الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«‌المؤَذِّنُون ‌أطْولُ ‌الناس أعناقًا يوم القيامة».


رواه مسلم برقم: (387) عن معاوية -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


..


غريب الحديث


«‌أعْناقًا»:
العُنُقُ: وهو وصلة ما بين الرأس والجسد، يُذَكَّر ويُؤنَّث، وجمْعُه أعْناق، ورَجُلٌ أَعْنَقٌ، أي: طويل العُنق. مقاييس اللغة (4/ 159).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
ذكر الخطابي والهروي أن بعض الناس رواه بكسر الهمزة، فإن كان كذلك فهو الإسراع، يريد إلى الجنة. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (5/ 7).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
عُنُقٌ: فيه: «‌المؤَذِّنُون ‌أطْولُ الناس أعناقًا يوم القيامة»، أي: أكثر أعمالًا، يقال: لفلان عُنقٌ من الخير: أي: قِطْعةٌ. وقيل: أراد طُول الأعناق أي: الرقاب؛ لأن الناس يومئذٍ في الكرب، وهم في الرَّوْحِ مُتطَلِّعون؛ لأنْ يُؤذن لهم في دخول الجنة. وقيل: أراد أنهم يكونون يومئذٍ رؤساء سادة، والعرب تصف السادة بطول الأعناق.
ورُوي «أطْولُ إعْنَاقًا» بكسر الهمزة، أي: أكثر إسراعًا، وأعْجَل إلى الجنة، يقال: أَعْنَقَ يُعْنِقُ إعْنَاقًا فهو مُعْنِقٌ، والاسم: العَنَق بالتحريك: المشي السَّريع. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/310).
وقال التُّورِبِشْتِي -رحمه الله-:
ومن الناس من يقول: «إعْنَاقًا» مكسورة الهمزة على المصدر، أي: إسراعًا إلى الجنة؛ وهو قولٌ غير معتدٍّ به روايةً ومعنىً. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 193).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وقال التُّورِبِشْتِي: وهذا قولٌ غير معتدٍّ به روايةً ومعنىً، انتهى. وفيه ما فيه، وبعد تسليم عدم اعتداده روايةً فهو في معنى الوجه الذي رجَّحه، فلا معنى لعدم الاعتداد معنى. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (2/ 413).


شرح الحديث


قوله: «‌المؤَذِّنُون ‌أطْولُ ‌الناس أعناقًا يوم القيامة»:
قال ابن قتيبة -رحمه الله-:
سألتَ عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «‌المؤَذِّنُون ‌أطْولُ الناس أعناقًا يوم القيامة»، وقلتَ: ما في هذا من الفضيلة أو المثوبة، وهو بأن يكون عقوبة أشْبه لما في ذلك من القُبح والشهرة؟
وقد ذهبتَ في الغلط مذهبًا بعيدًا، وإنما جعل الله أعناقهم يوم القيامة أطول من أعناق الناس؛ لرفعهم أصواتهم في الأذان بذكرهِ وتوحيده، فرَفَعَهُم يوم القيامة على الناس ليُعَرِّفَهُم إياهم، ويُعَرِّفَهُم فضل ما أعطاهم من الكرامة، ويشْهرَهُم بها.
وأما قولك: إن في طُول الأعناق قُبحًا وشُهرة، فإنه يَقْبُحُ من ذلك ما أَفْرَطَ، وتَجاوز مقدار التركيب والبُنية، وكذلك سائر الأعضاء إذا تَجاوز بعضُها مقدارَ ما عَرَفَ الناس وأَلِفُوا، فأما طول العُنق فمُستَحسن، وهو الجِيْدُ، والمرأة جَيْدَاءُ. المسائل والأجوبة، لابن قتيبة (ص: 276).
وقال المازري -رحمه الله-:
اختُلف في تأويل هذا، فقيل: معناه: أطول الناس تشَوُّفًا إلى رحمة الله؛ لأن المُتَشَوِّفَ يُطيل عُنقه لما يُتَشَوَّف إليه، فكنَّى عن كثرة ما يرونه من ثوابهم بطول أعناقهم.
