الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

كُنَّا عند النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فنظرَ إلى القمرِ ليلةً -يعني البدْرَ- فقال: «إنَّكم سترونَ ربَّكم كما تَرون هذا القمر، لا تُضَامُونَ في رُؤيَتِه، فإنِ استطعتُم أن لا تُغلَبُوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبها فافْعَلوا» ثم قَرأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ق: 39، قال إسماعيل: «افْعَلوا لا تفوتَنَّكم».


رواه البخاري برقم: (554) واللفظ له، ومسلم برقم: (633)، من جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لا تُضَامُوْنَ»:
‌بالتَّخفيف، أَي: لا ينالكم ضيم في رُؤْيَته فيراه بعض دون بعض، بل يستوون في الرُّؤْيَة. وقال ابن الأنباري: أَي: لا يقع لكم في الرُّؤْيَة ضَيم. وهو الذُّل والصغار. تفسير غريب الحديث، للحميدي(ص: ٣٦٠)
وقال الخطابي -رحمه الله-:
«‌تُضَامُونَ في رُؤْيتِهِ، وتُضامُّونَ» الأُولى خفيفة، من الضَّيْمِ، والأخرى مشدّدة، مِن التّضامِّ والتداخُلِ. إصلاح غلط المحدثين (ص: 66).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
ومعنى هذه الألفاظ، ‌وإن ‌اختلفت ‌مُتقاربة، وكُل ما رُوي فيه صحيح، ولا يدفع لفظ منها لفظًا، وهو مِن صحاح أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغُرَرِها، ولا يُنكرها إلا مُبتدع صاحب هوى.تهذيب اللغة(11/٣١٥)

«لا تُغلَبُوا»:
أي: لا يغلبكم عليها أحد. التوضيح، لابن الملقن (6/ 193).
وقال المطرّزي -رحمه الله-:
يقال: غُلِبَ فلان على الشيء إذا أُخِذَ منه بِالْغَلَبَةِ. المغرب(ص: 342).


