«خرجَ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- ونحن في الصُّفَّةِ، فقال: أيُّكُمْ يُحِبُّ أنْ يَغْدُوَ كل يومٍ إلى بُطْحَانَ، أو إلى العقيقِ، فيأتيَ منه بِناقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ في غيرِ إثمٍ ولا قطْعِ رَحِمٍ؟ فقلنا: يا رسول اللهِ، نُحِبُّ ذلك، قال: أفلا يَغْدُو أحدُكُمْ إلى المسجدِ فيَعْلَمُ، أو يقرأُ آيتينِ مِن كتابِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- خيرٌ له مِنْ ناقتينِ، وثلاثٌ خيرٌ له مِن ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له مِن أربعٍ، ومِن أعدادِهِنَّ مِن الإبلِ».
رواه مسلم برقم: (803)، من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الصُّفَّة»:
بضم الصاد وتشديد الفاء: ظُلَّةٌ في مؤخر مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يأوي إليها المساكين، وإليها ينسب أهل الصُّفَّة على أشهر الأقاويل. مشارق الأنوار، لعياض (2/ 55).
«بُطْحان»:
بضم البَاءِ: اسمٌ لوادي المَدِينة، والبطْحانِيُّون: منسوبون إليه، والبَطْحاءُ: كلُّ مكان مُتَّسع إذا أردتَ به البُقعةَ، وإن أردتَ به المكانَ قلت: الأَبطَح. المجموع المغيث، للمديني (1/ 167).
«العقيق»:
هو وادٍ من أودية المدينة مسيل للماء، وهو الذي ورد ذكره في الحديث أنه وادٍ مبارك. النهاية، لابن الأثير (3/ 278).
وقال الفتني الكجراتي -رحمه الله-:
والعقيق: هو وادٍ من أودية المدينة. مجمع بحار الأنوار (3/ 644).
«كَوْمَاوَين»:
أي: طويلتا السَّنام. مطالع الأنوار، لابن قرقول (3/ 393).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
ناقة كوماء: عظيمة السَّنام طويلته، والكوم: عظم في السنام. لسان العرب (12/ 529).
شرح الحديث
قوله: «خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصُّفَّة»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أي: من بعض حُجَرِهِ إلى المسجد، «ونحن في الصُّفَّة» جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو. البحر المحيط الثجاج (16/ 337).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«في الصُّفَّة» وكانت في مؤخر المسجد، معدة لفقراء أصحابه الغير المتأهلين (الذين ليس لهم أهل)، وكانوا يكثرون تارة، حتى يبلغوا نحو المائتين، ويقِلُّون أخرى؛ لإرسالهم في الجهاد، وتعليم القرآن. فتح الإله في شرح المشكاة (7/77).
قوله: «فقال: أيكم يُحب أن يغدو كل يوم إلى بُطْحان أو إلى العقيق؟»:
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«أنْ يغدوَ كل يوم» من الغُدُوِّ، وهو السير أول النهار، وقد يُراد به: مطلق السير، كما هنا. فتح الإله في شرح مشكاة (7/77).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وإنما خُصّ الموضعين بطحان والعقيق بالذكر؛ لأنهما كانا من أقرب الأودية التي كانوا يقيمون بها أسواق الإبل. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 486).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أيكم يحب أن يغدوَ» بنصب الواو «إلى بُطحان» اسم وادٍ بالمدينة، هكذا قيده أصحاب الحديث، وحكى فيه أهل العربية بفتح الباء وكسر الطاء...
«أو العقيق» اسم وادٍ من أودية المدينة، وهو الذي ورد فيه أنه «وادٍ مبارك»، والعرب تقول لكل ما شقه ماء السيل في الأرض فأنهره ووسعه: عقيق؛ وسمي العقيق لأنه عق بالحرة، وهما عقيقان: الأكبر والأصغر، فالأصغر فيه بئر رومة التي اشتراها عثمان، والأكبر بئر عروة. شرح سنن أبي داود (7/ 145).
وقال الملا علي القاري رحمه الله-:
«إلى بطحان أو إلى العقيق» الظاهر أن (أو) للتنويع، لكن في جامع الأصول: «أو قال: إلى العقيق»؛ فدل على أنه شك من الراوي. مرقاة المفاتيح (4/ 1453).
قوله: «فيأتي منه بناقتين كوماوين»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
«ناقتين كوماوين»: الكوماء من الإبل: العظيمة السَّنام، كأنهم -والله أعلم- شبَّهوا سنامها لعِظَمه بالكَوم وهو الموضع المشرف. إكمال المعلم (3/ 172).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وإنما ضرب المثل بها لأنها كانت من أحب الأموال إليهم، وأنفس المتاجر لديهم. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 486).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فيأخذ منه»، ولمسلم: «فيأتي منه»، «ناقتين كومائين» بفتح الكاف وسكون الواو وبالمد كذا ضبطه المنذري بالمد. شرح سنن أبي داود (7/ 146).