وقال النَّضْر بن شميل: إذا أَلْجَمَ الناسَ العرقُ يوم القيامة طالت أعناقهم؛ لئلا يغشاهم ذلك الكرب.
وقال يوسف بن عبيد: معناه: الدُّنُوّ من الله تعالى، وهذا قريبٌ من الأول الذي ذكرناه. وقيل: معناه: أنّهم رؤساء، والعرب تصف السادة بطول الأعناق، قال الشاعر:
طوال أنْضِية الأعناق واللِّمَمِ
وقيل: معناه: أكثر الناس أتباعًا.
وقال ابن الأعرابي: معناه أكثر الناس أعمالًا، وفي الحديث: «يَخْرجُ عُنُقٌ من النار»، أي: طائفة، ويُقال: لفلان عُنُقٌ من الخير، أي: قِطْعة.
ورواه بعضهم: إعناقًا، أي: إسراعًا إلى الجنة، مِن سير العَنَق، قال الشاعر:
ومِن سَيْرها العَنَق المُسْبَطِرُّ *** والعَجْرَفيَّةُ بعد الكَلال.
العَجْرَفِيَّةُ: ضرب من السير، ومنه الحديث: «كان يَسِيْرُ العَنَقَ، فإذا وجد فَجْوَة نَصَّ»، ومنه الحديث: «لا يزال الرَّجُل مُعْنِقًا ما لم يصب دمًا»، يعني: منبسطًا في سيره يوم القيامة.
وقد احتجَّ بهذا الحديث من رأى أن فضيلة الأذان أكثر من فضيلة الإِمامة، وفي ذلك اختلاف بين أهل العلم: أيهما أفضل المؤذن أم الإِمام؟ واحتجَّ من قال: إن الإِمامة أفضل: فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يؤُمُّ، ولم يكن يُؤَذِّنُ، وما كان -صلى الله عليه وسلم- ليقتصر على الأدنى ويترك الأعلى.
واعتُذر عن ذلك: بأنه -صلى الله عليه وسلم- ترك الأذان لما يشتمل عليه من الشهادة له بالرسالة والتعظيم لشأنه، فترك ذلك إلى غيره.
وقيل: إنما ترك ذلك لأن فيه الحيعلة، وهي أمر بالإِتيان إلى الصلاة، فلو أمر في كل صلاة بإتيانها لما استخف أحد ممن سمعه التأخر، وإن دعته الضرورة إليه؛ وذلك مما يشق.
وقيل أيضًا: لأنه كان -صلى الله عليه وسلم- في شغل عنه، وقد قال عمر -رضي الله عنه-: لو أطَقْتُ الأذان مع الخِلِّيفى لأذَّنْتُ، والخِلِّيفَى: الخلافة. المعلم بفوائد مسلم (1/390-391).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قال ابن الأعرابي: معناه: أكثرهم أعمالًا، يقال: لفلان عُنُقٌ من الخير أي: قِطْعة.
وقال غيره: أكثرهم رجاءً؛ لأن من يرجو شيئًا طال إليه عنقُه، فالناس يكونون في الكرب يَشْرَئِبُّونَ أن يُؤْذَنَ لهم في دخول الجنة.
وقيل: معناه: الدُّنُوُّ من الله.
وقيل: أراد أنهم لا يُلْجِمُهم العَرَقُ؛ فإن الناس يوم القيامة يكونون في العَرَقِ بقدر أعمالهم.
وقيل: معناه: أنهم يكونون رؤساء يومئذٍ، والعرب تصف السادة بطول العنق.
وقيل: الأعناق الجماعة، يقال: جاء عُنُقٌ من الناس، أي: جماعة.
ومعنى الحديث: أن جَمْعَ المؤَذِّنين يكون أكثر، فإن من أجاب دعوتهم يكون معهم.
وروى بعضهم: إعناقًا، بكسر الهمزة، أي: إسراعًا إلى الجنة. شرح المشكاة (3/909).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وقيل: معناه: الدُّنُوُّ من الله تعالى؛ لأن طول العنق يدل غالبًا على طول القامة، وطولها لا يُطلب لذاته، بل لدلالته على تَميُّزهم عن سائر الناس، وارتفاع شأنهم عليهم.
