«لَيأتِيَنَّ على الناسِ زمانٌ لا يُبَالِي المرءُ بما أخذَ المالَ، أَمِن حلالٍ أم من حرامٍ؟».
رواه البخاري برقم: (2083)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لا يُبَالِي»:
أي: لا يكترث، يقال: ما أُبَالِيهِ، ويقال: لم أُبل، بحذف ألف. شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (13/ 571).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
ويقال: بالى بالشيء: إذا اهتم به. تهذيب اللغة (15/ 281).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لا يُبَالِي المرء» أي: لا يخطر بباله. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 202).
شرح الحديث
قوله: «ليَأتيَنَّ على الناس زمان»:
قال العزيزي -رحمه الله-:
«ليأتين» اللام جواب قسم محذوف. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/ 156).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
يعني: يضعف فيه الإيمان، ويقلُّ فيه الورع في زمان فيه الجهل، وفيه رقة الدِّين، وهذا في زماننا، وقَبْله بأزمان. الحلل الإبريزية (2/ 187).
قوله: «لا يُبَالِي المرء بما أخذ المال»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
«بما أخذ» إثبات ألف «ما» الاستفهامية من غير الغالب، وهو الحذف. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/ 23).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«لا يبالي المرء بما أخذ المال» أي: بأي شيء أخذه، وأثبت ألف ما الاستفهامية الداخل عليها حرف الجر وهو قليل. منحة الباري (4/ 510).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
يعني: لا يبالي بما أخذه من المال، وبما يحصل له من المال أحلال هو أم حرام؟ لا تفاوت بينهما، ذكره ميرك. مرقاة المفاتيح (5/ 1891).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
يعني: الأخذ من الحلال ومن الحرام مستوٍ عنده، لا يبالي بأيهما أخذ، ولا يلتفت إلى الفرق بين الحلال والحرام، كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِم أَأَنْذَرْتَهُم أَمْ لَم تُنْذِرهًم} البقرة: 6، أي: سواء عليهم إنذارك وعدمه. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2097-2098).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: لا يبالي بما أخذ من المالِ أحلالٌ هو أم حرامٌ؟ بل ليس له التفاتٌ إلى الفرق بين الحلال والحرام. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 386).
قوله: «أَمِن حلال أم مِن حرام؟».
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«أمن حلال أم حرام؟» وفي الباب السابق بالتعريف فيهما؛ ولأبي ذر: «أمن الحلال؟» بالتعريف فيه فقط. إرشاد الساري (4/ 26).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وأخبر بهذا تحرزًا من فتنة المال، «أمن حلال» يأخذ «أم من حرام؟».
وجه الذم: من جهة هذه التسوية بين الأمرين؛ وإلا فأخذ المال من الحلال غير مذموم من حيث هو.
وهذا من معجزاته؛ فإنه إخبار عن أمر غيبي وقد وقع على وفق ما أخبر. فيض القدير (5/ 346).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أمن حلال أم من حرام؟» وذلك لقلة الأديان وحب الدنيا وإيثارها، ووجه الذم: أنه يتساوى عنده الأمران، وإلا فلا ملام على من أخذ المال من حلال.