قوله: «في غير إثم، ولا قطع رحم»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«في غير إثم» أي: في غير ما يوجب إثمًا كغصب وسَرقة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 518).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«في غير إثم ولا قطع رحم» يعني: يجد ناقتين عظيمتين من غير سرقة، ولا غصب، ولا إيذاء قريبٍ له. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 64).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا قطع رحم» هو ضد صِلة الرّحم، وأصل القطع: الهجران والصد، يريد به: ترك البر والإحسان إلى الأهل والأقارب. شرح سنن أبي داود (7/ 146).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«ولا قطع رحم» صرَّح به مع دخوله فيما قبله؛ اهتمامًا بشأنه؛ لفظاعته، وشِدّة عُقوبة مرتكبه. فتح الإله في شرح مشكاة (7/77).
قوله: «فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقلنا: يا رسول الله» كُلنا «نحب ذلك» أي: تحصيل ذلك المذكور من الناقتين. الكوكب الوهاج (10/ 150).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك» لا ينافي ما كانوا عليه -رضي الله عنهم- من الورع والزهد؛ لأنهم إنما أحبوا ما به الكفاية، لا أزيد من ذلك، وهذه المحبة لا تنافي الزهد، فضلًا عن الورع. فتح الإله في شرح مشكاة (7/77).
قوله: «أفلا يغدو أحدُكم إلى المسجد فيَعْلَمَ أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقتين»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه إشارة إلى أن السعي في أمور الدنيا والآخرة أول النهار مبارك؛ كما في الحديث: «بورك لأمتي في بكورها». شرح سنن أبي داود (7/ 147).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيُعلم» بالتشديد، وفي نسخة صحيحة بالتخفيف «أو يقرأ» بالرفع والنصب فيهما، قال ميرك: هذه الكلمة يحتمل أن تكون عَرْضًا أو نفيًا، وفيه أن الفاء مانعة من كونها للعرض، ثم قال: وقوله: «فيعلم أو يقرأ» منصوبان على التقدير الأول مرفوعان على الثاني، قلتُ: ويجوز نصبهما على الثالث أيضًا؛ لأنه جواب النفي، ثم قال: «ويعلم» من التعليم في أكثر نسخ المشكاة، وصحح في جامع الأصول من العلم وكلمة «أو» يحتمل الشك والتنويع. ا. هـ. مرقاة المفاتيح (4/ 1454).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فيعلم» صحح في جامع الأصول -بفتح الياء وسكون العين-، أي: فيعلم آيتين أو يقرأ، فـ «أو» لشك الراوي. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1634).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فيعلم أو يقرأ» في أكثر نسخ المشكاة من التعليم، وصحح في جامع الأصول: من العلم، وكلمة «أو» للشك أو للتنويع، وهما منصوبان إن حمل «أفلا» على معنى العرض، ومرفوعان إن كان نفيًا. لمعات التنقيح (4/ 533).
وقال ابن حبان -رحمه الله-:
هذا الخبر أُضمر فيه كلمة وهي: (لو تصدق بها) يريد بقوله: «فيتعلم آيتين من كتاب الله خير من ناقتين وثلاث» لو تصدق بها؛ لأن فضل تعلم آيتين من كتاب الله أكبر من فضل ناقتين، وثلاث وعدادهن من الإبل لو تصدق بها؛ إذ محال أن يُشبّه مَن تعلّم آيتين من كتاب الله في الأجر بمن نال بعض حطام الدّنيا، فصح بما وصفت صحة ما ذكرت. صحيح ابن حبان (1/ 322).
قوله: «وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وثلاث خير من ثلاث» يعني: وثلاث آيات خير من ثلاث من الإبل، وأربع آيات خير من أربع من الإبل. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 64).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وثلاث» أي: ثلاث آيات، «خير له من ثلاث» من الإبل، «وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن» جمع عدد «من الإبل» بدل منها أو بيان لها، أي: وأكثر من أربع خير من أعدادهن، فسِتُّ آيات خير من ست من الإبل، وهلم جرًّا.
