يا رسولَ اللَّهِ، ما حقُّ زوجةِ أحدِنا عليه؟ قال: «أنْ تُطْعِمَها إذا طَعِمْتَ، وتَكْسُوَهَا إذا اكْتَسَيْتَ، أو اكْتَسَبْتَ، ولا تَضْرِبِ الوجهَ، ولا تُقَبِّحْ، ولا تَهْجُرْ إلَّا في البيتِ».
رواه أحمد برقم: (20013)، وأبو داود برقم (2142) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (1850)، والنسائي في الكبرى برقم: (9126)، وابن حبان برقم: (4175)، من حديث معاوية بن حيدة -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1929)، صحيح سنن أبي داود برقم: (1859).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ولا تُقَبِّحْ»:
القُبْحُ: ضِدَّ الحُسْنِ يكون في الصورة والفعل. لسان العرب (3/ ٢٢).
شرح الحديث
قوله: «يا رسولَ الله، ما حق زوجة أحدِنا عليه؟»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟» أي: ما واجبها عليه؟ دليل الفالحين (3/ 104).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والصحابة -رضي الله عنهم- كانوا إذا سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما يسألون ليعملوا، لا ليعلموا فقط، خلافًا لما عليه كثير من الناس اليوم، يسألون ليعلموا، ثم لا يعمل إلا قليل منهم؛ وذلك أن الإنسان إذا علم من شريعة الله ما علم كان حجة له أو عليه، إن عمل به فهو حجة له يوم القيامة، وإن لم يعمل به كان حجة عليه يؤاخذ به.
وما أكثر ما كان الصحابة يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمور دينهم. شرح رياض الصالحين (3/ 130، 131).
قوله: «أن تُطعمَها إذا طَعِمتَ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أن تُطعمَها إذا طَعِمتَ» التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ اهتمامًا بشأن ما قصد من الإطعام والكسوة. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2334).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
يعني: كان القياس أنْ يقول: أنْ يطعمها إذا طعم، فالمراد بالخطاب عام لكل زوج، أي: يجب عليك إطعام الزوجة وكسوتها عند قدرتك عليهما لنفسك، قال بعض الشراح: قوله: «إذا طعمتَ» بتاء الخطاب بلا تأنيث، وكذا «إذا اكتسيت» وبتاء التأنيث فيهما غلط، أي: رواية ودراية. مرقاة المفاتيح (5/ 2126).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«قال: أن تُطعمَها» بضم التاء وكسر العين «إذا طَعِمتَ» بفتح الطاء وكسر العين، أي: أكلتَ، بدليل رواية النسائي: «أطعموهن مما تأكلون» والطعام يستلزم السقي، والمعنى: وتطعمها إذا طعمت وتسقها إذا شربت، قد يؤخذ منه أنها إذا أكلت معه برضاها سقطت نفقتها، ولعل المراد: يطعمها أول وقت يَطعم غالبُ الناس فيه، وهو صدر نهار كل يوم إذا طلعت الشمس؛ لأنه أول وقت الحاجة إلى الطعام، فاعتبر. شرح سنن أبي داود (9/ 470).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ومقدار النفقة على مقدار حال الرجل، من عسره ويسره، ما كان معروفًا من مثله لمثلها. الكافي (2/ 561).
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي -رحمه الله-:
ولا تجب النفقة إلا بالدخول، أو بأن يدعى إليه، وأن يكون الزوج بالغًا، وهي ممن يستمتع بمثلها، ويمكن وطؤها، وإن لم تبلغ، ولا نفقة لناشز. المعونة (ص:782).
وقال الجويني -رحمه الله-:
واستقرار النفقة في مقابلة التمكين، وهي بتخلفها مانعة من التمكين. نهاية المطلب (12/ 364).
قال السرخسي -رحمه الله-:
ونفقة المرأة واجبة على الزوج، وإن مرضت من قبل أنها مُسلِّمة نفسها إلى الزوج في بيته، ولا فعْل منها في المرض لتصير به مفوتة، مع أنه لا يفوت ما هو المقصود من الاستئناس وغيره، ولا معتبر بمقصود الجماع في حق النفقة؛ فإن الرتقاء تستحق النفقة على زوجها مع فوات مقصود الجماع. المبسوط (5/ 192).
