دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمِّ السَّائبِ -رضي الله عنها-، أو أُمّ المُسَيِّبِ. فقال «مَا لَكِ؟ يا أمُّ السَّائبِ! أو يا أم المُسَيِّب! تُزَفْزِفِين؟» قالت: الحُمَّى، لا باركَ الله فيها. فقال: «لا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فإنها تُذْهِب خطايا بني آدم كما يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثُ الحَديدِ».
رواه مسلم، برقم: (4575)، من حديث جابر -رضي الله عنه-
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تُزَفْزِفِين»:
قال الحُميدي -رحمه الله-:
الزَّفيف أَصله سُرعة الحركة، يُقَال: زَفَّ القوم، أَسْرعُوا في مشيهم ... ويُقال للريح إِذا اشْتَدَّ هبوبها: زَفْزَافَة، أَي: لها زَفْزَفَةٌ وهو صوت حركتها وهبوبها. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص223).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«تُزَفزَفين» بضم التاء وفتح الزَّايَيْنِ، أي: تَرْعِدِين، والزَفزفة الرِّعْدَة. مشارق الأنوار (1/ 312).
«الكِيْر»:
الكِير بالكسر زِقُّ الحَدَّاد الذي يَنفُخ به، ويكون أيضًا من جلدٍ غليظٍ وله حَافَات. المصباح المنير، للفيومي (2/٥٤٥)
قال ابن منظور -رحمه الله-:
«الكِير»: كِير الحدَّاد، وهو زِقٌ أو جِلدٌ غليظٌ ذو حَافَاتٍ، وأما المبني من الطين فهو الكَور. لسان العرب (5/ 157).
«خَبَثُ»
الخَبَث، بفتح الخاء والباء: ما تخلِّصه النَّار من رديء الحديد والفضة. الزاهر في معاني كلمات الناس، لابن الأنباري (2/ 139)
وقال الكجراتي -رحمه الله-:
«الخَبَث» هو ما تُلقيه النار من وسخ الفضَّة والنُّحاس وغيرهما إذا أُذِيْبَا. مجمع بحار الأنوار (2/ 3).
شرح الحديث
قوله: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمِّ السَّائبِ -رضي الله عنها- أو أم المُسَيِّبِ. فقال «مَا لَكِ؟ يا أمُّ السَّائبِ! أو يا أم المُسَيِّب! تُزَفْزِفِين؟»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «ما لك يا أم السائب! تُزَفزفين» جميع رواة مسلم -رحمه الله- روى هذه الكلمة بالزاي والفاء فيهما، ويقال بضم التاء وفتحها من الزَّفزَفة، وهي صوتُ حفيف الريح... وقد رواه بعض الرواة بالقاف والراء، قال أبو مروان بن سراج -رحمه الله-: يقال: بالقاف وبالفاء بمعنى واحد، بمعنى تَرْعُدِين.
قلتُ: ورواية الفاء أَعْرَفُ رواية، وأصحُّ معنى؛ وذلك أن الحُمَّى تكون معها حركةٌ ضعيفةٌ ، وحس صوت يشبه الزَّفزّفة التي هي حركة الريحِ وصوتُها في الشجر.. المفهم (6/ 548).
وقال النووي-رحمه الله-:
«تُزَفزَفين»: بزاءين معجمتين وفاءين والتاء مضمومة. قال القاضي: تُضم وتُفتح هذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة، وادعى القاضي أنها رواية جميع رواة مسلم، ووقع في بعض نُسخ بلادنا بالراء والفاء، ورواه بعضهم في غير مسلم بالراء، والقاف معناه: تتحركين حركة شديدة أي: تَرْعدين.شرح صحيح مسلم(16/١٣١)
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «تُزَفزَفين»: زَفْزَف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شيءٍ يحوم عليه ليقع فوقه. والمعنى: ما لك تَرتَعدين؟ شرح المشكاة (4/ 1341).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما لك» ما: استفهامية؛ أي: أيُّ شيءٍ ثبت لك «يا أم السَّائب، أو» للشَّك، «يا أم المسَّيب تَزَفزَفين؟» بِزَايَيْنِ بصيغة المعلوم والمجهول؛ لأنه لازمٌ ومتعدٍ. البحر المحيط الثجاج (40/ 473).
