«لا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُم شيئًا من المعروفِ، وإنْ لم يجدْ فَلْيَلْقَ أخاه بوجهٍ طَلْقٍ، وإنْ اشتريتَ لحمًا أو طَبَخْتَ قِدْرًا فأكثِرْ مَرَقَتَهُ واغْرِفْ لجارِكَ منه».
رواه الترمذي برقم: (1833)، من حديث أبي ذر-رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7634).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لا يَحْقِرَنَّ»:
بفتح المثناة فوق، وكسر القاف، وفتح الراء، وشدّ النون، أي: لا تستصغِرَنَّ، يقال: حَقَرَهُ واحْتَقَرَهُ واستَصْغَرَهُ. فيض القدير، للمناوي (1/121).
«المعروف»:
اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكُلّ ما نُدب إليه الشرع، ونهى عنه من المُحسِّنات والمقبِّحات. النهاية، لابن الأثير(3/٢١٦).
«طَلْق»:
وهو المنبسط السهل. إكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 106).
«طَبخْتَ»:
الطَّبْخُ: إنضاج اللحم وغيره اشتواءً واقتدارًا. لسان العرب، لابن منظور (3/ 36).
«مَرَقته»:
هو الماء الذي يُستخرَجُ من الَّلحم ونحوه عند الطبخ للائتدام بِهِ. الفائق في غريب الحديث، للزمخشري (3/ 355).
«واغْرِفْ»:
أي: أَعْطِ غَرْفةً منه لجارك. تحفة الأحوذي، للمباركفوري (5/ 458).
شرح الحديث
قوله: «لا يحقرنَّ أحدُكم شيئًا من المعروف»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «لا يحقرنَّ أحدُكم شيئًا من المعروف» أي: من الأعمال الصالحة، أو من أفعال الخير والبر والصلة، ولو كان قليلًا أو صغيرًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1345).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: لا تَعُدَّن بأي شيء من المعروف حقيرًا، فتزهد فيه لحقارته، وقد تصدقت عائشة -رضي الله عنها- بحبةٍ من عنب، فقيل لها في ذلك، فقالت: كم فيها من مثقال ذرة؟ التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 315).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «من المعروف شيئًا» احتقارًا له واستهانة لقدره، فكل معروف وإن قَلّ نفعُه فهو صدقه ينمو أجره إلى يوم القيامة. دليل الفالحين (5/ 273).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإنسان لا يحقر من المعروف شيئًا يعني المعروف والإحسان إلى الناس لا تحقر شيئًا منه أبدًا وتقول: هذا قليل، ولو أعطيته قَلَمًا أو شيئًا قليل القيمة ماديًّا فلا تحقر شيئًا. شرح رياض الصالحين (4/ 453).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«شيئًا» أي: كثيرًا كان أو حقيرًا. البحر المحيط الثجاج (41/ 153).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
ولا ينبغي أن يحقر من الخير شيئًا...؛ والجامع لذلك كله قوله -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة: 7- 8، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 40. العدة في شرح العمدة(2/ 733).
وقال العراقي -رحمه الله-:
مِن كرم الله تعالى أنه يُنِيْلُ الإنسان الفوز بالجنة والنجاة من النار بالعمل اليسير كما جاء في حديث عَدِيِّ بن حاتم في الصحيح: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، وكما قال في الحديث الآخر: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا». طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 68).
قوله: «وإنْ لم يجد فليلقَ أخاه بوجهٍ طَلْقٍ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
(الوجه الطلق) الذي فيه بشاشةٌ وفرحٌ؛ يعني: افعلِ الخيراتِ كلَّها قليلها وكثيرها.
ومن الخيرات: أنْ يكون وجهُك ذا بشاشةٍ وفرحٍ إذا رأيتَ مسلمًا، فإنه يَصِلُ إلى قلبه سرورٌ إذا تركتَ العُبوسَ وتتلطف عليه. ولا شك أنَّ إيصال السرور إلى قلوب المسلمين حسنة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 533).