وقيل: طول العنق كناية عن عدم التَشَوُّق والخَجَالَةِ الناشئة عن التقصير.
وقيل: أراد أنهم لا يُلْجِمُهم العَرَقُ يلجمهم العرق يوم يبلغ أفواه الناس؛ فإن الناس يوم القيامة يكونون في العَرَقِ بقدر أعمالهم، فالوصف بطول القامة ليس لذاته هنا أيضًا، بل للنجاة من المكروه.
وقيل: معناه: أنهم يكونون رؤساء يومئذٍ، والعرب تصف السادة بطول العنق، كما قال: الرؤوس والنواصي والصدور.
وقيل: الأعناق الجماعات...، فالطول مجاز عن الكثرة؛ لأن الجماعة إذا توجَّهوا لمقصدهم يكون لهم امتداد في الأرض.
وقيل: طول العنق كناية عن الفرح، وعلو الدرجة، كما أن خضوع العنق كناية عن الهم والهوان.
وقال مِيرَكُ: وعندي -والله أعلم- أن يكون المراد بطول الأعناق: استقامتهم؛ طمأنينة لقلوبهم، وإظهارًا لكرامتهم، وأنهم غير واقفين موقف الهوان والذلة، مهطعين مقنعي رؤوسهم، ولا ناكسي رؤوسهم كالمجرمين؛ جزاء بما كانوا عليه في الدنيا من مد أعناقهم في الأذان...
قال الشيخ الجزري: وقد بالغ مَن ضَبَط (إعناقًا) بكسر الهمزة على أنه مصدر، أي: إسراعًا إلى الجنة، فخَالَف الرواية، وحرَّف المعنى. مرقاة المفاتيح (2/556).
وقال مغلطاي -رحمه الله-:
قول ابن الزبير: هُمّ أطول الناس أعناقًا في الجنة، ولعلَّ هذا هو الأرجح؛ لكونه هو الظاهر، مع معاضدة الحديث...وزعم ابنُ رُشْدٍ: أنَّ الأحسن في تأويل ذلك على المجاز، بمعنى: أنهم مشهورون بذلك يوم القيامة عند الناس؛ لشهرة عملهم في الدنيا، كما يقول في وقتٍ يَسْتَرِيْبُ النّاس فيه بالخوف على أنفسهم بمطالبة طالبٍ لهم، ليس يأمنُ على نفسه منهم، فلان يمشي بين النّاس طويل العُنق. شرح ابن ماجه لمغلطاي (ص: 1185).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌أعناقًا» بفتح الهمزة، جمع عُنق، ورُوي بكسرها أي: أشدهم إسراعًا إلى الجنة، مأخوذ من مَشْيِ العُنق يوم القيامة شوقًا إلى رحمة الله؛ لأن المتشوق يمد عنقه إلى ما يتشوق إليه...، وقيل: مَدُّ العنق كناية عن الفرح، كما أن خضوعها كناية عن الحزن، وعلى كل حال فهو فضيلة للمُؤَذِّنة. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 445- 446).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
وقيل: معناه أن الناس يَعْطَشون يوم القيامة، فإذا عَطش الإنسان انْطَوت عُنقُه، والمؤذنون لا يعطشون، فأعناقهم قائمة.
قال الشوكاني: وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: «‌يُعْرَفُون بطول أعناقهم يوم القيامة»، زاد السراج: «لقولهم: لا إله إلا الله».
وظاهره: الطول الحقيقي، فلا يجوز المصير إلى التفسير بغيره إلا لِمُلْجِئٍ.
والحديث يدل على فضيلة الأذان، وأن صاحبه يوم القيامة يمتاز عن غيره، ولكن إذا كان فاعله غير متَّخِذٍ أجرًا عليه، وإلا كان فعله لذلك من طلب الدنيا، والسعي للمعاش، وليس من أعمال الآخرة. مرعاة المفاتيح (2/ 360).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: فضيلة الأذان والمؤذِّن، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة في الصحيحين مُصَرِّحة بعِظَم فضله، واختلف أصحابنا: هل الأفضل للإنسان أن يرصد نفسه للأذان أم للإمامة؟
على أوجه: أصحها: الأذان أفضل، وهو نصُّ الشافعي -رضي الله عنه- في الأُمِّ، وقول أكثر أصحابنا.