قوله: «وتكسُوَها إذا اكتَسَيْتَ -أو اكتسبْتَ-»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وتكسوها» بفتح التاء «إذا اكتَسَيْتَ» ويدل عليه رواية ابن ماجه: «ويكسوها إذا اكتسى» أو قال: «إذا اكتسبْتَ» بالباء الموحدة بدل المثناة، وهو شك من الراوي، والمراد بالاكتساب في هذِه الرواية ما استقر عليه ملكه من حادث بالتكسب أو موروث أو هبة ونحوها؛ لأنه مكسوب له وهو الأصل في حصوله، والسبب فيه، والواجب عليه دفع كسوة زوجته، ومذهب الشافعي أنه يلزمه كسوة كل ستة أشهر أولها؛ لأنه أول وقت حاجته وحاجتها، وهذا في كسوة البدن، أما ما يبقى سنة فأكثر، كالبُسُطِ والظروف (الأوعية) والسَّفطِ (ما يعبأ فيه الطيب ونحوه من آلات النساء) فإنه يجدد في وقت تجديده، ومثله -فيما يظهر- تبييض الدست ونحوه عند الحاجة. شرح سنن أبي داود (9/ 470، 471).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وتكسوها» بفتح التاء الفوقية والواو «إذا اكتَسَيْتَ» ومعنى كونه فرضًا عليه، إذا كان لا يأكل زائدًا على فرض القوت، أما لو كان مترفهًا في المطعم والملبس فما زاد على الواجب لها فنفل منه وإحسان عليها. دليل الفالحين (3/ 105).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وفي بعض الروايات: «أنْ تُطعمها مما طعمت، وتكسوها مما اكتسيت» وذلك أسدُّ؛ لأن الرجل إذا كان صائمًا أو غير مشتهٍ للطعام فليس له أن يحبس عنها الطعام حتى يطعم هو. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 770).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتَسَيْتَ» يعني: لا تخصَّ نفسك بالكسوة دونها، ولا بالطعام دونها؛ بل هي شريكة لك يجب عليك أن تنفق عليها كما تنفق على نفسك، حتى إن كثيرًا من العلماء يقول: إذا لم يُنفق الرجل على زوجته وطالبت بالفسخ عند القاضي، فللقاضي أن يفسخ النكاح؛ لأنه قصَّر بحقها الواجب لها. شرح رياض الصالحين (3/ 131).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها، وليس في ذلك حد معلوم، وإنما هو على المعروف، وعلى قدر وُسْعِ الزوج وجِدَتِهِ، وإذا جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- حقًّا لها فهو لازم للزوج حضر أو غاب، وإن لم يجده في وقته كان دَينًا عليه إلى أن يؤديه إليها كسائر الحقوق الواجبة، وسواء فرض لها القاضي عليه أيام غيبته أو لم يفرض. معالم السنن (3/ 221).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أن تُطعمها إذا طَعِمتَ» ليس معنى هذا الحديث أنك إذا طَعِمتَ أطْعِمها، وإذا لم تَطعم فلا تُطعمها، بل يجب على الزوج إطعام الزوجة وكسوتها كما هو مبيَّن في الفقه، سواء طعم الزوج أم لم يطعم، وإنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الكلام؛ لأنه كانت عادة بعض العرب: أنهم يأكلون ويشربون ويلبسون ويتركون أهليهم جائعين عارين، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تلك العادة. المفاتيح (4/ 90).
وقال الحسين المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وأنه يجب بقدر الوُسْع، لا يكلَّف فوقَ وُسْعِه؛ وذلك لأنه قرن نفقتها بنفقة الزوج، فمتى قدر على تحصيل النفقة وجب عليه ألا يختص بها دون زوجته، ولعله مقيد بما زاد على قدر سد خلته؛ لحديث: «ابدأ بنفسك» وغيره. البدر التمام (7/ 225).
وقال اللخمي المالكي -رحمه الله-:
وأما الكسوة فَتُفْرضُ مرتين: في الشتاء، والصيف؛ لأنها مما لا يتبعض. التبصرة (5/ 2023).
