الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«مَثَلُ البخيلِ والمتصدِّقِ مَثَلُ رجُلين عليهما جُبَّتَانِ مِن حديدٍ، قد اضْطُرَّتْ أيدِيَهُما إلى تراقِيهِمَا، فكلَّما همَّ المتصدِّقُ بِصدَقَتِهِ اتَّسَعتْ عليه حتَّى تُعْفِي أَثَرَه، وكلَّما همَّ البخيلُ بالصدقةِ انقبَضَتْ كلُّ حَلْقَةٍ إلى صاحبَتِهَا وتقلَّصتْ عليه، وانضَمَّتْ يداهُ إلى تَرَاقِيه»، فسَمِعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «فيَجتَهِدُ أن يُوسِعها فلا تَتَّسِعُ».


رواه البخاري برقم: (2917) واللفظ له، ومسلم برقم: (1021)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«جُبَّتانِ»:
الجبَّةُ بالضم: ‌ثوبٌ مِن المقطعات يُلبس. تاج العروس، الزبيدي (2/ 119).

«تَراقِيَهما»:
تَرَاقٍ: جمع تَرقُوَة، بفتح تاءٍ وواوٍ وضمِّ قافٍ. مجمع بحار الأنوار، الفتني (5/ 340).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
التَّراقي: جمع ترقوة، وهي ‌العظم ‌الذي ‌بين ‌ثغرة ‌النحر والعاتق، وهما تَرقُوَتان من الجانبين. النهاية (1/ 187).

«تُعَفِّي»:
بضم الفوقية وفتح العين المهملة وتشديد الفاء المكسورة: تُخفِي. إرشاد الساري، القسطلاني (5/ 352).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
تُعفي أثرَه أي: تمحوه وتُذهِبه. مشارق الأنوار (2/ 98).

«تَقلَّصت»:
أي: انْزَوَتْ، وانضمَّت. اللامع الصبيح، للبرماوي (8/ 512).
قال ابن فارس -رحمه الله-:
قَلَصَ: القاف واللام والصاد أصلٌ صحيح يدل على انضمام شيءٍ بعضِه إلى بعض، يقال: ‌تقلَّص الشيءُ إذا انضم. مقاييس اللغة(5/ 21).


شرح الحديث


قوله: «مَثَلُ البخيل والمتصدِّق»:
قال النووي -رحمه الله-:
أما قوله: «والمتصدِّق» فوقع في بعض الأصول «المتصدِّق» بالتاء، وفي بعضها «المصدِّق» بحذفها، وتشديد الصاد، وهما صحيحان. شرح مسلم (7/ 108).
وقال العيني -رحمه الله-:
«مثل البخيل والمتصدق» شبَّههما برجلين أراد كلٌّ منهما أن يلبس دِرعًا، فجعل مَثَل المنفِق مَثَل مَن لبسها سابغة فاسترسلتْ عليه حتى سترتْ جميعَ بدنه وزيادة، ومَثَل البخيل كرجل يَدُه مغلولة إلى عُنُقِه ملازِمة لتَرقوته، وصارت الدِّرع ثِقْلًا ووبالًا عليه لا يَتَّسِع، بل تنزوي عليه من غير وقاية له. عمدة القاري (21/ 302، 203).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«مَثَل ‌البخيل ‌والمتصدق» أي: بين حالهما الغريب الذي هو بمثابة المثَل في الغرابة. الكوثر الجاري (9/ 314).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«مَثَل البخيل» الذي هو ضد الكريم، «و» مثل «المتصدق» الذي يعطي الفقير مِن ماله في ذات الله. إرشاد الساري (8/ 423).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مثل ‌البخيل ‌والمتصدق» وفي رواية: «المنفق». التنوير (9/ 519).