وهذا من معجزاته؛ فإنه إخبار عن غيب وقد وقع. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 202).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أَمِنَ الحَلال؟» هذا وإنْ لم يكن مذْمومًا، لكنَّه ذُكر لقصْدِ: لا يُفرِّق بين الحلال والحرام. اللامع الصبيح (6/ 536).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«أمن الحلال أم من الحرام؟» كناية عن عدم التقوى، كما ترى عليه أكثر الناس في أيامنا. الكوثر الجاري (4/ 365).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
هذا يكون لضعف الدِّين، وعموم الفتن، وقد أخبر -عليه السلام-: «أنَّ الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا»، وأنذر كثرة الفساد، وظهور المنكر، وتغيُّر الأحوال؛ وذلك من علامات نبوته -عليه السلام-، وقد رُوي عنه -عليه السلام- أنه قال: «من بات كالًّا من عمل الحلال، بات والله عنه راضٍ، وأصبح مغفورًا له»، و«طلب الحلال فريضة على كل مؤمن» وهو مثل مقارعة الأبطال في سبيل الله. شرح صحيح البخاري (6/ 201).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقال ابن التين: أخبر بهذا تحذيرًا؛ لأن فتنة المال شديدة، وقد دُعي أبو هريرة إلى طعام، فلما أكل لم ير نكاحًا ولا ختانًا، ولا مولودًا، قال: ما هذا؟ قيل: خفضوا جارية، فقال: هذا طعام ما كنا نعرفه، ثم قاءه، قال: يقال: «أول ما ينتن من الإنسان بطنه»، وروى أبان بن أبي عياش عن أنس قال: قلتُ: يا رسول الله، اجعلني مستجاب الدعوة، قال: «يا أنس، أطب كسبك تستجاب دعوتُك، فإن الرجل ليرفع إلى فيه اللقمة من حرام فلا تستجاب له دعوته أربعين يومًا». عمدة القاري (11/ 174).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: تحذير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زمان لا يبالي المكتسِب فيه مما اكتسب، وممن أن يجد زمانًا، وأيما يعرف ذلك الزمان بأن أهل الاكتساب فيه لا يبدؤون بمعرفة علم الاكتساب، فإن كانوا تجارًا لم يعبؤوا بالتعلم لعلم عقود البيوع وعلم الربا والصرف، وبيع ما لم يقبض، وبيع المكيل بالمكيل نَسَاءً وغير ذلك.
وإن كان عاملًا جابيًا لم يعبأ بتعلم أحكام الأموال والصدقات، وما يجب فيه الخراج والجزية، ومقادير الزكوات والحبوب والثمار، ومصارف ذلك.
وعلى هذا، فإنه من لم يعلم علم كسبٍ من وجوه المكاسب، فمتى دخل في عمل من أعمال الكسب على جهل منه تعلم ذلك الكسب لم يأمن أن يكون آكلًا للمال بالباطل. الإفصاح (7/ 337).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
معنى الحديث: أنَّ الناس تتغير بهم الأحوال، وتتبدل الأزمان، ويأتي عليهم زمان يضعف فيه الدين، وتفسد الضمائر والذمم، ويتكالب الناس فيه على جمع المال من حلال أو حرام، فالغاية تبرر الوسيلة عندهم، والحلال ما حل في أيديهم، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يبالي المرء ما أخذ منه» أي: لا تهمه الوسيلة التي اكتسب بها المال، والطريق الذي أخذه منه، «أمن الحلال» أي: سواء كان من كسب حلال كالبيع المبرور وعمل اليد «أم من الحرام» كالاختلاس والربا والقِمار والرشوة؛ لأن المصلحة المادية هي الهدف الوحيد، والغاية الرئيسية لكل معاملاته. منار القاري (3/ 256-257).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال بن التين أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا تحذيرًا من فِتنة المال، وهو من بعض دلائل نبوته لإخباره بالأمور التي لم تكن في زِمنه. ووجه الذَّم من جهة التسوية بين الأمرين وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذمومًا من حيث هو والله أعلم.فتح الباري(4/٢٩٧)
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
فيه: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عالمًا بما حدث من بعده، وأنَّ المسلمين في عهدهِ كانوا متورعين ومحتسبين عن المحرمات والشبهات، وتغيَّر الناس بعد ذلك على العموم؛ لأن اللام في فاعل «لا يبالي» للجنس، وقد تحقَّق ما أخبر به الصادق -صلوات الله عليه- منذ زمان، وشاع في الناس. الأزهار شرح المصابيح، مخطوط، لوح (265).
قال القسطلاني -رحمه الله-:
وفيه ذَم ترك التحري في المكاسب. إرشاد الساري(4/١٢)