«إنكم ستَرونَ بَعدِي أَثرَةً وأمورًا تُنكِرونها»، قالوا: فما تأمُرُنا يا رسولَ اللهِ؟ قال: «أَدُّوا إِليهم حقَّهُم، وسَلُوا اللهَ حقَّكَم».
رواه البخاري برقم: (7052)، ومسلم برقم: (1843)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَثرَةً»:
الأثرة: الاستئثار بالشيء. كشف المشكل، لابن الجوزي (3/ 193).
وقال النووي -رحمه الله-:
والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، ويقال: بضم الهمزة وإسكان الثاء، وبكسر الهمزة وإسكان الثاء، ثلاث لغات حكاهن في (المشارق) وغيره، وهي: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم. شرح صحيح مسلم (12/ 225).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
المراد بها (الأَثرة) هنا استئثار الأمراء بأموال بيت المال، والله أعلم. شرح صحيح مسلم (12/ 232).
شرح الحديث
قوله: «إنكم ستَرونَ بَعدِي أَثرَةً وأمورًا تُنكِرونها»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إنكم» التفات إليهم متضمن للتّرحم عليهم. مرقاة المفاتيح (9/ 4009).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«سَتَرون» بفتح الفوقية. إرشاد الساري (10/ 170).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
«سترون» مِن أُمَراء. إرشاد الساري (10/ 168).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
«بعدي» أي: بعد موتي. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (4/ 352).
وقال ابن بطال- رحمه الله-:
«إنكم ستَرونَ بَعدِي أَثرَةً»، فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها. شرح صحيح البخارى، لابن بطال (10/ 8)
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أثرة»:
أشار -صلى الله عليه وسلم- بذلك إلى ما وقع من استئثار الملوك من قريش عن الأنصار بالأموال والتفضيل في العطاء وغير ذلك، فهو من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم-. فتح الباري (5/ 48).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «أثرة»:
أشار بذلك إلى أن الأمر يصير في غيرهم فيختصون دونهم بالأموال، وكان الأمر كما وصف -صلى الله عليه وسلم-، وهو معدود فيما أخبر به من الأمور الآتية فوقع كما قال. فتح الباري (7/ 118).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«أثرة»:
اسم من الإيثار في أموال الدنيا، ومحصِّله: منع الحق عن مستحِقِّه، وإعطاؤه لمن لا يستحق، كما فعله من جاء بعد الخلفاء الراشدين. الكوثر الجاري (11/ 7).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أَثَرةٌ» أي: سترون ما يُستأثر به من أمور الدنيا فيفضِّل غيركم عليكم بلا استحقاق في الفيء. الكاشف عن حقائق السنن (8/ 2563).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أثرة» أي: استئثارًا، يَسْتَأثِرُ عليكم أمراؤكم بأمور الدنيا من المغانم والفيء ونحوهما، ويفضِّل عليكم غيرُه نفسَه أو مَن هو أدناكم. مرقاة المفاتيح (9/ 4009).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «أثرة» ... وقد وقع ذلك بعده -صلى اللَّه عليه وسلم- خصوصًا في زمن عثمان -رضي اللَّه عنه- ومَن بعده. لمعات التنقيح (9/ 758).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
«أثَرةً» المعنى: أنه يتأثر عليكم فيفضِّل غيرَكم في نصيبه من الغنى أو في استحقاقه من مناصبه العلية، كالإِمارة والإِمامة والقضاء والخطابة. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (4/ 352).
