«مَن آمنَ باللَّهِ وبرسولِهِ، وأقام الصَّلاةَ، وصام رمضانَ كان حقًّا على اللَّه أنْ يُدْخِلَهُ الجنة، جاهدَ في سبيلِ اللَّهِ أو جَلَسَ في أرضِهِ التي وُلِدَ فيها»، فقالوا: يا رسول اللَّهِ، أفلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «إنَّ في الجنة مائةَ درجةٍ، أعدَّهَا الله للمجاهدين في سبيلِ اللَّهِ، ما بين الدَّرجتينِ كما بين السماءِ والأرضِ، فإذا سألتم اللَّهَ فاسألوه الفِرْدَوسَ؛ فإنَّه أوْسَطُ الجنة وأعلى الجنة -أُرَاهُ- فَوْقَهُ عرشُ الرَّحمنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ».
رواه البخاري برقم: (2790)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ورواه أحمد برقم (22087) والترمذي برقم: (2530) واللفظ له: «من صام رمضان وصلى الصلوات، وحج البيت -لا أدري أذكر الزكاة أم لا؟- إلا كان حقًّا على الله أن يغفر له...»، من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الفِرْدَوسَ»:
هو البستان الذي فيه الكَرْمُ والأشجار، والجمع: فراديس، ومنه جنة الفردوس. النهاية، لابن الأثير (3/ 427).
قال الزجاج -رحمه الله-:
اختلف الناس في تفسير الفردوس، فقال قوم: الفردوسُ الأوديةُ التي تنبت ضروبًا من النبت، وقالوا: الفردوس البستان، وقالوا: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، والفِرْدَوسُ أيضًا بالسريانية، كذا لفظة فردوس، ولم نجد في أشعار العرب إلا في بيت لحسان بن ثابت.
وإنَ ثوابَ اللهِ كُل موحِّدٍ *** جِنانٌ من الفرْدَوْسِ فيها يُخلَّدُ
وحقيقته: أنه البُستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين؛ لأنه عند أهل كل لغة كذلك. معاني القرآن وإعرابه (3/ 314-315).
«تَفَجَّرُ»:
بفتح الفوقية والجيم المشددة، بحذف أحد المثلين: أي: تتفجَّر. إرشاد الساري، للقسطلاني (10/ 394) ومرقاة المفاتيح للقاري (6/ 2454).
شرح الحديث
قوله: «من آمن بالله وبرسوله»:
قال ابن أبي يعلى -رحمه الله-:
الإيمان بالله -عز وجل-، ومعناه: التصديق بما قال به، وأمر به، وافترضه، ونهى عنه، من كل ما جاءت به الرسل من عنده، ونزلت فيه الكتب، وبذلك أَرْسَل المرسلين. الاعتقاد (ص:23).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
والمؤمن هو الذي ينقاد لأحكام الشرع، وينزجر عن محرماته، ويستثمر الأحكام منه. العدة (2/ 971، 972).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولا اختلاف أن الإيمان برسول الله المراد به الإيمان بوجوده، وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك، والله أعلم. فتح الباري (1/ 119).
قوله: «وأقام الصلاة»:
قال الحكيم الترمذي -رحمه الله-:
الصلاة عماد الدين، وأول شيء فرضه الله تعالى يوم أوحى إليه، والصلاة إقبال الله تعالى على العبيد؛ ليقبلوا إليه في صورة العبيد. نوادر الأصول (3/ 135، 136).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وإقامة الصلاة: القيام بفعلها على سنتها، والمثابرة عليها. المفهم (7/ 87).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وإقامة الصلاة: تعديل أركانها، مِن أقامَ العُوْدَ: إذا قوَّمه وسوَّاه، أو إدامتها والمحافظة عليها، مِن قامت السوق: إذا نَفَقَتْ واستديمت. تحفة الأبرار (1/ 32).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وإقامة الصلاة: عبارة عن أدائها في أوقاتها، والمداومة بها. المفاتيح (1/ 46).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
معنى إقامة الصلاة: إما تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، مِن أقام العود: إذا قوَّمه، وإما الدوام عليها، مِن قامت السوق: إذا نَفَقَتْ، وإما التجلُّد والتشمُّر في أدائها، مِن قام الحرب على ساقها، وإما أداؤها تعبيرًا عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام بعض أركانها. الكواكب الدراري (1/ 122).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وإقامة الصلاة: الإتيَانُ بها على أحوالها. المعين على تفهم الأربعين (ص:351).