وقال الكاساني -رحمه الله-:
ويجب عليه من الكسوة في كل سنة مرتين: صيفية، وشتوية. بدائع الصنائع (4/ 23).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
ويجب لها من الكسْوَة فِي السّنة مرَّتَيْنِ، من غليظ القطن أَو الكَتَّان؛ وذلك قمِيص وسراويل ومقنعة، وتزداد فِي الشتَاء جُبَّة، وَيجب لها ما تجلس عليه، وما تنام فيه من المنَازل من جنس ذلك، ولها مداس فِي رجلهَا، ومن أثاث البيت، ونحو ذلك على قِيَاسه، والله أعلم. فتاوى ابن الصلاح(2/ 457)
قوله: «ولا تضربِ الوجه»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ولا تضرب الوجه» هذا تصريح منه -صلى الله عليه وسلم- على جواز ضربهن على وفق الشرع، بأن يفعلن فاحشة، أو يتركن الصلاة، أو يخالفن أمر الأزواج، ولا يجوز الضرب على الوجه، لا في الآدمي ولا في غيره. المفاتيح (4/ 90).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تضرب» أي: وألا تضرب «الوجه»؛ فإنه أعظم الأعضاء وأظهرها، ومشتمل على أجزاء شريفة وأعضاء لطيفة، ويجوز ضرب غير الوجه إذا ظهر منها فاحشة أو تركت فريضة. مرقاة المفاتيح (5/ 2126).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا تضرب الوجه» ولا المواضع المخوفة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف، ولكن قوله: «ولا تضرب الوجه» دلالة على جواز ضربها في غير الوجه، إلا أنه ضرب غير مبرح، أي: شديد بحيث يؤلمها ولا يكسر لها عظمًا، ولا يُدمي لها جسمًا. شرح سنن أبي داود (9/ 471).
وقال البغوي -رحمه الله-:
وفي قوله: «ولا يضرب الوجه» دلالة على جواز ضربها على غير الوجه، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ضرب الوجه نهيًا عامًّا، لا يضرب آدميًّا ولا بهيمة على الوجه. شرح السنة (9/ 160).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: فكأنَّ الحديث مُبيِّن لما في القرآن {وَاضْرِبُوهُنَّ} النساء: 34، قال: وقد نهى النبي-
صلى الله عليه وسلم- عن ضرب الوجه نهيًّا عامًّا، يعني: في حديث آخر، أو العموم المستفاد من هذا الحديث، حيث قال: «الوجه» ولم يقل: وجهها. مرقاة المفاتيح (5/ 2126).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فلا تضربها إلا لسبب، وإذا ضربتها فاجتنب الوجه، وليكن ضربًا غير مبرح. شرح رياض الصالحين (3/ 131).
قوله: «ولا تُقبِّحْ»:
قال المنذري -رحمه الله-:
«لا تقبِّحْ» بتشديد الباء أي: لا تُسْمِعها المكروه، ولا تشتمها، ولا تقل: قبَّحَكِ الله، ونحو ذلك. الترغيب والترهيب (3/ 51).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«ولا تقبِّح» أي: لا تشتم، ولا تقل: قبَّحك الله، قيل: لا تقل: قبَّح الله وجهك. الميسر (3/ 770).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«ولا تقبِّح» أي: لا تشتمها، ولا تقل لها: قُبحًا، ولا تقل لها: قبَّح الله وجهك، ونحوه، أو لا تَنْسِبْهَا إلى القبح، أو لا تعد قبائحها ومعايبها. تحفة الأبرار (2/ 378).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولَا تُقَبحْ» في إهانتها بالضرب، أو غيره. فتح العلام (ص: 531).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا تقبِّح» أي: لا يقول: قبَّحَك الله، من القبح وهو الإبعاد، ولا يقول: قبح الله وجهك، ولا ينسبه ولا شيئًا من بدنها إلى القبح الذي هو ضد الحسن؛ لأن الله صور وجهها وجسمها، وأحسن كل شيء خلقه، وذم الصنعة يعود إلى مذمة الصانع، وهذا نظير كونه -صلى الله عليه وسلم- ما عاب طعامًا ولا شيئًا قط، وإذا امتنع التقبيح امتنع الشتم والسب واللعن بطريق الأولى. شرح سنن أبي داود (9/ 472).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «ولا تقبِّح» أي: لا تنسب فعلها وقولها إلى القُبح، أو لا تسبَّها بقولك: قبَّحك الله من غير حق. لمعات التنقيح (6/ 123).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «لا تقبِّح» يعني لا تقل: أنت قبيحة، أو قبح الله وجهك، ويشمل النهي عن التقبيح: النهي عن التقبيح الحسي والمعنوي، فلا يقبِّحها مثل أن يقول: أنت من قبيلة رديئة، أو من عائلة سيئة، أو ما أشبه ذلك، كل هذا من التقبيح الذي نهى الله عنه. شرح رياض الصالحين (3/ 132).