قوله: «قالت: الحُمَّى، لا باركَ الله فيها»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قالت: الحُمَّى» أي: النَّوع المرَكَّب مِن البَلغم والصفراء الموجِب لانزعاج البَدنِ وشدة تَحَرُّكه. «لا بارك الله فيها» مبتدأ وخبر، والجملة تتضمن الجواب، أو تقديره: تأخذني الحُمَّى، أو الحُمَّى معي، والجملة بعده دعائية. مرقاة المفاتيح (3/ 1131).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«قالت: الحُمَّى» خبرٌ لمبتدأ محذوف أي: سبب زَفزَفتي: الحُمَّى. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 40)
فقال «لا تَسُبِّي الحُمَّى»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لا تَسُبِّي الحُمَّى» مع أنَّها لم تُصَرِّح بِسَبِّ الحُمَّى، وإنَّما دَعت عليها بألا يُبارَك فيها، غير أنَّ مِثْل هذا الدُعاء تَضمن تَنقِيص المدعو عليه وذَمِّه، فصار ذلك كالتصريح بالذَّم والسَّب، ففيه ما يَدل على أنَّ التَعريض والتَضمين كالتَّصريح في الدَّلالة، فيُحَدُّ كل من يُفهم عنه القذف مِن لفظه؛ وإن لم يُصرح به. المفهم (6/ 548).
وقال الشيخ ابن عثيّمين -رحمه الله-:
الحُمَّى هي السُخونة، وهي نوعٌ من الأمراض، وهي أنواعٌ متعددةٌ، ولكنَّها تكون بِقدَرِ الله -عزَّ وجلَّ-، فهو الذي يقدّرها وقوعًا ويرفعها -سبحانه وتعالى-، وكل شيءٍ من أفعال الله -عزَّ وجلَّ- فإنَّه لا يجوز للإنسان أن يَسُبَّه؛ لأن سَبَّه سبًّا لخالقه -جلَّ وعلا-؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَسُبوا الدَّهر؛ فإنَّ الله هو الدَّهر».شرح رياض الصالحين(6/٤٦٧).
قوله: «فإنها تُذْهِب خَطايا بني آدم كما يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثُ الحَديد»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنَّها تُذهب» أي: تَمحو وتُكَفر وتُزِيْلُ «خَطَايا بني آدم» أيّ: مما يَقبل التَكفير. «كما يُذْهِبُ الكِير»: بالكسر. «خَبَث الحديد»: بفتحتين أي: وَسَخه. مرقاة المفاتيح (3/ 1131).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«فإنها تُذهِب خطايا بني آدم» هذا تعليلٌ لمنعِ سَبِّ الحُمَّى؛ لما يكون عنها من الثَّواب، فيتعدى ذلك لكل مشقَّة، أو شِدَّة يُرتجى عليها ثواب، فلا ينبغي أن يُذَم شيءٌ من ذلك، ولا يُسَبّ.
وحكمة ذلك: أن سَبَّ ذلك إنما يَصدر في الغالب عَن الضَّجر، وضَعف الصَّبر، أو عدمه، وربما يُفْضِي بصاحبه إلى السَّخط المحرَّم، مع أنه لا يُفيد ذلك فائدةً، ولا يخفف ألمًا... وأنَّ الأُجور على الأمراضِ والمصائبِ لا تَحصلُ إلا لمن صبرَ واحتَسب. المفهم (6/548، 549).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«تُذهِب خطايا بني آدم» أي: تُزيلها «كما يُذِهب الكِير»؛ أي: كِير الحَدَّاد وهو المبنيُّ من الطين، وقيل: الزِّق الذي يُنفخ به النار. «خَبَث الحديد»؛ يعني: الحُمَّى تُطهر بني آدم من الذنوب كما يُطَهِّر الكِيْرُ الحديد من الخَبَث. شرح المصابيح (2/ 312).
وقال الصنَّعاني -رحمه الله-:
«فإنها تُذهِب خطايا بني آدم» تُكفِّرُها، والمراد المؤمنون منهم، «كما يُذْهِب الكِير خَبَث الحَديد»؛ وذلك أنَّهما حظُّ كل مؤمن من النَّار كما في حديث آخر، فهي نِعمةٌ يَنبغي أنْ تُشْكَر لا أن تُسَب وتُذَم. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 108).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
والمعنى -والله أعلم-: أنَّ حرَارَة الحُمَّى في الدنيا تُكفِّر ذُنوب المؤمن، ويَطْهُر بها، حتى يَلقى الله -عزَّ وجلَّ- بغير ذَنبٍ، فَيَلقاه طاهرًا مطهَّرًا من الخَبَث، فيَصلُح لِمجاورته في دار كرامته دار السَّلام، ولا يَحتاج إلى تَطهير في كِير جهنَّم غدًا؛ حيثُ لم يَكن فيه خَبَث يحتاج إلى تَطهير، وهذا في حق المؤمن الذي حَقَّق الإيمان، ولم يَكُن له ذُنوب، إلا ما تُكفِّره الحُمَّى وتُطهِّره.