قوله: «وأقام الصلاة، وصام رمضانَ»:
قال ابن الملك-رحمه الله-:
خصَّهما بالذِّكر مِن بين العبادات البدنية تنبيهًا على عظم شأنهما، وتحريضًا عليهما؛ لصعوبة موقعهما على الطباع، ومَن راعاهما على كونهما أشق لا يترك غيرهما غالبًا.شرح مصابيح السنة(4/٣٠٣)
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ولا يخفى أن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال كلها؛ لأنه متقدم عليها، وشرط في صحتها؛ ولأنه من الصفات المتعلقة، وشرفها بحسب متعلقاتها، ومتعلق الإيمان هو الله تعالى، وكتبه، ورسله، ولا أشرف من ذلك؛ فلا أشرف في الأعمال من الإيمان، ولا أفضل منه. المفهم (1/ 275).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وهذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج، فلذلك لم يُذكرا فيه، والله أعلم. شرح صحيح البخاري (5/ 13).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: بل سقط ذكره على أحد الرواة، فقد ثبت الحج في الترمذي في حديث معاذ بن جبل وقال فيه: «لا أدري أذكر الزكاة أم لا؟»، وأيضًا فإن الحديث لم يُذكر لبيان الأركان، فكان الاقتصار على ما ذكر إن كان محفوظًا لأنه هو المتكرر غالبًا، وأما الزكاة فلا تجب إلا على من له مال بشرطه، والحج فلا يجب إلا مرة على التراخي. فتح الباري(6/ 12).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
لم يذكر الحج والزكاة إما لأن الصوم والصلاة يعُمَّان كل مكلَّف، بخلاف الحج والزكاة، أو غَفَل الراوي عنهما.
وما يقال: أو لأنهما لم يكونا حينئذٍ واجبَين فليس بشيء؛ لأن راوي الحديث أبو هريرة قد أسلم سنة سبع، وكانت الزكاة واجبة، بلا خلاف. الكوثر الجاري (5/ 392).
قوله: «كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
بمعنى: أنه يستحيل عليه إخلاف ما وعَد عبده على عمله. شرح صحيح البخاري (10/ 451).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فمعنى قوله: «كان حقًّا على الله..» ليس على معنى أن ذلك واجب عليه؛ لأن واجبًا يقتضي موجبًا له، والله تعالى ليس فوقه آمر ولا ناهٍ يوجب عليه ما يلزمه المطالبة به، وإنما معناه: إنجاز ما وعده من فعل ما ذكره في الحديث؛ لأن وعده تعالى عبده على فعل تقدَّم إعلامه به قبل فعله، ووعده خبر، ولا يصح منه تعالى إخلاف عبده ما وعده؛ لقيام الدليل على أن الصدق من صفات ذاته، فعبر -عليه السلام- في هذا المعنى بقوله: «كان حقًّا على الله» بمعنى: أنه يستحيل عليه إخلاف ما وعد عبده على عمله. التوضيح (33/ 298).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«كان حقًّا على الله» أي: ثابتًا عليه بوعده الصدق.
«أن يدخله الجنة» بمزيد رفع الدرجات، أو بالتجاوز عن السيئات. شرح المصابيح (4/ 303).
وقال العيني -رحمه الله-:
معناه: حق بطريق الفضل والكرم، لا بطريق الوجوب. عمدة القاري (14/ 90).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كان حقًّا»: أي: ثابتًا بوعده الصادق «على الله أن يدخله الجنة» أي: دخولًا أوليًّا، وإلا فمجرد الإيمان كافٍ لمطلق الدخول، وقيل: المراد رفع الدرجات، من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم؛ لأن رفعها يستلزم الدخول، فلا يَرِدُ أن الدخول بالفضل والرفع بالأعمال. مرقاة المفاتيح (6/ 2454).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
والحاصل: أن هذا الوعد إنما هو بعد لحاظ جميع ما ورد في الشرع من الأوامر والنواهي، ثم الاتكال فيما وراء ذلك. فيض الباري (1/ 318).