شرح الحديث


قوله: «إنكم سترونَ ربَّكم كما ترون هذا القمر»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إنكم» أي: أيها المؤمنون. مرقاة المفاتيح(9/ 3601).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«سترون ربكم» أي: ستبصرونه. مرقاة المفاتيح (9/ 3601).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنكم» أيها المؤمنون «سترون ربكم» في الآخرة «كما ترون هذا القمر» الكاف صفة لمصدر محذوف؛ أي: ترونه رؤية واضحة، مثل رؤيتكم هذا القمر، من غير حجاب ولا مزاحمة ولا إشكال، فالتشبيه في وضوح الرؤية لا في المرئي، ولا في نفس الرؤية؛ لأن هذه رؤية في جهة، وتلك رؤية لا في جهة. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (2/ 142-143).
وقال المناوي -رحمه الله-:
تنبيه: أُخذ من قوله: «إنكم» أنَّ الجن والملائكة لا يرونه، وقد صرح بذلك ابن عبد السلام في الملائكة، فقال: الملائكة في الجنة لا يرونه تعالى؛ لقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الأنعام: 103، وقد استثنى منه مؤمنو البشر، فبقي على عمومه في الملائكة.
قال في آكام المرجان: ومقتضاه أنَّ الجن كذلك؛ لأن الآية باقية على العموم فيهم أيضًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 356).
وقال بدر الدين الشبلي -رحمه الله-:
فإذا استُثني المؤمنون من عموم قوله تعالى: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} الأنعام: 103، وبقي على عمومه في الملائكة على ما قَرَّرَهُ ابن عبد السَّلام فحينئذٍ يبقى على عمومه في الجنّ، والله أعلم. آكام المرجان في أحكام الجان (ص: 98).
وقال الشيخ الغنيمان -حفظه الله-:
قوله: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر» هذا بيان بليغ، وتأكيد عجيب، فأكده بـ(إنّ) وبالفعل المضارع المسبوق بالسين، وبقوله: «كما ترون هذا القمر» مع إشارته إليه، فليس بعد هذا البيان بيان، ولا مزيد على هذه التأكيدات، فمن حاول تأويل رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بعد ما سمع هذا البيان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو يجادل بالباطل ليُدْحِض به الحق، قد اختار الباطل على الحق، وسوف يولّه الله ما تولى، وإذا دخلت السين على الفعل صار وقوعه في المستقبل. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 11 ـــ 12).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قد يخيل إلى بعض السامعين أنَّ الكاف في قوله: «كما ترون» كاف التشبيه للمرئي، وإنما هو كاف التشبيه للرؤية، وهو فعل الرائي، ومعناه: ترون ربكم رؤية ينزاح معها وتنتفي معها المرية كرؤيتكم القمر ليلة البدر، لا ترتابون به، ولا تمترون فيه. معالم السنن (4/ 329).
وقال السندي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وهذا وجه وجيه، لكن آخر الحديث أنسب بما ذكر، وأما تخييل تشبيه المرئي بالمرئي فباطل، فإنه من الجهل بالعربية، وإلا فـ«كما ترون» صفة مصدر، فهو نص في تشبيه الرؤية لا المرئي. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 76).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقوله: «كما ترون هذا القمر» شبَّه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي سبحانه وتعالى، وإنما شبَّه الرؤية برؤية البدر لمعنيين:
أحدهما: أن رؤية القمر ليلة البدر لا يُشك فيه ولا يُمْتَرى.
والثاني: يستوي فيه جميع الناس من غير مشقة. فتح الباري (4/ 320).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«‌كما ‌ترون ‌هذا ‌القمر» رؤية محققة لا تَشُكُّون فيها. إرشاد الساري (7/ 355).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«‌كما ‌ترون ‌هذا ‌القمر» هذا فيه تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس المعنى تشبيه المرئي بالمرئي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ولكنكم ترونه رؤية حقيقية مؤكدة كما يرى الإنسانُ القمرَ ليلة البدر، وإلا فإن الله -عز وجل- أجل وأعظم من أن يشابهه شيء من مخلوقاته. شرح رياض الصالحين (2/ 188).