وقد تواترت النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بتكفير الذنوب بالأسقام والأوصاب، وهي كثيرةٌ جدًا يَطول ذكرها. البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى (2/ 374).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وإنَّما فَعَلت الحُمَّى في الخَطايا هذا؛ لأنَّ الالْتذاذ بالمعاصي يكون بالقلب والجوارح، والحُمَّى حرارةٌ تنشأُ من القلب وتَعمُّ الجوارح، فلا يبقى في البدن -الذي الْتَذَّ- شيء إلا تَألم، فلذلك تُصَفِّيه من الخَطايا. كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 106).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «تُذهب بالخطايا كما يُذهب الكِير بخَبَث الحديد» فالحديد إذا صُهِر على النَّار ذهب خَبَثه وبقي صافيًا، كذلك الحُمَّى تفعل في الإنسان، ولها أدوية علاجية، منها الماءُ البارد؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنَّ الحُمَّى مِن فيحِ جهنَّم، وأمرنا أنَّ نُطفِئها بالماء البارد، ولهذا أقرَّ الأطباءُ في الوقت الحاضر بأن مِن أفضل علاج الحُمَّى البرودة؛ حتى إنهم يجعلون الإنسان إذا أصابته الحُمَّى حول المكيّفات الباردة التي لا تَضرُّه، أو يجعلوا خِرقةً مبلولةً بالماء يغطونه بها -يغطون المريض-؛ لأنَّ الحُمَّى بإذن الله حرارةٌ كما هو معروفٌ، وهذا الماء يُبردها ويَطردها، وهو شيء أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو حقٌ، المهم أنَّ الإنسان يَصبر ويحتسب على كل الأمراض لا يَسبّها. شرح رياض الصالحين (6/468).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفيها رَفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات، قال النَّووي -رحمه الله-: وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وحَكى القاضي عياض -رحمه الله- عن بعضهم أنَّها تُكَفِّر الخطايا فقط، ولا ترفع درجة، ولا تكتب حسنة، قال: ورُويَ هذا عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: الوَجع لا يُكتَب به أجرٌ؛ لكن تُكَفَّر به الخطايا فقط، واعتمد على الأحاديث التي فيها تَكفير الخطايا، ولم تبلغه الأحاديث التي ذَكرها مسلم -رحمه الله- المصرِّحة برفع الدَّرجات وكتابة الحسنات اهـ.
ومِن الذين نفوا رفع الدَّرجات بالمصائب: الشيخ عز الدين بن عبد السلام -رحمه الله- حيث قال: ظنَّ بعضُ الجَهلةِ أنَّ المُصاب مأجورٌ، وهو خطأٌ صريحٌ؛ فإنَّ الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصائب ليست منها؛ بل الأجر على الصَّبر والرضا.
وتُعقب بأن الأحاديث الصحيحة صريحةٌ في ثبوتِ الأجر بمجردِ حصول المصيبة، وأما الصبر والرضا فَقدْرٌ زائدٌ يمكن أن يُثاب عليهما زيادةً على ثواب المصيبة. وظاهر كلام القرافي -رحمه الله- أنَّ المصائب تُكفِّر الذنوب، وأن الصَّبر والرضا أيضًا هما في دائرةِ تكفير الذنوب، وليس فيه زيادةُ أجرٍ؛ حيث قال: المصائب كفارات جزمًا سواءً اقترن بها الرضا أم لا؛ لكن إن اقترن بها الرضا عَظُم التكفير وإلا قلَّ.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: والتَحقيق أنَّ المُصيبة كفَّارةٌ لذنبٍ يوازيها، وبالرضا يُؤجَر على ذلك؛ فإن لم يَكن للمُصاب ذنبٌ عُوِّض عن ذلك من الثواب بما يوازيه. وزعم القرافي -رحمه الله- أنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يقولَ للمُصاب: جعل الله -عزَّ وجلَّ- هذه المصيبة كفارةً لِذَنبك؛ لأن الشارع قد جعلها كفارة، فسؤال التَّكفير طلب لتحصيل حاصلٍ، وهو إساءة أدبٍ على الشارع.
وعندي أنَّه ليس تحصيلًا لحاصلٍ بكل حال؛ فالدعاءُ بالواقع المحقَّق دعاء بزيارته أو استمراريته... وأخذ بعضهم من إطلاقِ تكفيرِ الذنوب أنَّه يَشمل الكبائر والصَّغائر؛ لكن الجمهور خَصّوا ذلك بالصغائر.
والمراد بالتكفير: سِتر الذنب، أو محو أثره المترتب عليه من استحقاق العقوبة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 41: 43).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)