والثاني: الإمامة أفضل، وهو نصُّ الشافعي أيضًا.
والثالث: هما سواء.
والرابع: إنْ عَلِمَ من نفسه القيام بحقوق الإمامة وجميع خصالها، فهي أفضل، وإلا فالأذان، قاله أبو علي الطبري، وأبو القاسم بن كَجٍّ، والمسعودي، والقاضي حسين، من أصحابنا.
وأما جمْعُ الرَّجُل بين الإمامة والأذان: فإن جماعة من أصحابنا يستحبُّ ألا يفعله، وقال بعضهم: يُكره، وقال محققوهم وأكثرهم: إنه لا بأس به، بل يُستحب، وهذا أصح، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (4/ 93).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
إذا بُعِثَ الناسُ فإن المؤذنين يكون لهم ميزة ليست لغيرهم، وهي أنهم أطول الناس أعناقًا، فيُعْرَفون بذلك؛ تنويهًا لفضلهم، وإظهارًا لشرفهم؛ لأنهم يؤَذِّنون، ويُعْلِنون بتكبير الله -عز وجل- وتوحيده، والشهادة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، والدعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، يُعلِنونها من الأماكن العالية؛ ولهذا كان جزاؤهم من جنس العمل: أن تعلو رؤوسهم، وأن تعلو وجوههم؛ وذلك بإطالة أعناقهم يوم القيامة. وهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يكون مؤَذِّنًا، حتى لو كان في نزهة هو وأصحابه؛ فإنه ينبغي أن يبادر لذلك، وقد سبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لو يعلم الناس ما في النداء، ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتَهِمُوا عليه لَاسْتَهَمُوا».شرح رياض الصالحين (5/ 32- 33).
قال الطحاوي -رحمه الله-:
ولما كان المؤَذِّنُون فيما كانوا يعانونه من أَذَانِهم في الدنيا، ورَفْعِ أصواتهم به فوق ما غيرُهم عليه من أهل الطاعات سِوَاهُ في معاناتهم إياهم، كانت في الدنيا، فاحتمل أن يكونوا بعلو أصواتهم في أذَانهم الذي كانوا يعانونه في الدنيا، ومداومتهم عليه في كل يوم وليلة خمس مرات، وإِتْبَاعِهِم ذلك إقامات الصلوات، واجتهادهم في ذلك بأصواتهم، واستعلائهم على الأمكنة التي يأتون بالأذان فيها، مع ما في ذلك من المشقة التي لا خفاء بها، جُعلوا في ذلك في طول أعناقهم يوم القيامة إلى ثوابهم عليه فوق مَن سواهم من أهل الأعمال بطاعات الله سِوَاهُ في انتظار الثواب له، والجزاء عليه. ولم نجد في تأويل هذا الحديث مما قال الناس فيه أحسن من هذا التأويل الذي ذكرناه فيه، والله أعلم بما أراده رسوله في ذلك، وإياه نسأله التوفيق. شرح مشكل الآثار (1/ 200).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وأما ما نقله البيهقي عن الظاهري أن معناه: أن المرء يعطش في الموقف، فتَنْطَوي عنُقُه، والمؤذِّن لا يعطش، فعُنُقه قائم، فلا سياق يعضده، ولا دليل يؤيده، ثم إنه لا يلزم من تمييز المؤذِّنين بهذا النعت ألا يكون غيرهم أرفع درجة منهم لأسباب أُخر، نعم أَخَذ منه النووي أنه أفضل من الإمامة، وإنما لم يُؤذِّن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لشغله بأمر الرسالة، على أنه أذَّن مرة في السفر، كما في المجموع وغيره. فيض القدير (1/ 456).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«‌أطول الناس أعْناقًا» أي: أكثرهم رجاءً، (بقولهم: لا إله إلا الله) أي: بسبب إكثارهم من النطق بالشهادتين في التأذين في الأوقات الخمس.
