«لو لم تكونوا تُذنِبونَ خَشيتُ عليكم ما هو أَكبرُ من ذلك: العُجب العُجب».
رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم: (6868) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5303)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (658).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تُذنِبون»:
الذَّنْب: الإثم والجُرْم والمعصية. لسان العرب، لابن منظور (1/389).
وقال المناوي -رحمه الله-:
الذنْب: يُستعمل في كل فعل يُسْتَوْخُم عقباه؛ اعتبارًا بذنَب الشيء؛ ولهذا يُسمى الذّنْب: تَبِعَة؛ اعتبارًا لما يحصل من عاقبته، وجمع الذّنب: ذُنوب. الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية (ص: 159).
«العُجب»:
يقال: أُعجِب فلان بنفسه، فهو مُعْجَب برأيه وبنفسه، والاسم العُجب بالضم. الصحاح، للجوهري (1/177).
وقال المناوي -رحمه الله-:
العُجب -بضم فسكون-: وهو نظر الإنسان إلى نفسه بعين الاستحسان. فيض القدير (2/375).
شرح الحديث
قوله: «لو لم تكونوا تُذنِبون»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«لو لم تكونوا تُذنِبون» بغير العُجب، فإنه ذنب أيضًا. التنوير شرح الجامع الصغير (5/1739).
قوله: «خشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العُجب العُجب»:
قوله: «العُجب العُجب»:
قال الصنعاني-رحمه الله-:
«العجب العجب» بالنصب فيهما، الأول بدل من «ما»، والثاني تأكيد له، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو العُجب. التنوير شرح الجامع الصغير (5/1739).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
قوله: «العُجب العُجب» هكذا هو مرتين.
فجعل العُجب أكبر من الذنوب؛ لكونه يورث الغرور بالعمل، فلا يُوفَّق للتوبة بخلاف غيره من المعاصي. إتحاف السادة المتقين (8/ 408-409).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «العُجب العُجب» كرَّره زيادة في التنفير، ومبالغة في التحذير؛ وذلك لأن العاصي يعترف بنقصه، فيرجى له التوبة، والمعجب مغرور بعمله فتوبته بعيدة.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «الهلاك في اثنين: القنوط والعُجب»، وإنما جمع بينهما لأن القانط لا يطلب السعادة لقنوطه، والمعجب لا يطلبها لظنه أنه ظفر بها.
وقيل لعائشة: متى يكون الرجل مسيئًا؟ قالت: «إذا ظن أنه محسن».
ونظر رجل إلى بشر الحافي وهو يطيل التّعبد ويحسنه، فقال له: «لا يغرّنك ما رأيتَ مني، فإن إبليس تعبَّد آلاف سنين، ثم صار إلى ما صار إليه».
ومن علامة العُجب: أن يتعجب من رَدِّ دعائه، واستقامة حال مَن يؤذيه، حتى أنه إذا أصاب من يؤذيه بَلِيَّة يرى أن ذلك كرامة له، يقول: قد رأيتم ما فعل الله، وقد يقول: سترون ما يجري عليه، ولا يدري الأحمق أن بعض الكفار ضرب الأنبياء، ثم مُتِّع في الدّنيا، وربما أسلم، فخُتِم له بالسعادة، فكأنه يرى نفسه أنه أفضل من الأنبياء.
والعُجب هو سبب الكِبْر، لكن التكبر يستدعي متكبَّرًا عليه، والعُجب مقصور على الانفراد. التيسير (2/312).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قال بعضهم: فيه جَعْلُ العُجب أكبر من الذنوب؛ إذ لو لم يذنب العبد لاستكثر فعله، واستحسن عمله، فلحظ أفعاله المدخولة، وطاعاته التي هي بالمعاصي أشبه، وإلى النقص أقرب، فيرجع من كنف الله وحفظه إلى استحسان فعله، فيعجب بنفسه، فيهلك. البحر المحيط الثجاج (42/ 588).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
والعُجب: أن ينظر العبد إلى نفسه بعين العظمة، وينظر غيره فقيرًا، ويقول: أنا وأنا، كما قال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} الأعراف: 12، ويطلب الترفع في المجالس، والتصدر، ويستنكف من رَدِّ الكلام. فتح القريب المجيب (11/629).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
وإنما يلزمك اجتنابه -أي: العُجب- لأمرين:
الأول: أنه يحجب عن التوفيق والتأييد من الله تعالى، فإنَّ المعجب مخذول، فإذا انقطع عن العبد التأييد والتوفيق، فما أسرع ما يهلك!؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه».
