا يستهان بها-: أن تكف بسببه عن السيئات والمعاصي، رعاية للصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعًا عن الشر، وأن يحفظك في حضرتك ومغيبك، وأن تنفعك محبتُه ودعاؤه في حال حياتك وبعد مماتك، وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك، ومحبته لك.
وتلك أمور لا تباشر أنت مدافعتها، كما أنه قد يصلك بأشخاص وأعمال ينفعك اتصالك بهم.
وفوائد الأصحاب الصالحين لا تُعد ولا تحصى، وحسْب المرء أن يعتبر بقرينِه، وأن يكون على دين خليله... ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن أن يوفقه لصحبة الأخيار، ومن عقوبته لعبده أن يبتليه بصحبة الأشرار.
صحبة الأخيار توصِل العبد إلى أعلى عليين، وصحبة الأشرار توصله إلى أسفل سافلين، صحبة الأخيار توجِب له العلوم النافعة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وصحبة الأشرار: تحرمه ذلك أجمع. بهجة قلوب الأبرار (ص: 158- 157).


ابلاغ عن خطا