قوله: «ولا تهجر إلا في البيت»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
وقوله: «لا تهجر إلا في البيت» أي: لا تهجرها إلا في المضجع ولا تتحول عنها أو تحولها إلى دار أخرى. معالم السنن (3/ 221).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ولا تهجر إلا في البيت» يعني: لو غضبت عليها لا تخرج من البيت، ولا تتركها في البيت الخالي؛ فإنها ربما تخاف من البيت الخالي، وربما يقصدها رجل بفاحشة وغير ذلك، بل إذا غضبتَ عليها ففارقها من فراشها إلى ناحية من ذلك البيت. المفاتيح (4/ 90، 91).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ولا تهجر» عند النشوز «إلا في البيت» فاترك مضاجعتها، ولا تترك كلامها عند حاجتها. دليل الفالحين (3/ 105).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تهجر إلا في البيت» أي: لا تتحول عنها، أو لا تحولها إلى دار أخرى؛ لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} النساء: 34. مرقاة المفاتيح (5/ 2126).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
والحاصل: أن الهجران يجوز أن يكون في البيوت وغيرها، وأن الحصر المذكور في حديث معاوية المعلق هنا (علقه البخاري في صحيحه) غير معمول به، بل يجوز في غير البيوت، كما فعله -صلى الله عليه وسلم-. إرشاد الساري (8/ 100).
وقال السندي -رحمه الله-:
«ولا تهجر إلا في البيت» أي: لا تهجرها إلا في المضجع، ولا تتحول عنها، أو لا تحولها إلى دار أخرى، ولعل ذلك فيما يعتاد وقوعه من الهجر بين الزوج والزوجة، وإلا فيجوز هجرهن إذا عظمت المعصية في بيت آخر، كهجر النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- إياهن شهرًا، واعتزالهن في الْمَشْرُبَةِ (الغرفة)، والله تعالى أعلم. فتح الودود (2/ 506، 507).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال المهلب: هذا الذي أشار إليه البخاري (في ترجمته: باب: هِجْرَةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه في غير بيوتهن) كأنه أراد أنْ يستنَّ الناس بما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- من الهجر في غير البيوت رفقًا بالنساء؛ لأن هجرانهن مع الإقامة معهن في البيوت آلم لأنفسهن، وأوجع لقلوبهن بما يقع من الإعراض في تلك الحال؛ ولما في الغَيبة عن الأعين من التسلية عن الرجال، قال: وليس ذلك بواجب؛ لأن الله قد أمر بهجرانهن في المضاجع، فضلًا عن البيوت، وتعقبه ابن المنير: بأنَّ البخاري لم يُرِدْ ما فهمه، وإنما أراد أن الهجران يجوز أن يكون في البيوت وفي غير البيوت، وأن الحصر المذكور في حديث معاوية بن حيدة غير معمول به، بل يجوز الهجر في غير البيوت، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ا.هـ.
والحق: أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فربما كان الهجران في البيوت أَشد من الهجران في غيرها، وبالعكس، بل الغالب أن الهجران في غير البيوت آلم للنفوس، وخصوصًا النساء؛ لضعف نفوسهن، واختلف أهل التفسير في المراد بالهجران، فالجمهور على أنه ترك الدخول عليهن، والإقامة عندهن على ظاهر الآية، وهو من الهجران، وهو البُعْد، وظاهره: أنه لا يضاجعها، وقيل: المعنى: يضاجعها ويولِّيها ظهره، وقيل: يمتنع من جماعها، وقيل: يجامعها ولا يكلمها، وقيل: {وَاهْجُرُوهُنَّ} النساء: 34، مشتق من الهُجر بضم الهاء، وهو الكلام القبيح، أي: أغلظوا لهن في القول، وقيل: مشتقٌّ من الهجار، وهو الحبل الذي يشد به البعير، يقال: هجر البعير، أي: ربطه، فالمعنى: أوثقوهن في البيوت، واضربوهن، قاله الطبري وقواه، واستدل له، ووهاه ابن العربي، فأجاد. فتح الباري (9/ 301).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
وفيه: الحث على معاشرة الزوج زوجته بالمعروف، وجواز تأديبها إذا استحقته، والنهي عن المبالغة فيه، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وحسبه أن السائل كان زوجًا. فتح العلام (ص: 532).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: تكريم الوجه، بحيث لا يضرب ولا يقبِّح، ولا يتفل عليه؛ ولذلك لو أن أحدًا تفل على وجه شخص لاستشاط غضبه، ولو تفل على غترته من الخلف ربما دعاه لتنظيف الغترة، على كل حال: الشيء يختلف، لو أن أحدًا فعل ذلك في وجهك ما تركته إلا أن تخشى من شر أكبر...
ومن فوائد الحديث: بيان شمول الشريعة الإسلامية، وأنها لم تدع شيئًا ينفع الناس في معاشهم ومعادهم إلا بيَّنَته، أحيانًا يكون السبب سؤال سائل، أو حدث نازلة يتبين بها الحكم، وأحيانًا يكون ذلك بدون سبب، يبتدئ النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكم بدون أن يكون لذلك سبب. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 551-552).