قوله: «جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«جاهَدَ في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها» وفي نسخة: «في بيته الذي ولد فيه». إرشاد الساري (5/ 37).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«جاهد في سبيل الله» وروي: «هاجر» «أو جلس في أرضه التي ولد فيها» أي: ولم يجاهد ولم يهاجر، والتسوية تدل على أن الجهاد فرض كفاية. مرقاة المفاتيح (6/ 2454).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: ليس الجهاد فرض عين كالإيمان بالله ورسوله، وإقام الصلاة، وصوم رمضان، والزكاة، فإنهن فروض عين، من تركهن عُذِّب يوم القيامة، والجهاد فرض على الكفاية، فإذا قام به جماعة سقط عن الباقين. المفاتيح (4/ 335).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه..» وإنما سوى -صلى الله عليه وسلم- بين الجهاد في سبيله تعالى، وبين عدمه في دخول الجنة؛ لأنه فرض كفاية.
وروي: «هاجَرَ» مكان «جاهَد» وهذا يدل على أن الحديث صدر بعد فتح مكة؛ لأن الهجرة قبله كانت فريضة لكل مؤمن؛ ليجتمعوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وينصروا دينه. شرح المصابيح (4/ 303، 304).
قوله: «فقالوا: يا رسول الله»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فقالوا: يا رسول الله..» الذي خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل، كما في رواية الترمذي، أو أبو الدرداء كما وقع عند الطبراني، وأصله في النسائي، لكن قال فيه: «فقلنا». فتح الباري (6/ 12).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قالوا: «يا رسول الله..» قائل ذلك معاذ بن جبل كما في الترمذي. التوشيح (5/ 1903).
قوله: «أفلا نبشِّر الناس؟»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
البشارة كل خبرِ صدقٍ يتغير به بَشْرَة الوجه، واستعمالها في الخير أكثر. شرح المشكاة (9/ 2998).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
والبشارة هي إيصال خبر إلى أحد يظهر أثر السرور منه على بشرته. الكواكب الدراري (2/ 155).
وقال ابن عطية -رحمه الله-:
وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب؛ وذلك أن البشارة تقيَّد بالخير والشر، فإذا أُطلقت لم تُحمل إلا على الخير فقط، وقيل: بل هي أبدًا للخير، فمتى قُيِّدت بشرٍّ فإنما المعنى: أقم لهم مقام البشارة عذابًا أليمًا. المحرر الوجيز (3/ 28).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأصل البشارة في الخير. فتح الباري (8/ 720).
وقال العيني -رحمه الله-:
والبشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير. نخب الأفكار (4/ 252).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وعند الترمذي من رواية معاذ قلت يا رسول الله: ألا أخبر الناس قال «ذَرِ الناس يعملون..»
فظهر أن المراد: لا تبشِّر الناس بما ذكرتُه من دخول الجنة لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه؛ فيقفوا عند ذلك ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه، من الدرجات التي تحصل بالجهاد، وهذه هي النُّكتة في قوله: «أعدها الله للمجاهدين». فتح الباري (6/ 12).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس؟
كان ظاهر الجواب أن يقول: بشروا أو لا تبشروا، إنما عدل عنه ترغيبًا في الجهاد؛ ليأنف القاعدون، كما في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} النساء: 95، إذ ليس المراد الإخبار بعدم المساواة؛ فإنه معلوم، بل المراد ما أشرنا إليه من أن يأنف القاعدون عن التقاعد. الكوثر الجاري (5/ 392، 393).
قوله: «قال: إن في الجنة مائة درجة»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
والدرجة: المنزلة الرفيعة، ويراد بها غُرَف الجنة ومَرَاتبها، التي أعلاها الفردوس. المفهم (3/ 710).
وقال المظهري -رحمه الله-:
العلم بتخصيص هذا العدد وغيره من المبهَمَات للنبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنه يمكن أن يقال: يريد بالمائة: الكَثْرَة، ولا يريد به نفس المائة، بل إنما ذكر المائة؛ لتفهيمنا أن درجات الجنة متناهية؛ لأنها مخلوقة حادثة، لكنها باقية لا تنقطع. المفاتيح (6/ 8).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قال: «إن في الجنة مائة درجة» المراد بالمائة هنا الكثرة، وبالدرجة: (المرقاة). شرح المصابيح (4/ 304).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأما قوله: «مائة درجة» فليس في سياقه التصريح بأن العدد المذكور هو جميع درج الجنة من غير زيادة؛ إذ ليس فيه ما ينفيها، ويؤيد ذلك: أن في حديث أبي سعيد المرفوع الذي أخرجه أبو داود وصححه الترمذي وابن حبان: «ويقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرأها» وعدد آي القرآن أكثر من ستة آلاف ومائتين، والخُلْفُ فيما زاد على ذلك من الكسور. فتح الباري (13/ 413).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مائة درجة» يمكن أن يراد به الكثرة؛ لما ورد من رواية البيهقي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- مرفوعًا: «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فمن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة»، ويمكن أن يقال: في الجنة مائة درجة لكل واحد من أهلها، فيكون بيان أقل ما يكون فيها من أنواع السعة وأصناف النعمة. مرقاة المفاتيح (9/ 3579).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«مائة درجة» أي: درجات كثيرة جدًّا، ومنازل عالية شامخة، فالمراد بالمائة التكثير لا التحديد، فلا تدافع بينه وبين خبر: «إن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة» وقيل: الحصر في المائة للدرج الكبار المتضمنة للصغار، والدرجة: المرقاة. فيض القدير (2/ 465).