قوله: «أمورًا تُنكرونها»:
قال المظهري -رحمه الله-:
هذا بيان قوله: «أَثَرَةً»... يعني: سترونَ أمراء يفعلون ويقولون أشياءَ لَستم عنها راضين، ويُفَضّلون عليكم مَنْ ليس له فضيلة، وأنتم تكرهون تلك الأشياء. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 292).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وأمورًا تنكرونها» من اختيارِ غيرِ مستحِقِّ الإمامة والفيء والغنيمة على مستحِقِّها، أو ما هو أعم من هذا؛ وذلك بأن تروا الحكام يُفضِّلون عليكم مَن ليس له فضيلةُ التفضيل. شرح المصابيح (4/ 248).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وأمورًا تنكرونها» يعني: من أمور الدِّين، وسقطت الواو في: (وأمورًا) في بضع الروايات، فعلى هذا يكون «أمورًا تنكرونها» بدلًا من: «أثرة». عمدة القاري (24/ 177).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وأمور تنكرونها» أي: لقبحها شرعًا، وقد ظهر ما أخبر عنه كما أخبر فهو من جملة معجزاته. دليل الفالحين (5/ 135).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا من معجزات النبوة، وقد وقع هذا الإخبار متكررًا، ووجد مخبره متكررًا.
وفيه: الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيُعطى حقه من الطاعة، ولا يُخرج عليه، ولا يُخلع، بل يُتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره وإصلاحه. شرح مسلم (12/ 232).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«وأمورًا تنكرونها» يعني: من أمور الدين، سوف تجدون تغيرًا، ولا يزال التغير يزداد، وكل زمانٍ يزداد السوءُ بالنسبة لما قبله، «لا يأتي على الناس زمانٌ إلا والذي بعده شرٌ منه». شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري (1/ 16).
قوله: «قالوا: فما تأمُرُنا يا رسولَ الله؟»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله»؟ أن نفعل إذا وقع ذلك. إرشاد الساري(10/ 168).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قالوا: فما تأمرنا؟» أي: حينئذٍ «يا رسول الله». مرقاة المفاتيح (6/ 2397).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله» يعني: أن نفعل؟ ماذا نفعل إذا وجدنا مثل هذا التغير مِن ولاة الأمر من أمراء وأعوان ماذا نفعل؟ يعني: هل نقاومهم؟ هل نرضى بالأثرة؟ شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري (1/ 16).
قوله: «أَدُّوا إِليهم حقَّهُم، وسَلُوا اللهَ حقَّكَم»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«أدوا إليهم حقهم، واسألوا الله حقكم» أي: لا تكافئوا استئثارهم باستئثاركم، ولا تقاتلوهم لاستيفاء حقكم، بل وفّروا عليهم حقّهم، واسألوا الله من فضله أن يوصل إليكم حقكم، وكِلُوا إليه أمركم. تحفة الأبرار (2/ 547).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أَدُّوا إليهم حقَّهم» يعني: أطيعوهم فيما يأمرونكم، وأعطوهم ما يطلبون منكم، وإن كان ما يطلبونَ ظُلمًا، ولا تطلبوا حقوقكم منهم كرهًا، فإن لم يعطوكم حقوقكم فلا تحاربوهم، بل اتركوها واسألوا الله الثواب على ما يظلمونكم. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 292).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«واسألوا الله» أن يواصل إليكم حقَّكم، وهو ما آثر فيه الأئمةُ من الولاة غيرَكم عليكم، ولا تقاتلوهم طلبًا لاستيفاء حقكم، بل كِلُوا الأمر إلى الله، إن الله لا يضيع عمل المصلحين. شرح المصابيح (4/ 248).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «أدوا إليهم حقهم» يعني: الزكوات والخُروج في البعوث، وغير ذلك من حقوقهم. التوضيح (32/ 282).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«أدُّوا إليهم» أي: إلى الولاة «حقَّهم» وهو طاعتكم إياهم، يعني: أطيعوهم فيما يأمرونكم. شرح المصابيح (4/ 248).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أدوا إليهم حقهم» أي: أدوا الأمراء حقهم أي: الذي لهم المطالبة به، ووقع في رواية الثوري: «تؤدون الحقوق التي عليكم»، أي: بذل المال الواجب في الزكاة، والنفس الواجب في الخروج إلى الجهاد عند التعيين ونحوه. عمدة القاري (24/ 177).