‌قوله: «مَثَل ‌رَجُلَين ‌عليهما ‌جُبَّتَانِ ‌مِن ‌حديد»:
قال النووي -رحمه الله-:
أما قوله: «كمثل رَجُل» فهكذا وقع في الأصول كلها «كمثل رجل» بالإفراد، والظاهر: أنه تغيير من بعض الرواة، وصوابه: «كمثل رَجُلين». شرح صحيح مسلم (7/ 108).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة، وتحريف وتصحيف، وتقديم وتأخير، يُبَيِّنه ويُظْهِر صوابه في الأحاديث الأُخَر. ومنه قوله: «كمثل رَجُل عليه جُبّتان»، وصوابه: «كمثل رَجُلين عليهما جُنَّتان» وكذا يأتي في الحديث الآخر.
ومنه قوله: «جُبّتان أو جُنَّتان» والصواب بالنون، كما جاء في الحديث الآخر بغير شك: «جُنَّتان» والجُنّةُ: الدرع، ويدُل عليه قوله في الحديث نفسه: «وأخَذَت كل حَلْقة موضعها»، وفي الحديث الآخر: «جُنَّتان من حديد». إكمال المعلم (3/ 545).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «جُنَّتان من حديد» يعني: درعين، والجُنَّة: ما يُستجَنُّ به، وكذا صحيح الرواية، وقد روي: «جُبَّتان» بالباء بواحدة وفيه بُعدٌ في المعنى. المفهم (3/ 66).
وقال السندي -رحمه الله-:
نعم إطلاق الجبة بالباء على الجُنَّة بالنون مجازًا غير بعيد، فينبغي أن يكون الجُنَّة بالنون هو المراد في الروايتين. حاشية السندي على سنن النسائي (5/ 71).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
الظاهر أنَّ الروايتين بالموحّدة، والنون صحيحتان، واللَّه تعالى أعلم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 20).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «جُبّتَانِ» روي -كما سلَف- بالباء والنون، وفي رواية: «جُبَّتان أو جنتان» وكلا الوصفين يصح أن يمثَّل به، والأفصح بالنون، وهو: ما يتستر به الإنسان فيُجِنُّه، وكذا قَالَ صاحب (المطالع) وغيره: إن النون أصوب، وهو الدرع، يدل عليه قوله في الحديث: «لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ». التوضيح (10/ 348).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
«عليهما جُبَّتَانِ» أو «جُنَّتَانِ» والنون أصوب، وكذلك اختلف فيه رواة مسلم. مطالع الأنوار (2/ 87).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «‌عليهما ‌جُبَّتان ‌من ‌حديد» كذا في هذه الرواية بضم الجيم بعدها موحدة، ومن رواه فيها بالنون فقد صَحَّف، وكذا رواية الحسن بن مسلم، ورواه حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن طاوس بالنون، ورجّحت؛ لقوله: «من حديد» والجُنَّة في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تُجِن صاحبَها أي: تحصِّنه، والجبَّة بالموحدة: ثوب مخصوص، ولا مانع من إطلاقه على الدرع، واختلف في رواية الأعرج، والأكثر على أنها بالموحدة أيضًا. فتح الباري (3/ 306).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«مثل ‌رَجُلين ‌عليهما ‌جبَّتان ‌من ‌حديد» بالباء، وقد يروى بالنون وقيل: الصواب الباء؛ لأن الجُنَّة بالنون التّرس، ولا معنى له في الحديث، قلتُ: الجُبَّة هي الوقاية كما قال ابن الأثير في معنى الحديث، فلا خلاف في المعنى؛ لأن الجبة بالباء فيها الوقاية. الكوثر الجاري (5/ 477).
وقال الشيخ موسى شاهين لاشين -رحمه الله-:
«كمثل رَجُلين ‌عليهما ‌جُبتان ‌من ‌حديد» الجبة بضم الجيم ثوب معروف على هيئة مخصوصة، واسع وطويل عادةً، لكن الأوصاف الآتية -كونها من حديد، وأنها في الأصل تستر الجزء الأعلى من الصدر فقط- أخرجَتْهَا عن الهيئة المعروفة، مما حدا بالبعض أن يريد من الجبة الدرع، وحدا بالبعض أن يرويه «جُنَّتان» بالنون بدل الباء تصحيفًا... لكن الحديث يقصد الجبة بهيئتها؛ لأنها بعد أن يتم لبسها ويتم إسدالها تسبغ وتوفر، وقبل ذلك حين اللبس تكون متجمعة على الصدر، فمن غَلَّ يديه إلى عنقه لزقت على صدره، ومن بسط يديه بها غطت جسمَه كلَّه، وتقييدها بكونها من حديد إشارة إلى صلابة المشبَّه، وهو الطبيعة البشرية الحريصة، ولإفادة حمايتها لصاحبها المنفق ومضايقتها لصاحبها البخيل، والتثنية في مقابلة التثنية تفيد التوزيع، أي: على كل منهما جبة. المنهل الحديث (2/ 156).