قوله: «أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
الجهاد: بكسر أوله، وهو لغة: المشقة، وشرعًا: بذل المجهود في قتال الكفار مباشرة، أو معاونة بالمال، أو بالرأي، أو بتكثير السواد، أو غير ذلك. مرقاة المفاتيح (6/ 2452).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وإنما المجاهد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. شرح صحيح البخاري (5/ 282).
وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله-:
فمعنى الجهاد في سبيل الله: هو المبالغة باتفاق في إتعاب الأنفس في ذات الله تعالى، وإعلاء كلمته، التي جعلها الله طريقًا إلى جنته، وسبيلًا إليها. المسالك (5/ 5).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله» وهم الغزاة والحجاج، أو الذين جاهدوا أنفسهم لمرضاة ربهم. شرح المصابيح (4/ 304).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
الجهاد فضيلة لمن سبق إليه وقام به، لا فريضة على الجميع. التمهيد (15/ 163).
قوله: «ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ما بين الدرجتين» أي: منتهى الدرجة ومبتدأها من جهة العلو ومن جهة التحتية. التنوير (7/ 60).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
يحتمل أنه على ظاهره، وأن الدرجة هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وكذلك منازل الجنة، كما جاء في أهل الغرف: «يتراءون كالكوكب الدري»، ويحتمل أن يريد فيها الرفعة بالمعنى، من كثرة النعم وعظيم الإحسان، مما لم يخطر على قلب بشر، ولا يصفه واصف، وأن أنواع ما أنعم به عليه وبوَّأَه من البِر والكرامة يتفاضل تفاضلًا كثيرًا، ويُنْسِي بعضه بعضًا، ومثل تفاضله في البعد بما بين السماء والأرض، والأول أظهر. إكمال المعلم (6/ 304).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وتفاوت الدرجات إن رُجع إلى الصورة يريد أن أحدها أرفع من الآخر، كطبقات السماء، وإن رُجع إلى المعنى فيكون التفاوت في القربة إلى الله تعالى، وإيراد الإنعام منه عليه ورودًا متفاوتًا، فالزائد هو الرفيع، وما دونه هو المنحط عنه. المفاتيح (6/ 8).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» وهذا التفاوت يجوز أن يكون صوريًّا، وأن يكون معنويًّا، فيكون المراد من الدرجة: المرتبة، فالأقرب إلى الله تعالى يكون أرفع مما دونه. شرح المصابيح (6/ 97).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
اختلف الخبر الوارد في قدر مسافة ما بين السماء والأرض، وذكر هناك ما ورد في الترمذي: أنها «مائة عام» وفي الطبراني «خمسمائة» ويزاد هنا ما أخرجه ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، عن ابن مسعود قال: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام» وفي رواية: «وغِلَظُ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم» وأخرجه البيهقي من حديث أبي ذر مرفوعًا نحوه دون قوله: «وبين السابعة والكرسي...» إلخ، وزاد فيه: «وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك»، وفي حديث العباس بن عبد المطلب عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم مرفوعًا: «هل تدرون بُعْد ما بين السماء والأرض؟» قلنا: لا، قال: «إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون، قال: وما فوقها مثل ذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السماء السابعة البحر، أسفله من أعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوقه ثمانية أوعال (التيوس الجبلية) ما بين أظلافهن ورُكَبِهِن مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم العرش فوق ذلك، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك»، والجمع بين اختلاف هذا العدد في هاتين الروايتين أن تُحمل الخمسمائة على السير البطيء، كسير الماشي على هَيْنَتِه، وتُحمل السبعين على السير السريع، كسير السعاة، ولولا التحديد بالزيادة على السبعين لحملنا السبعين على المبالغة، فلا تنافي الخمسمائة. فتح الباري (13/ 413، 414).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ودخول الجنة وإن كان إنما هو بالفضل، لكن رفع الدرجات بالأعمال. التيسير (2/ 18).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فلما قيل لرسول الله: «أفلا نبشر الناس» أخبر -صلى الله عليه وسلم- بدرجات المجاهدين في سبيله وفضيلتهم في الجنة؛ ليرغِّب أُمَّته في مجاهدة المشركين، وإعلاء كلمة الإسلام. شرح صحيح البخاري (5/ 13).
