«مَن لم يشكُرِ القليل لم يشكُرِ الكثير، ومَن لم يشكُرِ الناس لم يشكُرِ الله، التَّحدُّثُ بِنعمَةِ الله شُكْرٌ، وتركُها كُفْرٌ، والجماعةُ رحمةٌ، والفُرقَةُ عذابٌ».
رواه أحمد برقم: (18449)، والبيهقي في شُعب الإيمان برقم: (8698)، من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (3014)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (667).
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «مَن لم يشكرِ القليل لم يشكُرِ الكثير، ومَن لم يشكُرِ الناسَ لم يَشكُرِ اللهَ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «مَن لم يَشكُرِ القليل» يريد أنَّ العادة أنَّ مَن يبالي بالنعمة، ويشكر عليها، يبالي بقليلها وكثيرها، وكذلك مَن يعظِّم النعمة، فكما يشكر المنعم الحقيقي يشكر السبب الظاهري الذي يجري على يده النعمة، ومن لا فلا يشكر الحقيقي والظاهري جميعًا. حاشيته على مسند أحمد (4/341).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لما كان الشكر يتعين على القليل والكثير على المنعَم عليه، سواء كان الرب المنعِم، أو العبد، أبان -صلى الله عليه وسلم- أن المطلوب شكر القليل والكثير من العبد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من لا يشكر القليل لا يشكر الكثير»؛ لأنه إذا كان في طبعه جحود النعمة جَحَد القليل والكثير، لا أن عدم شكر القليل سبب لعدم شكر الكثير، فإن الواقع على شكر الكثير أبلغ عند الطبع، فربما شَكَرَه من لا يشكر القليل، والمراد أن من لا يشكر القليل لا يوفق لشكر الكثير، أو المراد أن من لا يشكر القليل لا يعطى الكثير، فعبَّر بنفي المسبَّب عن نفي السبب؛ لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} إبراهيم: 7، ويحتمل أن شكره للكثير لا يعتدُّ به، ولا يُقبل إذا لم يَشكر القليل. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 118).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير» فاشكر لمن أعطى ولو سمسمة، «ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله» أي: من كان طبعه وعادته كُفران نعمة الناس، وترك الشكر لمعروفهم، كان عادته كُفران نعم الله، وترك الشكر له، أو المراد: أن الله لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، وينكر معروفهم؛ لاتصال أحد الأمرين بالآخر. فيض القدير (3/ 280).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
لأن من لم يشكر القليل لا يشكر الجزيل، أو لأن إحسانهم أيضًا من جملة إنعامه سبحانه؛ حيث أجراه على أيديهم، وقد ورد: «مَن أحسن إليه أحدٌ معروفًا فقال لقائله: جزاك الله خيرًا، فقد بالغ في الثناء»، والمعنى: أنه قد خرج منه بهذا الشكر، وهذا أقل ما يقع مقابله في أمره. شرح مسند أبي حنيفة (1/ 296).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله» أي: من طبعه وعادته كفران نعمة الناس، كان طبعه عدم شُكر نعمة الله، أو أن الله لا يقبل شكره له إذا لم يشكر الناس. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 118).
وقال أبو سعيد الخادمي -رحمه الله-:
«ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله» -تعالى عز وجل- يعني: أن الشكر لمن وصل الغنى مِن يده بالمكافآت أو الدعاء له بالخير والصلاح سرًّا وعلانية واجبٌ كشكر الله -تعالى عز وجل- المأمور به؛ بناءً على كونه سببًا بحسب الظاهر لوصول نعمة الله تعالى، وإن كان المنعِم حقيقةً هو الله تعالى، قيل في وجهه: لأن مَن لم يشكر الناس مع ما يرى من حرصهم على حب الثناء على الإحسان؛ فأولى بأن يتهاون في شكر من يستوي عنده الشكران والكفران، وإنما أذن للناس في الشكر مع أن النعم كلها في الحقيقة مقصورة له تعالى؛ لما فيه من تأثير الألفة والمحبة. بريقة محمودية (3/ 82).
وقال السفيري -رحمه الله-:
الشارع -صلى الله عليه وسلم- إنما حث على شكرك إياه لا لكون النعمة صدرت منه، بل لكونها جرت على يده، فإذا شكرتَه عليها حمله ذلك الشكرُ على أن يزيد من فعل الخير، والمنعِم بالحقيقة هو الله، فإذا شكرتَ عبدًا لكونه أحسن إليك في الدنيا فإن شكره لكون الشارع -صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك، لا لاعتقاد أنه فاعل ذلك، فإنْ شكرته معتقدًا أن النعمة صدرت منه كنتَ مشركًا لا شاكرًا، فإن العبد لا ينفع ولا يضر، وربما تغير عليك، وانقلب حبُّه غضبًا بأيسر الأسباب، والمحسِن على الدوام الذي لا يتغير ولا يحول ولا يزول: ربُّ الأرباب. المجالس الوعظية (2/ 32).
