عن أبي قتادةَ بن رِبْعِيٍّ أنه كان يُحَدِّثُ: أنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عليه بجِنازَةٍ، فقال: «مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه»، قالوا: يا رسول اللَّه، ما المستريحُ والمسترَاحُ منه؟ فقال: «العبدُ المؤمنُ يسترِيحُ مِن نَصَبِ الدنيا، والعبد الفاجِرُ يسترِيحُ منه العبادُ والبلادُ، والشجرُ والدَّوابُّ».
رواه البخاري برقم (6512) ومسلم برقم: (950) واللفظ له.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«نَصَبِ الدنيا»:
أي: تَعَبها، بالأعمال التكليفية، والأحوال الكونية التقديرية. مرقاة المفاتيح، للقاري (3/ 1158).
وقال ابن الحداد -رحمه الله-:
يقال: ونَصِب نَصَبًا: أعيا من التعب. الأفعال(ص:112).
«الفاجر»:
أي: الكافر أو العاصي. منحة الباري، زكريا الأنصاري (9/ 479).
وقال الأنباري -رحمه الله-:
قال أهل اللغة: الفاجر معناه في كلام العرب: العادل المائل عن الخير. الزاهر(1/ 142).
شرح الحديث
قوله: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عليه بجنازة»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «مُرَّ عليه بجنازة» على صيغة المجهول. عمدة القاري (23/ 96).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«مُرَّ عليه بجنازة» بضم ميم «مُر» وتشديد رائها. إرشاد الساري (9/ 298).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفي الجنازة لغتان: الكسر والفتح، ومنهم من يفرِّق بينهما، فيجعل الجَنازة بفتح الجيم بَدَن الميت، والجِنازة بالكسر السرير. غريب الحديث (1/ 234).
قوله: «مستريح، ومستراح منه»:
قال الأردبيلي -رحمه الله-:
المستريح: الذي يَطلب الراحة من نصب الغير وتعبه، والمسترَاح: الذي يُطلَب الراحة من نصبه ووصبه، والحديث مُبين ومُفسِّر لذلك ومشتمل عليه. الأزهار شرح مصابيح السنة، مخطوط، لوح (199).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«ومستراح منه» الواو فيه بمعنى (أو) وهي للتقسيم على ما صرح بمقتضاه في جواب سؤالهم. فتح الباري (11/ 364).
وقال أبو البقاء العكبري -رحمه الله-:
«مستريحٌ ومستراحٌ منه» التقدير: الناس أو الموتى: مستريحٌ، ومستراحٌ منه. إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث (ص: 70).
وقال السندي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: ولا يخفى ما فيه من عدم المطابقة بين المبتدأ والخبر، فليتأمل. حاشيته على سنن النسائي (4/ 49).
وقال النووي -رحمه الله-:
معنى الحديث: أن الموتى قسمان: مستريح ومُستراح منه. شرح مسلم (7/ 20، 21).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
في قوله: «أو مستراح» تنويعية، أي: لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين، فلا يختص بصاحب الجنازة. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1364).
قوله: «قالوا: يا رسول الله، ما المستريح، والمستراح منه؟»:
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «قالوا» أي: الصحابة، ولم أقف على اسم السائل منهم بعينه، إلا أن في رواية إبراهيم الحربي عند أبي نعيم: «قلنا» فيدخل فيهم أبو قتادة، فيحتمل أن يكون هو السائل. فتح الباري (11/ 364).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ما المستريح والمستراح منه؟» أي: ما معناهما؟ مرعاة المفاتيح (5/ 293).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ما المستريح وما المستراح منه؟» «المستريح» الذي وجد الراحة، و«المستراح منه» الذي خلص الناس من شَرِّه، واستراحوا من ظلمه. المفاتيح (2/ 414).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يريد أن من توفي من الناس على ضربين: ضرب يستريح، وضرب يستراح منه، فسألوه عن تفسير مراده بذلك. المنتقى (2/ 34).
قوله: «العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «من نصب الدنيا وأذاها» زاد النسائي في رواية وهب بن كيسان: «مِن أَوْصَاب الدنيا» والأوصاب: جمع وَصَبٍ، بفتح الواو والمهملة، ثم موحدة، وهو دوام الوجع، ويطلق أيضًا على فتور البدن، والنَّصب بوزنه، لكن أوَّله نون هو التعب وزنه ومعناه، والأذى من عطف العام على الخاص، قال ابن التين: يحتمل أن يريد بالمؤمن التقي خاصة، ويحتمل كل مؤمن. فتح الباري (11/ 364-365).
وقال النووي -رحمه الله-:
و«نصب الدنيا» تعبها. شرح مسلم (7/ 20، 21).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «مِن نصب الدنيا» النَّصب: التعب والمشقة. عمدة القاري (23/ 96).
وقال الباجي -رحمه الله-:
فأخبر أن المستريح هو العبد المؤمن يصير إلى رحمة الله، وما أَعد له من الجنة والنعمة، ويستريح من نصب الدنيا وتعبها وأذاها. المنتقى (2/ 34).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إن كان هذا الميت صالحًا، فقد خلص من نصب الدنيا. المفاتيح (2/ 414، 415).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«العبد المؤمن» التقي خاصة، أو كل مؤمن «يستريح من نصب الدنيا» تعبها ومشقتها. إرشاد الساري (9/ 298).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فمن تحققت له المغفرة استراح؛ وذلك لا يكون إلا بعد فصل القضاء، والأمر بدخول الجنة، فليس الموت مريحًا؛ لأن ما بعده غُيِّب عنا. فيض القدير (2/ 563).