قوله: «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإذا سألتم الله» أي: إذا سألتم على الجهاد من الله تعالى درجة من درجات الجنة المُعَدَّة للمجاهدين. شرح المصابيح (4/ 304).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فإذا سألتم الله» أي: الجنة على الجهاد، أو مطلقًا. لمعات التنقيح (6/ 532).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فاسألوه الفردوس» فإنه أكرم المسؤولين، فيُسْأَل خير ما خلقه. التنوير (6/ 170).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى» خطاب لجميع أمَّتِه، يدخل فيه المجاهدون وغيرهم، فدل ذلك أنه قد يعطي الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة فوقه، وقد أمر -صلى الله عليه وسلم- جميع أمَّته بطلب الفردوس من الله؛ دلَّ أن مَن بوَّأَه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد في العلو، وإن اختلفت الدرجات في الكثرة، والله يؤتي فضله من يشاء. شرح صحيح البخاري (5/ 13).
قوله: «فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «وسط الجنة» فيحتمل أن يريد متوسطها، والجنة قد حُفَّت بها من كل جهة، وقوله: «أعلى الجنة» يريد أرفعها؛ لأن الله تعالى مدح الجنات إذا كانت في علو، فقال: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} البقرة: 265. شرح صحيح البخاري (5/ 12).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة» أي: خير طبقات الجنة وأعلاها، مأخوذ من: الوسط، الذي هو أبعد من الخلل والآفات من الأطراف. تحفة الأبرار (2/ 577، 578).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإنه أوسط الجنة» أي: أفضلها وأشرفها.
«وأعلى الجنة» وضع المظهر موضع المضمر؛ أي: أعلاها. شرح المصابيح (4/ 304).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«فإنه أوسط الجنة» أي: أفضلُها؛ كقوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} البقرة: 143؛ أي: خِيارًا. مصابيح الجامع (6/ 209).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أوسط الجنة وأعلى» لا تنافي بينهما، فإن المراد بالأوسط الأفضل، كما قال تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} البقرة: 143، أي: خيارًا، أو أنه أراد بأحدهما الحِسي وبالآخر المعنوي، وقيل: لما ساوى بين الجهاد وعدمه في دخول الجنة، ورأى استبشار السامع بذلك؛ لسقوط مشاق الجهاد عنه، استدرك بقوله: إن في الجنة مائة درجة كذا وكذا، وأما الجواب به فهو من أسلوب الحكيم، أي: بشَّرَهم بدخولهم الجنة بالإيمان، ولم يكتف بذلك، بل زاد عليها بشارة أخرى، وهي الفوز بدرجات الشهداء، بل وبشَّرهم أيضًا بالفردوس.
وفيه الحث على ما يحصل به أقصى درجات الجنان من المجاهدة مع النفس قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} الحج: 78. اللامع الصبيح (8/ 387).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة» أي: خير بقاع الجنة، وأعلى مكانًا، وإنما جمع بين الوصفين؛ إذ ربما يكون المكان عاليًا، والذي أسفل منه خير منه. الكوثر الجاري (5/ 393).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«أوسط الجنة» أي: أعدلها وأفضلها وأوسعها وخيرها. التوشيح (5/ 1904).
قوله: «أُراه فوقه عرش الرحمن»:
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«أُراه» بضم الهمزة، أي: أظنه «فوقه» أي: فوق الفردوس، قيل: ومقتضى الظاهر فوقها أي: فوق الجنة كلها. منحة الباري (5/ 609).