والثاني: أنه يُفْسِد العمل الصالح؛ ولذلك قال المسيح -عليه السلام-: «يا معشر الحواريين، كم سراج قد أطفأته الريح، وكم عابد أفسده العُجب». منهاج العابدين(ص: 350-351).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لأن العاصي يعترف بنقصه، فترجى له التوبة، والمعجَب مغرور بعمله، فتوبته بعيدة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الكهف: 104. فيض القدير (5/331).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قال الراغب: العُجب ظن الإنسان من نفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها، فيتعين اجتنابه، فإنه مهلك؛ لا سيما للعالم.
ومن أدويته: أن يعلم أن علمه وفهمه وجودة ذهنه وفصاحته، وغير ذلك من النعم؛ فضل من الله عليه، وأمانة منه لديه؛ ليرعاها حق رعايتها، والعُجب بها كفران لها، وتعريض لزوالها؛ لأن معطيه إياها قادر على سلبها عنه. التنوير شرح الجامع الصغير(9/159).
وقال الخادمي -رحمه الله-:
وأقبح العُجب: العُجب بالرأي الخطأ، فيفرح به، كأهل الهوى، ويصر عليه، ولا يسمع نصح ناصح؛ لكونه حسنًا في اعتقاده، بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال، مع أنه جاهل...
وعلاج هذا العُجب -أي: العُجب بالرأي الخطأ على اعتقاد الحقيَّة- أعسر وأصعب. بريقة محمودية(2/ 237).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فإنْ قيل: قد يُراد بذلك أنَّ المطيع قد يحصل له إعجابٌ وكِبْر، وصاحب المعصية يحصل له ذُلٌّ وخشية.
قيل: مَن كان عنده كِبْر أو عُجْب أو رياء، فليس مطيعًا، بل عاصيًا، ومعصيةُ الكِبْر والعُجب والرياء أعظمُ من معصية شُرْب الخمر، فالشارب الخاشع الخائف من ربه أقرب إلى رحمة ربه من الصائم المتكبِّر المُعْجَب المُرائي، فمَن ظنَّ أن الطاعة صُوَر الأعمال، فهو جاهل، بل اسم الطاعة يتناول طاعة القلب بالخوف والرجاء والإخلاص لله، والشكر، وغير ذلك؛ أعظم مما يتناول طاعةَ البدن، كالصيام والقيام والصدقة، قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} البقرة 177، الآية.
وقد أجمع المسلمون على أن مجرَّد أعمال البدن بدون عمل القلب لا يكون عبادة ولا طاعة لله. الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق (ص: 65).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه؛ إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيحدث له انكسارًا وتوبةً واستغفارًا وندمًا، فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبًا وكبرًا ومِنَّةً، فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجبًا لترتب طاعات وحسنات ومعاملات قلبية من خوف الله والحياء منه، والاطراح بين يديه منكسًا رأسه خجلًا باكيًا نادمًا مستقيلًا ربه، وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولةً وكبرًا وازدراء بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار، ولا ريب أن هذا الذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز؛ من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المان بها، وبحاله على الله -عز وجل- وعباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك، فالله شهيد على ما في قلبه...
فإذا أراد الله بهذا العبد خيرًا ألقاه في ذنب يكسره به، ويعرفه قدره، ويكفي به عباده شره، ويُنَكِّس به رأسه، ويستخرج به منه داء العُجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده، فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة، ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال. مدارج السالكين (1/299- 300).
قال المناوي -رحمه الله-:
فيه دلالة على أن العبد لا تبعده الخطيئة عن الله، وإنما يبعده الإصرار والاستكبار والإعراض عن مولاه، بل قد يكون الذنب سببًا للوصلة بينه وبين ربه. فيض القدير (5/331).