وقال المظهري -رحمه الله-:
الوجه الطليق: الذي فيه بشاشة وفرح، يعني: افعل الخيرات كلها قليلها وكثيرها، ومن الخيرات: أن يكون وجهك ذا بشاشة وفرح إذا رأيت مُسْلمًا، فإنه يصل إلى قلبه سرور إذا تركت العبوس وتتلطف عليه،
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فالذي يُتلقَّى بالبِشْرِ وطلاقة الوجه هو المؤمن، أما الكافر فإن كان يُرجى إسلامه إذا عاملناه بطلاقة الوجه والبِشْرِ فإننا نعامله بذلك؛ رجاء إسلامه وانتفاعه بهذا الِّلقَاء، وأمَّا إذا كان هذا التواضع وطلاقة الوجه لا يزيده إلا تعاليًا على المسلم وترفُّعًا عليه فإنه لا يُقابل بذلك. شرح رياض الصالحين (4/ 61).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوجهٍ طلْق» أي: ولو لم تجد من المعروف ما تقدمه لأخيك المسلم إلا أن تتبسم له وتُظْهِر الفرح بلقائه، والوجه الطلق: هو السهل المنبسِطِ المستبشر. شرح بلوغ المرام (10/ 195).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«بوجهٍ طلْق» أي: منطلق، وهو ضد العبوس. كشف المشكل (1/ 371).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«بوجهٍ طلْقٍ» بوجهٍ ضاحك مستبشر؛ وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودفع الإيحاش عنه وجبر خاطره؛ وبذلك يحصل التأليف المطلوب بين المؤمنين. دليل الفالحين (2/ 356).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فكل شيء يجلب المودة والمحبة بين الناس لا تحقره؛ ولهذا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق»، إلى هذا الحد تلقى أخاك بوجهٍ طليق يعني: غير عبوس، لكن أحيانًا يغلبنا عدم التوسع في هذا الأمر؛ لسبب أو لآخر. شرح رياض الصالحين (4/ 453).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
إذن تحرص على ألا تحقر شيئًا من المعروف، كل معروف فهو صدقة، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلْقٍ، وإن لقيتَ أخاك بوجه عبوس فلا ينبغي لك هذا، إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك لسبب من الأسباب، فلكل مقام مقال. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 296).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
لقاء المسلم للمسلم باب من أبواب الخير والتواد والتراحم، فعلى من تيسَّر له هذا الباب أن يدخله بما يغرس في النفوس هذا المعنى، بالسلام وانبساط أسارير الوجه وطلاقته، وهذا المعروف لا يكلِّف شيئًا لا مالًا ولا جهدًا، بل العكس يمنح المنبسِط هدوءًا وراحة وسعادة كما يمنح أخاك أَمْنًا وأمانًا واطمئنانًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 122).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ثم إنَّ طلاقة الوجه توجِب سرور صاحبك؛ لأنَّك تفرِّق بين شخص يلقاك بوجه معبس وشخص يلقاك بوجه منطلق؛ لهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلْقٍ» فهذا من المعروف؛ لأنه يُدخل السرور على أخيك ويشرح صدره، ثم إذا قَرَنَ ذلك بالكلمة الطيبة حصل بذلك مصلحتان: طلاقة الوجه والكلمة الطيبة...شرح رياض الصالحين (4/ 62).
قوله: «وإنْ اشتريتَ لحمًا أو طَبَخْتَ قِدْرًا فأكثر مَرقته، واغرف لجارك منه»:
قال المباركفوري -رحمه الله-:
«وإذا اشتريتَ لحمًا أو طبَخْتَ قِدْرًا» الظاهر: أنَّ (أو) للشكِّ، ويحتمل: أن تكون للتنويع، والمعنى: إذا طبختَ لحمًا أو طبختَ قِدْرًا من غير الَّلحم كَالسَّلْقِ وغيره. تحفة الأحوذي (5/ 458).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«مرقةً» سواء كانت من لحم أو غيرها كالسَّلْق والبطاطس والطماطم، والمعنى: إذا طبختَ لحمًا، أو طبختَ قِدْرًا من غير اللحم كالسَّلْقِ وغيره. مرشد ذوي الحجا والحاجة (19/ 445).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
«فأكثر مرقته، واغرف لجارك منه» قال العلماء: هذا أمرُ ندب، ويُعد إرشادًا إلى مكارم الأخلاق. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (19/ 58).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإكثار المرق؛ بقصد التوسعة على الجيران وأهل البيت والفقراء، والأمر فيه محمول على النَّدَبِ. عمدة القاري (21/ 64).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
حتى المرق إذا أعطيته جيرانك هدية فإنك تُثاب على ذلك. شرح رياض الصالحين (2/ 168).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قال الأُبي: وإن لم يكن مع المرق لحم هو بحسب الحال من كثرة اللحم وقِلّته. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (24/ 468).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختلف في حدِّ الجِوار، فجاء عن علي -رضي الله عنه-: مَن سمع النداء فهو جار، وقيل: مَن صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار، وعن عائشة -رضي الله عنهما- حد الجوار أربعون دارًا من كل جانب، وعن الأوزاعي مثله.