قال العيني -رحمه الله-:
«أراه» بضم الهمزة أي: أظنه، وهذا من كلام يحيى بن صالح شيخ البخاري فيه، وقد رواه غيره: عن فليح بغير شك، منهم: يونس بن محمد عند الإسماعيلي وغيره. عمدة القاري (14/ 91).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«وفوقه عرش الرحمن» بضم القاف ضبطه الأصيلي، وبالنصب لغيره وهو المعروف، ولا أعرف للضم وجهًا. مشارق الأنوار (2/ 165).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «وفَوقُهُ عرشُ الرَّحمن» بضم القاف على معنى: أعلاه عرش الرحمن، كذا ضبطه الأصيلي، وعند غيره بالنصب على الظرف، قال القاضي (عياض): «فَوْقُهُ» ضبطه الأصيلي، قال القاضي: ولا أعرف له معنًى.
قلتُ: وعندي أنَّ الذي قاله عنه وهمٌ، إنما ضبطه كما قلناه، وكذا رأيتُ بخط القاضي في أصله عن الأصيلي. مطالع الأنوار(5/ 275).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
وجهه أن «فوق» من الظروف الملازمة للظرفية، فلا تستعمل غيرَ منصوبة أصلًا. مصابيح الجامع (6/ 209).
وقال الدماميني -رحمه الله- أيضًا:
ولإنكار الضمِّ وجهٌ ظاهر، وهو أن «فوق» من الظروف العادمة للتصرُّف؛ وذلك مما يأبى رفعَه بالابتداء. مصابيح الجامع (10/ 203).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله فيه: «وفوقه عرش الرحمن» كذا للأكثر بنصب «فوقَ» على الظرفية، ويؤيده الأحاديث التي قبل هذا، وحكى في المشارق أن الأصيلي ضبطه بالرفع، بمعنى أعلاه، وأنكر ذلك في المطالع، وقال: إنما قيده الأصيلي بالنصب كغيره.
والضمير في قوله: «فوقه» للفردوس، وقال ابن التين: بل هو راجع إلى الجنة كلها، وتُعقب بما في آخر الحديث هنا «ومنه تفجر أنهار الجنة»؛ فإن الضمير للفردوس جزمًا، ولا يستقيم أن يكون للجنان كلها، وإن كان وقع في رواية الكشميهني: «ومنها تفجر» لأنها خطأ، فقد أخرج الإسماعيلي عن الحسن وسفيان عن إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري فيه بلفظ: «ومنه» بالضمير المذكر. فتح الباري (13/ 414).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وهذا يدل على أنه (أي العرش) فوق جميع الجِنان. شرح المصابيح (4/ 304).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «وفوقه عرش الرحمن» وهو سقف الجنة، وحينئذٍ لا بأس بكون عرش الرحمن سقفًا لجميع درجات الجنة، مع كون بعضها أوسط، وبعضها أعلى. فيض الباري (4/ 154).
قوله: «ومنه تفجَّر أنهار الجنة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ومنه تفجر أنهار الجنة» أي: من الفردوس، ووهم من زعم أن الضمير للعرش. فتح الباري (6/ 13).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ومنه» أي: من الفردوس «تفجَّر» أي: تتفجَّر «أنهار الجنة» وهي أربعة، مذكورة في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} محمد: 15، المراد منها أصول أنهار الجنة. شرح المصابيح (4/ 304، 305).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وأصل «تُفَجَّر» تتفجر، فحُذفت إحدى التَّائين تخفيفًا، وقيل: الفردوس مُسْتَنْزَه أهل الجنة. إرشاد الساري (5/ 38).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «تُفَجَّر» أصله: تتفجر بتاءين فحذفت إحداهما، أي: تتشقق. عمدة القاري (14/ 91).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «ومنه تفجر أنهار الجنة» وهي نهر الماء، ونهر اللبن، ونهر العسل، ونهر الخمر. فيض الباري (4/ 156).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقوله: «منها تفجر أنهار الجنة» يريد أنها عالية من الارتفاع. شرح صحيح البخاري (5/ 12).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
فيه تأنيس لمن حُرم الجهاد في سبيل الله؛ فإن له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة؛ لأنها هي غاية الطالبين، ومن أجله تبذل النفوس في الجهاد. شرح صحيح البخاري (5/ 13).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: إشارة إلى أن درجة المجاهد قد ينالها غير المجاهد؛ إما بالنية الخالصة، أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر الجميع بالدعاء بالفردوس، بعد أن أعلمهم أنه أعد للمجاهدين.
وقيل: فيه جواز الدعاء بما لا يحصل للداعي؛ لما ذكرته، والأول أولى، والله أعلم. فتح الباري (6/ 13).