قوله: «لا تُضَامُون في رؤيته»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «لا تُضَامُون» قد رُويت على ستة أوجه:
الرواية الأولى: «تُضَامُون»: بضم التاء وتخفيف الميم وعليها أكثر الرواة، والمعنى: لا ينالكم ضيم، والضيم: الظلم، ورجل مضيم: مظلوم، وهذا الضيم يلحق الرائي من وجهين: أحدهما: من مزاحمة الناظرين له، والثاني: مِن تأخُّره عن مقام الناظر المحقق، فكأنَّ المتقدمين ضاموه، ورؤية الحق -عز وجل- يستوي فيها الكل ولا ضيم.
وقال ابن الأنباري: الضيم: الذل والصَّغَار، فكأنه يذل من سُبِق بالرؤية أو حُرم تحقيقها، والأصل: يُضِيْمُون، فأُلقيت فتحة الياء على الضاد فصارت الياء ألفًا لانفتاح ما قبلها.
والرواية الثانية: «تُضامُّون»: بضم التاء وتشديد الميم.
والثالثة: بفتح التاء مع تشديد الميم، حكاهما الزجاج، وقال: المعنى فيهما: لا تتضامون أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، فيقول هذا لهذا: أرأيته؟ كما تفعلون عند النظر إلى الهلال.
والرواية الرابعة: «لا تُضارون»: بضم التاء.
والخامسة: «تَضارَّون»: بفتح التاء والراء مكان الميم في الروايتين مشددة، ذكرهما الزجاج وقال: المعنى: لا تتضارون، أي: لا يضار بعضُكم بعضًا بالمخالفة في ذلك..
والرواية السادسة: «تَضارَون»: بضم التاء وتخفيف الراء، وقال ابن القاسم (الأنباري): تَضارَون تفعلون من الضير، والضير والضر واحد، أي: لا يقع لكم في رؤيته ضرٌّ إما بالمخالفة والمنازعة، أو لخفاء المرئي. كشف المشكل (1/ 429 ، 430).
وقال ابن فورك -رحمه الله-:
«‌لا ‌تَضامُّون ‌في ‌رؤيته» أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض كما تنضمون في رؤية الهلال رأس الشهر، بل ترونه جهرة من غير تكلُّف لطلب رؤيته، كما ترون البدر -وهو القمر ليلة الرابع عشر- إذا عاينه المعايِن جهرة لم يحتج إلى تكلُّف في طلب رؤيته ومعاينته، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تضارون» أي: لا يلحقكم الضرر في رؤيته بتكلُّف طلب كما يلحق المشقة والتعب في طلب رؤية ما يخفى ويَدِق ويَغمُض، وكل ذلك المعاينة وأنها صفة تزيد على العلم، وكذلك مَن روى «تُضَامُون» مخفَّفًا فإنما مراده الضَّيم، أي: لا يلحقكم فيه ضَيم، والضيم والضرر واحد في المعنى. مشكل الحديث وبيانه (ص: 220).
قال النووي -رحمه الله-:
اعلم أنَّ مذهب أهل السنة بأجمعهم أنَّ رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلًا، وأجمعوا أيضًا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع -المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة- أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلًا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح، وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحوٌ من عشرين صحابيًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة، وكذلك باقي شُبههم، وهي مستقصاة في كتب الكلام، وليس بنا ضرورة إلى ذكرها هنا. شرح مسلم (3/ 15).