وفيه: إيماء إلى أن سبب نيلهم هذه المرتبة: إكثار النطق بالشهادة، فيُفيد أن مَن دوام عليها حُشر كذلك، وإن لم يكن مُؤَذِّنًا. فيض القدير (2/ 299).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وزاد هنا (بقولهم: لا إله إلا الله) فأبان سبب ذلك وهذه الكلمة، وإن كان كل مسلم يقولها إلا أنهم يقولونها في أوقات مخصوصة بصوت معروف. ويحتمل: أنه عبَّر بها عن الأذان من إطلاق الجزء على الكل. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 393-394).
وقال موسى شاهين-رحمه الله-:
«المؤَذِّنُون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة»، قال النضر: طول العنق حقيقة؛ وذلك أنه عندما يَلْجِمُ الناسَ العَرَقُ يوم القيامة تطول أعناقهم؛ لئلا ينالُهم ذلك الكرب والعَرَقُ.
وعامة شُراح الحديث على أنه كناية، واختلفوا في المراد، فقيل: كناية عن أنهم أكثر الناس تَشَوُّقًا وتطَلُّعًا إلى رحمة الله؛ وذلك أنه يلزم المتطلِّع أن يُطيل عنقه غالبًا إلى ما يتطلع إليه، لكثرة ما يرون من ثواب، وقيل: كناية عن أنهم سادة ورؤساء؛ وذلك أن أطول الناس عُنقًا أبرزهم وأعلاهم حِسًا، فأُريد أبرزُهم وأعلاهم مكانةً وقَدْرًا، وقيل: كناية عن أنهم أكثر اتِّباعًا، وهو بعيد، وقيل: كناية عن أنهم أكثر الناس أعمالًا حسنة، وهو بعيد أيضًا، وأحسن ما قرأت ما قاله الأبي، من أنه كناية عن عدم الخجل من الذنوب؛ لأن الخَجِلَ يُقصِّر عُنقَه، وينكِّس رأسه، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المجْرِمُونَ نَاكِسُوا رَؤُوسِهِم عِنْدَ رَبِهم} السجدة: 12، ومن المعلوم أن الكناية لفظ أُطلق وأُريد منه لازم معناه، مع صحة إرادة المعنى الأصلي، فالكنايات المذكورة لا تمنع من طول عُنقهم على الحقيقة، وكان الجزاء من جنس العمل، فإنهم كانوا في الدنيا يطيلون أعناقهم ويلوونها يمينًا وشمالًا بالأذان، وقد جاء عند ابن حبان: «يُعْرَفُونَ بطول أعناقهم يوم القيامة». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/ 463).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي ـ رحمه الله ـ :
وقوله: «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ظرف لـ«أطول»، وخصّه لأنه يوم استيفاء الجزاء، كما قال -عز وجل-: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية، آل عمران: 185. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (9/ 130).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير ـ حفظه الله ـ :
هؤلاء -أعني المؤذنين- فيهم متعلِّمون وعامَّة؛ لأن الأذان لا يقتصر على المتعلمين، فهل نقول: إن هؤلاء العامة الذين لا يُحسنون قراءة القرآن أطول أعناقًا من سائر الناس بما فيهم الأنبياء والشهداء والصالحين؟ أو نقول: إن اللفظ عام يُراد به الخصوص، وإلا فالأصل العموم؟ أو نقول: إن المراد العموم، وهم أطول الناس أعناقًا، ويختصون بهذه الخصيصة دون مَن سِواهم، وكون الإنسان يختص بشيء لا يعني أنه أفضل من غيره من كُل وجه.
المؤذن أطول عُنقًا من الإمام، لكن الإمام جاء فيه من الفضائل ما لا يلحقه به المؤذن، الأنبياء منازلهم معروفة، الشهداء منازلهم معروفة، العلماء أيضًا منازلهم ودرجاتهم في الدنيا والآخرة معروفة، ولا يعني هذا أنهم أفضل منهم من كل وجه، بل يعني من هذا الوجه، أما من عداهم فإنهم يفضلونهم من وجوه كثيرة جدًا جدًا.شرح المحرر في الحديث (5/ 13).


ابلاغ عن خطا