وأخرج البخاري في (الأدب المفرد) مثله عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا: «أَلَا إنَّ أربعين دارًا جار».
وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب: «أربعون دارًا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه»، وهذا يحتمل كالأولى، ويحتمل: أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة. فتح الباري (10/ 447).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه: أن طلاقة الوجه للمسلمين والانبساط إليهم محمود مشروع مُثاب عليه، وبخلافه التَّجَهُّم لهم والازْوِرَاء عنهم إلا لغرضٍ دينيٍ... وكفى بِخُلُقِ نبينا -عليه السلام- في ذلك، وبما وصفه الله به ونزَّهَهُ عنه من قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: 159. إكمال المعلم (8/ 106).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: الحث على فضل المعروف وما تيسر منه وإن قلَّ حتى طلاقة الوجه عند الِّلقَاء. شرح مسلم (16/ 177).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: الحض على فعل الخير، قلَّ أو كثر، وألا تحقر منه شيئًا، وهذا كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الزلزلة: 7. إكمال المعلم (8/ 106).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه: دلالة على التوصية بحق الجار والإحسان إليه، وبيان عظيم حقِّه. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 224).
وقال المغربي -رحمه الله- أيضًا:
وفي الحديث دلالة على فعل المعروف وما تيسر منه وإن قلَّ، حتى طلاقة الوجه عند الِّلقاء. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 224).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1-استحباب طلاقة الوجه.
2-أن طلاقة الوجه من المعروف الذي يُقرِّب العبد من الله -عز وجل-.
3-لا يجوز للمسلم أن يحتقر شيئًا من المعروف مهما كان. شرح بلوغ المرام (10/ 196).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: الحثَّ على فعل المعروف ولو بطلاقة الوجه والبِشْرِ والابتسام في وجه من يلاقيه من إخوانه.
وفيه: الوصية بحق الجار وتعاهده ولو بمرقة تهديها إليه. سبل السلام(2/ 637).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: ما يدل على أن لقاء الأخ بالقطوب مكروه، وأنَّ لقاءه بالبِشْر مستحبٌّ، فإن كنتَ في حال مقطبًا لغير حال تتعلَّق بأخيك، فالأولى ألا تكشر في وجه أخيك، متكلفًا ذلك؛ لتحظى بأجره وأجر تكلُّفِك له، وإن هذا من أدنى برِّك بأخيك، فكيف إذا كلمته وصافحته وصاحبته ورافقته إلى غير ذلك؟ والوجه الطَّلْق: ضد العابس. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 195).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: حِفْظُ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسب الطاقة: كالهدية والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسيَّة كانت أو معنوية، وقد نفى -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عمن لم يأمن جارُهُ بوائِقَهُ...، وهي مبالغة تُنبئ عن تعظيم حق الجار، وأنَّ إضراره من الكبائر، قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع: إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل.
والذي يخص الصالح: هو جميع ما تقدم.
وغير الصالح: كفّه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويُبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويَعِظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضًا، ويستر عليه زَلَـلَهُ عن غيره وينهاه برفق، فإن أفاد فبه، وإلا فيهجره قاصدًا تأديبه على ذلك، مع إعلامه بالسبب؛ ليكف. فتح الباري (10/ 442).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)