قوله: «فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فإن ‌استطعتم ‌أن ‌لا ‌تُغْلَبُوا ‌على ‌صلاة ‌قبل ‌طلوع ‌الشمس ‌وقبل ‌غروبها ‌فافعلوا» يعني: إن قدرتم على ألا تكونوا مغلوبين في صلاة الصبح وصلاة العصر فافعلوا، يعني: من داوم على هاتين الصلاتين فكأنه ممن رُزق لقاء الله سبحانه، فإذا كان كذلك فمداومته على هاتين الصلاتين كأنه عنوان على حسن خاتمته. المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 25).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإن استطعتم أن لا ‌تُغْلَبُوا» بالبناء للمجهول، أي: ألا تتركوا الاستعداد بقطع أسباب الغفلة المنافية للاستطاعة. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 356).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فإن استطعتم» مرتَّب على محذوف؛ تقديره: إن أردتم أن تستحقوا رؤيته تعالى في الآخرة فأوصيكم بوصية، وتلك الوصية ما تضمَّنه قولي: «إن استطعتم» أي: إن قَدرتم على «ألا ‌تُغْلَبُوا» بالبناء للمفعول؛ أي: على ألا يغلبنكم الشيطان؛ أي: على دفع غلبة الشيطان إياكم بوسوسته حتى يحثكم «على» ترك فعل «صلاة قبل طلوع الشمس» وهي صلاة الصبح، «و» على ترك فعل صلاة «قبل غروبها» وهي صلاة العصر؛ أي: حتى يحثكم على تركهما أصلًا، أو على تأخيرهما عن وقتهما؛ أي: إن قدرتم على دفع المغلوبية للشيطان. مرشد ذوي الحجا والحاجة (2/ 143-144).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإن استطعتم أَلا ‌تُغْلَبُوا» أي: إِن قدرتم على ألا تكونوا مغلوبين «على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» يعني: صلاة الصبح والعصر. شرح المصابيح (6/ 122).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فإن استطعتم ألا ‌تُغْلَبُوا» فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة، كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له. فتح الباري (2/ 33).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ألا ‌تُغْلَبُوا» في الدنيا ببناء المجهول «على صلاة قبل طلوع الشمس» أي: صلاة الفجر «وقبل غروبها» أي: صلاة العصر؛ لأن الوقتين تَتَعاقبُ فيهما الملائكَةُ، أو لأن وقتَ صلاة الصبح وقتُ لذيذ النوم، وصلاةَ العصر وقتُ الاشتغال في التجارة، ولا يَغلبنَّكم الشيطانُ حتى تَتْركوها أو تُؤخِّروها. بذل المجهود (13/ 150).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: ما المراد بلفظ «افعلوا» إذ لا يصح أن يراد افعلوا الاستطاعة، أو افعلوا المغلوبية؟
قلتُ: عدَّ المغلوبية كناية عن الإتيان بالصلاة؛ لأنه لازم الاتيان، وكأنه قال: فأتوا بالصلاة فاعلين لها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (4/ 199).
وقال العيني -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
«فافعلوا» أي: الصَّلاة في هذين الوقتين...، قلتُ: لو قَدَّر (أي: الكرماني) مفعول: «افعلوا» مثل ما قَدَّرنا لكان اسْتغنى عَن هذا السُّؤال والجواب. عمدة القاري (5/ 42).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
لا فرق بين ما قاله الكرماني، وما تعقبه به العيني، فإنَّ حاصلها واحد، فلا وجه للتعقب، وغايته أن الكرماني: بين طريق تقدير المفعول المحذوف، فأفاد، فتنبه، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (14/ 34).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وقوله: «فإن استطعتم ألا ‌تُغْلَبُوا على صلاة» يعني: على شهودها في الجماعة، فخَصَّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما؛ ولرفعهم أعمالهم فيها؛ لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم. شرح صحيح البخاري (2/ 178).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا:
قلتُ: وعُرِفَ بهذا مناسبة إيراد حديث: «يتعاقبون» عَقِبَ هذا الحديث، لكن لم يظهر لي وجه تقييد ذلك بكونه في جماعة، وإن كان فضل الجماعة معلومًا من أحاديث أُخَر، بل ظاهر الحديث يتناول من صلاهما ولو منفردًا؛ إذ مقتضاه التحريض على فعلهما أعم من كونه جماعة أو لا. فتح الباري (2/ 33-34).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قال العلماء: ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية: أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما، ورفع الأعمال، وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسَب أن يجازي المحافظ عليهما بأفضل العطايا، وهو النظر إلى الله تعالى، وقيل: لما حقق رؤية الله تعالى برؤية القمر والشمس وهما آيتان عظيمتان، شُرعت لخسوفهما الصلاة والذِّكْر، ناسب من يحب رؤية الله تعالى أن يحافظ على الصلاة عند غروبها، اهـ، ولا يخفى بُعْدَه وتكلفه، والله أعلم. فتح الباري (2/ 34).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقد قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقيب ذكر الرؤية: إنَّ أعلى ما في الجنة رؤية الله -عزّ وجلّ-، وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان، فالمحافظة عليهما يُرجى بها دخول الجنة ورؤية الله -عزّ وجل - فيها، كما في الحديث الآخر: «من صلى البَرْدَيْن دخل الجنة»...
وقيل: هو إشارة إلى أن دخول الجنة إنما يحصل بالصلاة مع الإيمان، فمن لا يصلي فليس بمسلم، ولا يدخل الجنة بل هو من أهل النار؛ ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} المدثر: 42، 43.
ويظهر وجه آخر في ذلك وهو: أن أعلى أهل الجنة منزلة من ينظر في وجه الله -عز وجل- مرتين بكرة وعشيًا، وعموم أهل الجنة يرونه في كُل جمعة في يوم المزيد، والمحافظة على هاتين الصلاتين على ميقاتهما ووضوئهما وخشوعهما وآدابهما يُرجى به أن يوجِبَ النظر إلى الله -عز وجل- في الجنة في هذين الوقتين، ويدل على هذا ما روى ثوير بن أبي فاختة، قال: سمعتُ ابن عمر يقول: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخَدَمِهِ وسُرُرِه مسيرة ألف سَنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوةً وعشيًّا»، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: 22 ، 23...، فالمحافظة على هاتين الصلاتين تكون سببًا لرؤية الله في الجنة في مثل هذين الوقتين، كما أن المحافظة على الجمعة سبب لرؤية الله في يوم المزيد في الجنة، كما قال ابن مسعود: «سارعوا إلى الجمعات؛ فإن الله يَبْرُز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في الدنو على قدر تبكيرهم إلى الجمعات». فتح الباري (4/ 323-324).