قوله: «والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«والعبد الفاجر يستريح منه» أي: يخلص من شره «العباد»؛ من جهة أنه حين فعل منكرًا إذا منعوه آذاهم، وإن سكتوا أذنبوا.
«والبلاد والشجر والدواب» وهذا من جهة أن المطر يُمْنَع بشؤم الفاجر، فينقص أغذيتهم، فإذا مات ارتفع ذلك فيستريحون. شرح المصابيح (2/ 331).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«والعبد الفاجر» الكافر أو العاصي «يستريح منه العباد» لما يأتي به من المنكر؛ لأنهم إن أنكروا عليه آذاهم وإن تركوه أثموا، أو لما يقع لهم من ظلمه، «والبلاد» بما يأتي به من المعاصي فإنه يحصل به الجدب، فيقتضي هلاك الحرث والنسل، أو لما يقع له من غصبها ومنعها من حقها، «والشجر» لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها... «والدواب» لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها. إرشاد الساري (9/ 298).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والعبد الفاجر» وهو أعم من الكافر «يستريح منه» أي: من شره «العباد» من جهة أنه حين فعل منكرًا إن منعوه آذاهم وعاداهم، وإن سكتوا عنه أضرَّ بدينهم ودنياهم، «والبلاد» من العمارات والفلوات، «والشجر» أي: النباتات، «والدواب» أي: الحيوانات. مرقاة المفاتيح (3/ 1158).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«والعبد الفاجر» أي: الكافر، أو ما يعمه والعاصي، قيل: الظاهر حمله على الكافر لمقابلته بالمؤمن، وعليه حمله النسائي حيث ترجم على الحديث بالاستراحة من الكفار.
قلتُ: آخر الحديث -أي الجملة الآتية- يدل على أن المراد بالفاجر ما هو أعم من الكافر، فإن الظلم والفساد والفجور يحصل من المسلم أيضًا كما يحصل من الكافر، فيستريح العباد والبلاد من الفاجر المسلم، كما تستريح من الفاجر الكافر، فالأولى حمل «الفاجر» هنا على العموم، كما قال القاري: هو أعم من الكافر. مرعاة المفاتيح (5/ 293).
وقال الباجي -رحمه الله-:
والمستراح منه هو العبد الفاجر؛ فإنه يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، ويحتمل أن يكون أذاه للعباد بظلمهم، وأذاه للأرض والشجر بغصبها من حقها، وصرفها إلى غير وجهها، وإتعاب الدواب بما لا يجوز له من ذلك، فهذا مستراح منه. المنتقى (2/ 34).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما استراحة العباد من الفاجر معناه: اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوه، منها: ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات، فإن أنكروها قاسَوا مشقة من ذلك، وربما نالهم ضرره، وإن سكتوا عنه أثموا، واستراحة الدواب منه كذلك؛ لأنه كان يؤذيها، ويضربها ويحملها ما لا تطيقه، ويجيعها في بعض الأوقات، وغير ذلك. شرح مسلم (7/ 20، 21).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قال الداودي: معنى: يستريح منه العباد: أنهم يستريحون مما يأتي به من المنكر، فإن أنكروا عليه نالهم أذاه، وإنْ تركوه أثموا...، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ لأن مَن ناله الأذى من أهل المنكر لا يأثم بترك الإنكار عليهم، ويكفيه أن ينكره بقلبه، أو بوجهٍ لا يناله به أذاه. المنتقى شرح الموطأ (2/ 34).
وقال العيني -رحمه الله-:
والفاجر يحتمل أن يراد به الكافر، ويحتمل أن يدخل فيه العاصي، أما راحة العباد منه فلِمَا كان لهم من ظلمه، وأما راحة البلاد فلِمَا كان مِن غصبها ومنعها من حقها، وصرف ما يحصل منها إلى غير أهله في غير وجهه، وأما راحة الشجر فلِمَا كان من قلعه إياها بالغصب، أو من أخذ ثمره كذلك، لكن الراحة هنا لصاحب الشجر، وإسناد الراحة إليها مجاز، وأما راحة الدواب فلِمَا كان من استعمالها فوق طاقتها، والتقصير في أكلها وشربها. عمدة القاري (23/ 96).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى استراحة البلاد والشجر والدواب منه؟ قلتُ: بشؤمه يُحبس المطر، ويقع القحط، وسائر الآفات. الكوثر الجاري (10/ 182).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
وقوله: «البلاد والشجر والدواب» يدل على سراية آثار فسق الفاسق إلى غيره من الجماد. الأزهار شرح مصابيح السنة، مخطوط، لوح (199).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما بوّب له المصنّف (النسائي) -رحمه اللَّه تعالى- وهو بيان استراحة المؤمن من تعب الدنيا، وهمومها بموته.
ومنها: تقسيم الناس إلى قسمين: مؤمن وفاجر.
ومنها: بيان فضل الإيمان.
ومنها: بيان قبح الفجور، وأنه سبب البلايا والمصائب.
ومنها: أن فجور الفاجر يتسبّب منه ضرر العباد، والبلاد، كما قال اللَّه تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية، الروم: 41. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (19/ 112).