أو المعنى: أن الآيات تفضل على مثل عددها من النُّوق، وعلى مثل أعدادها من الإبل؛ لأن قراءة القرآن تنفع الرجل في الدنيا والآخرة؛ بأن يحفظ ببركته من البلايا في الدنيا، ويعطى الجنة في الآخرة، وأما الإبل فمتعلقة بتمتع الدنيا {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الأعلى: 17. شرح المصابيح (3/ 9).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن» جمع عدد «من الإبل» بيان للأعداد، قيل: «من أعدادهن» متعلق بمحذوف تقديره: وأكثر من أربع آيات خير من أعدادهن من الإبل، فخمس آيات خير من خمس إبل، وعلى هذا القياس، وقيل: يحتمل أن يراد: أن آيتين خير من ناقتين ومن أعدادهما من الإبل، وثلاثًا خير من ثلاث ومن أعدادهن من الإبل، وكذا أربع، والحاصل: أن الآيات تفضل على أعدادهن من النوق ومن أعدادهن من الإبل، كذا ذكره الطيبي، ويوضحه ما قيل: إنه يتعلق بقوله: وآيتين وثلاث وأربع، ومجرور أعدادهن عائد إلى الأعداد التي سبق ذكرها، و«من الإبل» بدل من «أعدادهن» أو بيان له، يعني: آيتان خير من عدد كثير من الإبل، وكذلك ثلاثًا وأربع آيات منه؛ لأن قراءة القرآن تنفع في الدنيا والآخرة نفعًا عظيمًا، بخلاف الإبل. ا. هـ.
والحاصل: أنه -عليه الصلاة والسلام- أراد ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم عن الفانيات، فذكره هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو بثوابها من الدرجات العلى. مرقاة المفاتيح (4/ 1454).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«ومن أعدادهن من الإبل» وعلى هذا القياس يوحّد الآيات التي يُعلمها أو يقرئها خيرًا من أعدادهن، ثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، فإنْ قيل: كيف تقرن بين الآية والناقة الكوماء في باب المخايرة، وعلى ماذا تقدّر المعنى فيه، وقد علمنا بالأصل الذي لا اختلاف فيه من أمر الدين أن الآية الواحدة خير من الدنيا وما فيها؟
قلنا: قولنا: إن تعليم آية من كتاب أو قراءتها خير من ناقة كوماء؛ لا ينفي كونها خيرًا من الدنيا وما فيها؛ لأنا لم نقصر القول في الخيرية عليها، وإنما صدر هذا القول منه -صلى الله عليه وسلم- على وفق ما كان المخاطب يغتنمه ويبتغيه وتعجبه خيرته من المال؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يبين لهم أن اشتغالهم بأمر الدين خير لهم مما يكدحون فيه من طلب الرزق، ولم يرد حقيقة بيان المقدار الواقع في المخايرة بين الشيئين، ويحتمل أنه أراد بذلك أنه خير لهم في أمر المعاش الذي يتوخَّونه من ناقة كوماء. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 486).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «ومن أعدادهن من الإبل» أي: وعلى هذا القياس يكون عدد الآيات التي يعلمها أو يقرأها خيرًا من أعدادهن، فخمس خير من خمس، وست من ست، هذا هو المتبادر من هذا الكلام، وقال الطيبي: ويحتمل أن يكون المعنى: الآيات تفضل على مثل عددها من النوق، ومثل عددها من الإبل، انتهى.
أقول: قد يؤيد هذا المعنى ذكر الإبل مكان النوق؛ فإن الظاهر على تقدير المعنى الأول أن يقال: من أعدادهن من النوق، إلا أن الإبل اسم جنس يشمل الذكر والأنثى، يقال للأنثى منه: ناقة، وللذكر: الجمل، كالإنسان الشامل للرجل والمرأة، فتدبر. لمعات التنقيح (4/ 533).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ومقصود الحديث: الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه، وخاطبهم على ما تعارفوه، فإنهم أهل إبل، وإلَّا فأقلّ جزء من ثواب القرآن وتعليمه خير من الدنيا وما فيها. المفهم (2/ 430، 429).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه: الذم والتحذير من تحصيل شيء من الدنيا بتضييع حق من حقوق الله، واكتساب ذنب أو معصية، أو شغله عن صلة رحم...
وفي الحديث من آداب المتعلم: أن يذهب إلى العلم أول النهار...
فيه: أن المتعلم لكتاب الله تعالى يحرص على حفظ آيات معدودة يكملها ولا يقف في قراءته على بعض آية تنتهي قراءته إليها، ويبتدئ ثاني يوم بعضها الآخر؛ بل يقف في قراءته على رؤوس الآي، واستحب بعض الأئمة التعقيب بكلمة من أول الآية التي بعدها. شرح سنن أبي داود (7/ 147- 149).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
1. منها: بيان فضل قراءة القرآن في الصلاة وغيرها.
2. ومنها: بيان فضل تعلم القرآن، وتعليمه، وأنه خير من كثير من حطام الدنيا، بل ومن الدنيا، وجميع ما عليها.
3. ومنها: الحث والترغيب في ثواب الآخرة الباقية مقارنًا بمنافع الدنيا الفانية.
4. ومنها: مشروعية ضرب الأمثال؛ تقريبًا إلى الأفهام، وتوضيحًا للأحكام...
5. ومنها: الحث في كسب الحلال الخالي من الإثم، وقطيعة الرحم -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (16/ 343).