قوله: «‌قد ‌اضطرت ‌أيديهما ‌إلى ‌تراقيهما»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «‌قد ‌اضطرت ‌أيديهما ‌إلى ‌تراقيهما» أي: أُلجِئَت أيديهما إلى تراقيهما، وهو جمع: تَرقوة... ووزنها: فَعْلَوة، بالفتح، وإنما ذكر التراقي لأنها عند الصدر وهو مسلك القلب، وهو يأمر المرء وينهاه. عمدة القاري (14/ 194).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«قد اضطُرت» أُلجئت «أيديهما إلى تراقيهما» جمع ترقوة وهي العظم الكبير الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين، وخصَّهما بالذكر لأنهما عند الصدر وهو مسكن القلب، وهو يأمر المرء وينهاه. إرشاد الساري (5/ 102).

قوله: «فكلما همَّ المتصدِّق بصدقتِه اتسعتْ عليه حتى تُعَفِّي أثَرَه»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
«كلما» أي: جعل السخي يتسع صدرُه كلما أراد التصدق، وأوقع المتصدق مقابلًا للبخيل، والمقابل الحقيقي السخي: إيذانًا بأن السخاوة هي ما أمر به الشرع، وندب إليه من الإنفاق، لا ما يتعاناه المبذِّرون، وخص المشبَّه بهما بلبس الجُنَّتين من الحديد؛ إعلامًا بأن القبض والشح من جِبِلَّة الإنسان وخِلقته، ومِن ثَم أضاف الشح إليه في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الحشر: 9، وأن السخاوة من عطاء الله وتوفيقه يمنحها من يشاء من عباده المخلصين، وخص اليد بالذكر لأن السخيَّ والبخيل يوصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل قيل: يده مغلولة إلى عنقه وثديه وتراقيه، وإنما عَدَل مِن الغل إلى الدِّرع لتصوير معنى الانبساط والتقلص، والأسلوب من التشبيه المفرَّق، شبَّه السخيَّ الموفَّق إذا قصد التصدق يُسهِّل عليه ويطاوعه قلبُه بمَن عليه الدرع ويده تحت الدرع، فإذا أراد أن يخرجها منها وينزعها يَسهل عليه، والبخيل على عكسه، والله أعلم. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1525).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فكلما همَّ المتصدّق بصدقته» ولأبي ذر عن الكُشْمِيْهَني: بصدقة «اتسعت عليه حتى تُعَفِّي أثره» بضم الفوقية وسكون العين، وفي الفرع (المنسوب للمزي) وأصله: بفتح العين وتشديد الفاء أي: تمحو الجبةُ أثرَ مشيه؛ لسبوغها، ومراده أن الصدقة تستر خطايا المتصدق كما يستر الثوبُ الذي يُجَر على الأرض أثرَ مشي لابِسِه بمرور الذيل عليه. إرشاد الساري (5/ 102).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
واتسعت من السَّعَة، ويعني به: طالت؛ لأنه إذا اتسع الثوب طال، فإذا اتسعت تصرَّف فيها بيده وغيره، بخلاف جُنَّة الحديد، وقد روي: «سبغت»، وهو أحسن في المعنى. المفهم (3/ 66).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: معنى «تعفو أثرهُ» أي: تذهب بخطاياه وتمحوها. إكمال المعلم (3/ 547).

قوله: «وكلما همَّ البخيلُ بالصدقةِ انقبضتْ كلُّ حلْقةٍ إلى صاحبتها وتقلَّصتْ عليه»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
«تقلصت» ارتفعت، عكس المتصدق، ومحصِّل المثالين: أن الجواد في صَرف المال يوفَّق، كلما همَّ بالإحسان وصرف المال تمكن من ذلك، والبخيل غير موفَّق. الكوثر الجاري (5/ 477).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«وتقلَّصَت» تقبَّضَت وانضمَّت على يده. المفهم (3/ 66).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
و(تقلَّصت) أي: انْزَوت وانْضَمَّت. الكواكب الدراري (12/ 175).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وكذلك قوله في البخيل: «قلصت ولزمت كل حلقةٍ موضعها» معناه: يُحمى عليه يوم القيامة فيُكوى بها. إكمال المعلم (3/ 547).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
والمعنى: أن البخيل إذا حدَّث نفسَه بالصدقة شحتْ نفسُه وضاق صدرُه وانقبضت يداه. إرشاد الساري (5/ 102).

قوله: «وانضمَّتْ يداه إلى تَراقيه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
أي: صارتا مُنْضَمَّتين «إلى تراقيه» أي: إلى عظام ثغرة نحره. الكوكب الوهاج(12/ 86).