قوله: ‌«قال إسماعيل: افعلوا ‌لا ‌تَفُوتَنَّكُم»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«ولا يفوتنكم» بنون التأكيد والفاعل ضمير عائد إلى الصلاة، وهذا الكلام مراد به أن معنى «افعلوا» هو: «لا يفوتنكم» فيكون لفظ «لا يفوتنكم» من كلام إسماعيل تفسيرًا لما هو المقصود من «افعلوا». الكواكب الدراري (4/ 199).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«افعلوا ‌لا ‌تفوتنكم» من قول إسماعيل، شرح لقوله في الحديث: «فافعلوا» قلتُ: هو كذلك من قول إسماعيل، ولكن ليس تفسيرًا لقوله: «فافعلوا»، بدليل عدم أيّ والفاء، بل هو كلام يحث به على الفعل نوعًا من الوعظ والإيقاظ. الكوثر الجاري (2/ 225).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: كيف دلّ الحديث على فضل صلاة العصر؟
قلتُ: لما ذكر رؤية الله الذي هو أعظم المقاصد، وأردفه بذكر الحث على صلاة العصر والفجر؛ دلّ دلالة ظاهرة على أنهما بمكان عند الله، تصلحان وسيلة لذلك القصد العظيم. الكوثر الجاري (2/ 225).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
(الحديث) يدل على أن الرؤية قد يُرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين، ووقوع الاختصاص لهاتين الصلاتين بالذكر وإن كانتا كسائر الصلوات في محل الفرضية كاختصاصهما بلقب التوسط بين الصلوات الخمس، وإن كانت كل واحدة من الخمس مستحقة لهذه الصفة في وضع الحساب. أعلام الحديث (1/ 431).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
في الحديث تنبيه على أنَّ أهل تلك الفضيلة هُم الذين لا يغلبون على صلاتي الصبح والعصر، وإنما خص هاتين الصلاتين بالحث دون سائرها لما في الصبح من ركون النفس إلى الاستراحة، وتثبطها عن القيام عما هي فيه من لذة الكرى (النوم)؛ ولما في العصر من الشغل بالمعاملات؛ فإنه وقت قيام الأسواق في البلدان، فإذا لم تلحقه فترة في هذين الوقتين -مع شدة الداعية وقيام المانع- فبالأحرى ألا تلحقه في غيرهما من الأوقات. الميسر (4/ 1223، 1224).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما.
2. ومنها: أن فيه إشارة إلى عِظَم قَدْرِ هذين الصلاتين، وأنهما أشرف الصلوات الخمس، ولهذا قيل في كل منهما: إنها الصلاة الوسطى، والقول بأن الوسطى غيرهما لا تعويل عليه...
3. ومنها: ما قاله الخطابي -رحمه الله-: قوله: «فافعلوا» هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين...
4. ومنها: أنه قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقب ذكر الرؤية: إن أعلى ما في الجنة رؤية الله -عز وجل-، وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان، فالمحافظة عليهما يُرجى بها دخول الجنة، ورؤية الله -عز وجل- فيهما. البحر المحيط الثجاج (14/ 36-37).

وللمزيد من الفائدة ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا