الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«يَأتي على الناسِ زمانٌ الصابرُ فيهم على دِينِهِ ‌كالقَابِضِ ‌على ‌الجَمْرِ».


رواه الترمذي برقم: (2260)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (8002)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (957).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الجَمْرِ»:
النارُ المتَّقِد، فإذا بَرَد فهو فَحْم. تهذيب اللغة، الأزهري (11/ 52).


شرح الحديث


قوله: «يَأتي على الناسِ زمانٌ الصابرُ فيهم على دِينِه ‌كالقَابِضِ ‌على ‌الجَمْرِ»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«الصابرُ فيهم» أي: في أهل ذلك الزمان، «على دِينه كالقابض على الجمر» وهو الحطب المحترق قبل أن تخبوَ نارُه، يعني: كما أن القابضَ على الجمر لا يَقدِر أن يصبرَ عليه؛ لاحتراق يده كذلك المتديِّن يومَئذٍ لا يَقدِر على ثباته على دينه؛ لغلبة العُصاة والمعاصي، وانتشار الفسق، وضعف الإيمان. شرح المصابيح (5/ 466).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«الصابر فيهم» أي: في أهل ذلك الزمان «على دينه» أي: على حفظ أَمر دينه بترك دنياه، «كالقابض» أي: كصبر القابض في الشدة ونهاية المحنة «على الجمر» جمع الجمرة هي شعلة من نار...
والظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد، وتحمُّلِ غلبة المشقة؛ كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا لصبر عظيم وتعب جسيم، ومن المعلوم أن المشبَّه به يكون أقوى، فالمراد به المبالغة، فلا ينافيه أن ما أحد يصبر على قبض الجمر؛ ولذا قال تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} البقرة: 175، مع أنه قد يقبض على الجمر أيضًا عند الإكراه على أمر أعظم منه من قتل نفس، أو إحراق، أو إغراق ونحوها؛ ولذا قال تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} التوبة: 81، وقد أشار الشاطبي -رحمه الله- (في متن الشاطبية) في زمانه إلى هذا المعنى بقوله:
وهذا زمان الصبر مَن لك بالتي ** كقبضٍ على جمرٍ فتنجو مِن البلا
قال الجعبري: أي: هذا الزمان زمان الصبر؛ لأنه قد أُنكر المعروف وعُرِّف المنكَر وفَسَدت النيات، وظهرت الخيانات، وأوذي المُحِق، وأُكرم المبطِل، فمن يَسْمَعُ لك بالحالة التي لزومها في الشدة كالقابض على جمر النار؟ فقد روى أبو ثعلبة الخشني عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شحًّا مُطاعًا، وهوىً مُتَّبعًا، ودنيا مُؤْثَرَة، وإعجاب كلٍّ برأيه؛ فعليك خاصةَ نفسك ودَع العوام، فإن وراءكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم» انتهى. مرقاة المفاتيح (8/ 3364).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«زمان الصابر» كذا بخط المصنف، وفي رواية: «القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر» شبّه المعقول بالمحسوس، أي: الصابر على أحكام الكتاب والسُّنة يقاسي بما يناله من الشِّدة والمشقة من أهل البدع والضلال مثل ما يقاسيه من يأخذ النار بيده ويقبض عليها، بل ربما كان أشد، وهذا من معجزاته؛ فإنه إخبار عن غيب وقد وقع. فيض القدير (6/ 456).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الصابر فيهم» وفي رواية: «القابض على دينه كالقابض على الجمر»؛ لأنه يفيض الشر، ويخفى الخير ويقل أعوانه، ويؤذى الباقي على الحق، ويكثر أهل البدع، ويُعَدّ المعروف منكرًا والمنكرُ معروفًا، فشبّه الصابر على دينه كالقابض على الجمر، مِن تشبيه المعقول بالمحسوس. التنوير (11/ 192).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
«الصابر فيهم» أي: في أهل ذلك الزمان «على دينه» أي: على حفظ أمر دينه بترك دنياه، «كالقابض» أي: كصبر القابض في الشدة ونهاية المحنة «على الجمر» جمع الجمرة وهي شعلة من نار. تحفة الأحوذي (6/ 444).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «كالقَابضِ على الجَمر» (الجَمْرُ): الحطب المحترق قبل أن تخبو ناره، يعني: كما أن أخذَ النار بالكفِّ شديدٌ فكذلك الصبرُ مع أهل ذلك الزمان شديدٌ. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 333).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «كالقابض على الجمر» خبر «الصابر»، والجملة صفة لـ«زمان»، والراجع محذوف أي: الصابر فيه، أي: كما لا يقدر القابض على الجمر ألا يصبر لاحتراق يده، كذلك المتدين يومئذٍ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي، وانتشار الفتن وضعف الإيمان. الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3392).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «كالقابض على الجمر» في صعوبة الصبر وشدته، قبضه بيده: تناوله بيده، وقبض عليه وبيده: أمسكه، وهذا ما قال الشاطبي -رحمه اللَّه-:
وهذا زمان الصبر مَن لك بالتي ** كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلا
لمعات التنقيح (8/ 564).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وهذا الأمر يختلف باختلاف الناس والأماكن، ففي بعض الأماكن يكون الإنسان مضطهدًا في دينه مُضيَّقًا عليه حتى يكون ‌كالقابض ‌على ‌الجمر...،وفي بعض البلاد في عهدنا هذا يجد الإنسان حرية كاملة في القيام بشعائر دينه وإظهارها وإعلانها وحينئذ لا يمكن أنْ نقول إنّ هذا العهد الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- موجود الآن لأننا نجد ولله الحمد في بعض البلاد الإسلامية ما يتمكن الإنسان معه من إقامة دِينه على الوجه الذي يرضي الله ورسوله. فتاوى نور على الدرب(6/2)
وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-:
وهذا الحديث أيضًا يقتضي خبرًا وإرشادًا، أما الخبر: فإنه -صلّى الله عليه وسلم- أخبر أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل، وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر؛ من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلة، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها، ظاهرًا وباطنًا، وضعف الإيمان، وشدة التفرد؛ لقلة المعين والمساعد.
ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين؛ من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدرًا.
وأما الإرشاد: فإنه إرشاد لأمته أن يوطّنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات، وصبر على دينه وإيمانه -مع هذه المعارضات- فإن له عند الله أعلى الدرجات، وسيُعِينه مولاه على ما يحبه ويرضاه؛ فإن المعونة على قدر المؤنة.
وما أشبه زماننا هذا بهذا الوصف الذي ذكره -صلّى الله عليه وسلم-؛ فإنه ما بقي من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وحكومات متشتتة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداء ظاهرون وباطنون، يعملون سرًا وعلنًا للقضاء على الدين، وإلحادٍ وماديات جرفت بخبيث تيارها وأمواجها المتلاطمة الشيوخَ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق، ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، بحيث أصبحت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا، وتدمير الدين واحتقاره والاستهزاء بأهله وبكل ما يُنسب إليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشرها وشرورها قد شاهده العباد.
فمع هذه الشرور المتراكمة، والأمواج المتلاطمة، والمزعجات الملمة، والفتن الحاضرة والمستقبلة المدلهمة -مع هذه الأمور وغيرها- تجد مصداق هذا الحديث.
ولكن مع ذلك فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصورًا على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتًا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه بأنه سيجعل له بعد عسر يسرًا، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات، وحلول المنغصات.
فالمؤمن من يقول في هذه الأحوال: لا حول ولا قوة إلا بالله، و: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا، اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويقوم بما يقدر عليه من الإيمان والنصح والدعوة، ويقنع باليسير، إذا لم يمكن الكثير، وبزوال بعض الشر وتخفيفه، إذا تعذر غير ذلك {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الطلاق: 2، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق: 3، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} الطلاق: 4. بهجة قلوب الأبرار (ص: 200- 202).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)

وينظر (هنا)


ابلاغ عن خطا