قوله: فسمع النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «فيَجتَهِد أن يُوسِعهَا فلا تَتَّسِع»:
قال العيني-رحمه الله-:
قوله: «فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول» أي: فسمع أبو هريرة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قيل: مجموع الحديث سمعه أبو هريرة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما وجه اختصاصه بالكلمة الأخيرة؟
وأجيب: بأن لفظ (يقول) يدل على الاستمرار والتكرار، فلعله -صلى الله عليه وسلم- كرَّرها دون أخواتها. عمدة القاري (14/ 194).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: روى الحديث أبو هريرة وقد سمع الحديث كله فما وجه قوله: «فسمع»؟
قلتُ: أجابوا بأن «يقول» يدل على الاستمرار والتكرار، فلعله كرر هذا دون غيره، وهذا ليس بشيء:
أما أولًا: فلأن المضارع لا يدلُّ على الاستمرار بدون قرينة.
وأما ثانيًا: فلأن دأبه أن يقول: قال ثلاثًا، أو كرره إذا سمعه كذلك، بل الجواب: أنه سمع الحديث أولًا بدون هذه الزيادة، ثم سمع معها، والدليل على ذلك، أن الحديث تقدم في أبواب الزكاة بدون هذه الزيادة، وقوله هنا: «فسمع» بالفاء أيضًا يدل على أن سماع هذا متأخر، عن ذلك المتقدم. الكوثر الجاري (5/ 477).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
هذا مثَلٌ ضربه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- للجواد المنفِق، والبخيل الممسك، وشبَّههما برَجُلين أراد كلُّ واحد منهما أن يلبس درعًا يستجِنُّ بها، فصبها على (رأسه) ليلبسها، والدرع أول ما يُلبس إنما يقع في موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسُها يديه في كُمَّيها ويُرْسِل ذيلَها على أسفل بدنه فيستمر سفلًا، فجعل -صلى الله عليه وسلم- مَثَل المنفق مَثَل من لبس درعًا سابغة فاسترسلتْ عليه حتى سترت جميعَ بَدَنه وحصَّنته، وجعل البخيل كرَجُل كانت يداه مغلولتين إلى عنقه ناتئتين دون صدره، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينهما وبين أن تَمُرَّ سُفلًا على البدن، واجتمعت في عنقه فلزمت تَرقوته فكانت ثِقلًا ووبالًا عليه من غير وقايةٍ له أو تحصينٍ لبدَنِه، وحقيقة المعنى: أن الجواد إذا همَّ بالنفقةِ اتَّسَع لذلك صدرُه وطاوعتُه يداه فامتدَّتا بالعطاء والبذل، وأن البخيل يضيق صدرُه وتنقبض يدُه عن الإنفاق في المعروف والصدقة. أعلام الحديث (1/ 769).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وما تقدَّم أول الحديث إنما جاء على التمثيل، لا على الخبر عن كائن، وقيل: ضرَبَ المثل للبخيل والمتصدق بالجُبَّتين؛ لأن المنفِق يستره اللهُ بنفقته، ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر هذه الجبّة لابِسَها، والبخيل بإمساكه عن نفقةَ مالِه فيما يستره ويستر عوراته، كهذا الذي لبس الجُبَّة إلى ثدييه، بقي باديَ العورة مفتضِحًا في الدنيا والآخرة. إكمال المعلم (3/ 547).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذان المثَلان للبخيل والمتصدق واقعان؛ لأن كل واحد منهما إنما يتصرّف بما يجد من نفسه، فمن غلب الإعطاءُ والبذلُ عليه طاعت نفسه، وطابت بالإنفاق، وتوسعت فيه، ومن غلب عليه البخلُ كان كلما خطر بباله إخراج شيء مما بيده شحّت نفسُه بذلك؛ فانقبضت يده للضيق الذي يجده في صدره، ولشُحِّ نفسه الذي مَن وُقِيَه فقد أفلح، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر: 9. المفهم (3/ 66).
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: فيه أن الله تعالى يُنمِّي مالَ المتصدق، ويستره ببركة نفقته بالنماء في ماله، ألا ترى ضربه -صلى الله عليه وسلم- المثل بالجُبَّتين، فإن المنفق يستره الله بنفقته مِن قَرنه إلى قَدَمِه وجميع عَوراته، بالفعل في الدنيا وبالأجر في الآخرة، فماله لا يشتد عليه، وأما البخيل فيظن أن ستره في إمساك مالِه، فمالُه لا يمتد عليه فلا يستر مِن عوراته شيئًا حتى تبدو للناس، فيبقى منكشفًا كمن يلبس جبة تبلغ إلى ثدييه، ولا تُجاوز قلبَه الذي يأمره بالإمساك، فهو يفتضح في الدنيا، ويؤزَر في الآخرة. شرح صحيح البخاري (3/ 441).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في هذا الحديث: الترغيب في الصدقة وفضلها. إكمال المعلم (3/ 547).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضربه مثلًا للبخيل والمتصدق، في أن البخيل كلما قبض يده ضيّق الله عليه، وملأ قلبَه خوفًا مِن الفقر، ويأسًا من الخلَفِ، وأن المتصدق كلما بسط يده بالخير، بسط اللهُ عليه فضلَه. الإفصاح (6/ 325).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا: دليل على لباس القميص، وكذا ترجم عليه البخاري: باب جيب القميص من عند الصدر؛ لأنه المفهوم من لباس النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة، مع أحاديث صحيحة جاءت به، والله أعلم. شرح مسلم (7/ 110).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي هذا الحديث):
منها: ما ترجم له المصنّف (النسائي) -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان صفة البخيل في الصدقة، فقد مثّله في الحديث بالمثل السوء، والمراد منه التنفير عن البخل، وأنه صفة اللؤماء.
ومنها: بيان صفة السخيّ في الصدقة، وأن السخاء من صفات الكرماء المفلحين الذين عناهم اللَّه تعالى بقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر: 9.
ومنها: مشروعيّة ضرب الأمثال لتوضيح المقال، حتى يتّضح للسامع أتمّ الاتضاح، فيحصُرَه، ويستقرّ في ذهنه غاية الاستقرار، فيسحتضره. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 24-25).


ابلاغ عن خطا