قوله: «التَّحدُّثُ بنعمةِ الله شكر، وتركُها كفرٌ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «بنعمة الله» من حيث أنَّه أنعم بها عليه، لا افتخارًا بها. حاشيته على مسند أحمد (4/341).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«التحدث بنعمة الله سبحانه شكر» أي: الإخبار بها من أجزاء شكرها، فإنه ثلاث: التحدث باللسان، والخدمة بالأركان، والاعتراف بالجنان...، «وتركها» ترك النعمة: أي: ذكرها «كفر» أي: ستر وتغطية لما حقه الإظهار، قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الضحى:11. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 117-118).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«التحدث بنعمة الله شكر» أي: إشاعتها من الشكر، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الضحى: 11، «وتركها كفر» أي: ستر وتغطية لما حقه الإعلان، ومحله ما لم يترتب على التحدث بها محذور، وإلا فالكتم أولى. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 460).
وقال المناوي -رحمه الله-:
هذا الخبر موضعه ما لم يترتب على التّحدث بها ضرر كحسدٍ وإلا فالكتمان أولى، كما يُفيده قول الزمخشري: وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد أنْ يُقتدى به، وأمن على نفسه الفِتنة وإلا فالستر أفضل، ولو لم يكن فيه إلا التّشبه بأهل السُّمعة والرِّياء لكفى.فيض القدير(3/٢٧٩)
وقال ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-:
الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، أما بالقلب: فهو إظهار الشكر لله بالتحميد، وأما بالجوارح: فهو استعمال نعم الله في طاعته، والتوقي من الاستعانة بها على معصيته، فمِن شكر العينين أن تستر كل عيبٍ تراه لمسلم، ومِن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه، فهذا يدخل في جملة شكر هذه الأعضاء، والشكر باللسان: إظهار الرضا عن الله تعالى، وهو مأمور به، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «التحدث بالنعم شكر، وتركها كفر». مختصر منهاج القاصدين (ص: 277).
قوله: «والجماعةُ رحمةٌ، والفُرقَةُ عذابٌ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«الجماعة رحمة» أي: لزوم جماعة المؤمنين موصل إلى الرحمة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} آل عمران: 103 «والفرقة عذاب» لأنه تعالى جمع المؤمنين على معرفة واحدة وشريعة واحدة؛ ليألف بعضهم بعضًا بالله وفي الله، فيكونون كرجل واحد على عدوهم، فمن انفرد عن حزب الرحمن انفرد به الشيطان وأوقعه فيما يؤديه إلى عذاب النيران.
قال العامري في (شرح الشهاب): لفظ الجماعة ينصرف لجماعة المسلمين؛ لما اجتمع فيهم من جميل خصال الإسلام ومكارم الأخلاق، وترقي السابقين منهم إلى درجة الإحسان وإن قلَّ عدَدُهم، حتى لو اجتمع التقوى والإحسان اللذان معهما الرحمة في واحد كان هو الجماعة، فالرحمة في متابعته والعذاب في مخالفته. فيض القدير (3/ 357).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«والجماعة» أي: اجتماع المسلمين فيما شرع فيه الاجتماع على صلاة أو جهاد وحج ودعاء وعلى طعام وغيره... «والفرقة» أي: تفرقهم عما دُعوا إلى الاجتماع إليه. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 118).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «والجماعة» أي: الاتفاق على الأمر، حتى يكونوا كلهم جماعة واحدة، وظاهر هذا خلاف ما اشتهر في ألسنة الناس: اختلاف أُمّتي رحمة، مع أنَّه حديث لم يعرف من خرجه بذلك اللفظ، وقد ذكر السخاوي شيئًا مما يتعلق به في المقاصد الحسنة، والله تعالى أعلم . حاشيته على مسند أحمد (4/341).
وقال محمد بن عمر نووي -رحمه الله-:
«والجماعة رحمة» أي: لزوم جماعة المسلمين موصل إلى الرحمة أو سبب للرحمة، «والفرْقَةُ عَذَابٌ» أي: مفارقتهم والانفراد عنهم سبب للعذاب. تنقيح القول الحثيث (ص: 51).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«والفُرقة عذاب» أي: فراق الجماعة سبب للعذاب؛ لأن من فارق الجماعة لم يفارقهم إلا لخبث في باطنه فلا يقع إلا فيما لا يرضاه الله تعالى، ويحتمل أن يراد بالجماعة المسلمون، وبالفرقة الردة ومخالفته في الإسلام. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 291).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ونتيجة الجماعة: رحمة الله، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة: عذاب الله، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم، وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة الله ورحمته بفعلٍ لم يأمر الله به مِن اعتقاد، أو قول، أو عمل. مجموع الفتاوى (1/ 17).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
الكبيرة السابعة والثلاثون بعد المائة: كفران نعمة الخلق المستلزم لكفران نعمة الحق...
تنبيه: عَدُّ هذا كبيرة هو ظاهر ما في الحديث الثاني من أن ذلك كفر، أي: يجر إلى كفر نعم الله تعالى، لكن لم أر أحدًا تعرض لذلك، وكأن عذرهم أنهم فهموا أن المراد أنه كفر لنعمة المحسن، ومجرد هذا لا يقتضي أنه كبيرة. الزواجر (1/ 315).