قوله: «وسَلُوا اللهَ حقَّكَم»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «وسلوا الله حقكم» قال الداودي: يقول: اسألوا الله أن يأخذ لكم حقكم، ويقيض لكم من يؤديه إليكم، قال زيد: يسألون الله سرًّا؛ لأنهم إن سألوه جهرًا كان سبًّا للولاة، ويؤدي إلى الفتنة. التوضيح (32/ 282).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«واسألوا الله حقكم» بأن يبدل الظالم بالعادل، أو يعطيكم الأجر والثواب في الآخرة. الكوثر الجاري (11/ 7).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وسلوا» بالنقل، أو مِن سأل بالألف «الله حقكم» أي: اطلبوا اللهَ أن يوصل إليكم حقكم، وهو ما أَثَرُوا فيه. مرقاة المفاتيح (6/ 2397).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وسلوا الله حقكم» وفي رواية الثوري: «وتسألون الله الذي لكم» أي: بأن يلهمهم إنصافكم أو يبدّلكم خيرًا منهم...
وظاهر هذا الحديث العموم في المخاطبين كما قاله في (الفتح)، قال: ونقل السفاقسي عن الداودي أنه خاص بالأنصار، وكأنه أخذه من حديث عبد الله بن زيد الذي قبله، ولا يلزم من مخاطبة الأنصار بذلك أن يختص بهم، فقد ورد ما يدل على التعميم، وفي حديث عمر في مسنده للإسماعيلي من طريق أبي مسلم الخولاني عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر رفعه قال: «أتاني جبريل فقال: إن أُمَّتَك مُفْتَتَنَةٌ من بعدك، فقلتُ: من أين؟ قال: من قِبَل أمرائهم وقرّائهم، يمنع الأمراءُ الناسَ الحقوق، فيطلبون حقوقهم فيُفتنون، ويتبع القراءُ أهواءَ الأمراء فيُفتنون، قلتُ: فكيف يَسلم مَن يَسلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أُعطوا الذي لهم أخذوه، وإن مُنِعوه تركوه». إرشاد الساري (10/ 168).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: دليل على أنَّ الأمير إذا أتى ما يُنْكَر لم يَمنع ذلك الحقَّ الذي له، بل يُعطاه، وأنْ يَسأل الحق الذي عليه من الله -عز وجل-، ولا ينازع، ولا يقاتل. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 47).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
في هذه الأحاديث: حُجة في ترك الخروج على أئمة الجَور، ولزوم السمع والطاعة لهم، والفقهاء مجمِعون على أن الإمام المتغلّب طاعتُه لازمة، ما أقام الجُمُعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «سترون بعدي أثرةً وأمورًا تنكروها»، فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر علي بن معبد، عن علي بن أبي طالب أنه قال: "لا بد من إمامةٍ بَرَّةٍ أو فاجرة، قيل له: البَرَّة لا بد منها، فما بال الفاجرة؟ قال: تُقام بها الحدود، وتأمن بها السُّبل، ويُقسم بها الفيء، ويُجاهَد بها العدو"، ألا ترى قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس: «من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً»، وفي حديث عُبادة: «بايَعْنَا رسول الله على السمع والطاعة» إلى قوله: «وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا»؟ فدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا يتسبب إلى سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفُر الإمامُ ويُظهِر خلاف دعوة الإسلام؛ فلا طاعة لمخلوق عليه. شرح صحيح البخاري (10/ 8).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان وجوب الوفاء ببيعة الأمراء.
2. ومنها: أنَّ هذا من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- الباهرة؛ حيث وقع هذا الإخبار متكررًا.
3. ومنها: الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيعطى حقه من الطاعة، ولا يُخرج عليه، ولا يُخلع.
4. ومنها: أن حل مشكلة الأمراء لا تكون إلا بالتضرع إلى الله تعالى في كشفها، ودفع شره، وإصلاحه، فإن الله -عزَّ وجلَّ- كافي مَن توكل عليه، ومجيب مَن اضطر، والتجأ إليه {أَمَن يُجِيبُ المُضْطَر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشُف السُّوء} الآية النمل: 62، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (32/ 125).