أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفَّأَ إنسانًا إذا تزوَّج، قال: «باركَ الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خيرٍ».
رواه أحمد برقم: (8957) واللفظ له، وأبو داود برقم: (2130)، والترمذي برقم: (1091)، والنسائي في الكبرى برقم: (10017)، وابن ماجه برقم: (1905)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4729)، صحيح أبي داود برقم: (1850).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«رَفَّأَ»:
بفتح الراء، وتشديد الفاء، مهموز، معناه: دعا له، في موضع قولهم: بالرَّفَاء والبنين، وكانت كلمة تقولها أهل الجاهلية، فورد النهي عنها. فتح الباري، لابن حجر (9/ 222).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الرفاء: الالتئام والاتفاق والبركة والنماء، وهو من قولهم: رفأتُ الثوبَ رَفَأً ورفوتُه رَفْوًا. النهاية (2/ 240).
شرح الحديث
قوله: «كان إذا رَفَّأ إنسانًا إذا تزوج»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «رَفَّأ» يريد: هَنَّأَهُ ودعا له. معالم السنن (3/ 217).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رفَّأ رجلًا قال: «بارك الله عليك، وبارك فيك، وجمع بينكم على خير»، ورُوي: رفَّحَ.
الترفئة: أن يقول للمتزوج: بالرِّفاء والبنين، كما تقول: سقيتَه وفديتَه، إذا قلتَ له: سقاك الله، وفديتك.
والمعنى: أنه كان يضع الدُّعاء له بالبركة موضِع الترفئة؛ ولما قيل لكل مَن يَدعُو للمتزوج بأيّ دعوة دعا بها: قد رَفَّأ، تصرَّفوا فيه، بقلب همزته حاءً، وإذا كانوا ممَّن يقلبون اللَّام فِي قائلة عينًا فهم بهذا القلب أخلق. الفائق في غريب الحديث (2/70- 71).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «إذا رَفَّأ إنسانًا» المراد به: الذّكَر، وربما يُقال للأنثى من صاحباتها وزميلاتها. فتح ذي الجلال(4/ 436).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إذا تزوج» يعني: إذا عُقِدَ له على امرأة، سواء حصل الدخول أم لم يحصل، يعني: لو عُقِدَ له على امرأة ولو لم يكن دخول، شُرِعَ هذا الدعاء، وإن خطب امرأة وأُجيب، فإنه لا يُشرع هذا الدعاء؛ لأنه لم يكن تزوج بعد، والحديث يقول: «إذا تزوج». فتح ذي الجلال والإكرام(4/ 436).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
دلَّ حديث أبي هريرة على أنَّ اللفظ كان مشهورًا عندهم غالبًا، حتى سُمِّيَ كل دعاء للمتزوج: ترفئة.
ودلَّ صنيع المؤلف على أن الدعاء للمتزوج بالبركة هو المشروع، ولا شك أنها لفظة جامعة يدخل فيها كل مقصود من ولد وغيره، ويؤيد ذلك حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال له: «تزوجتَ بكرًا أو ثَيِّبًا؟»، قال له: «بارك الله لك»، والأحاديث في ذلك معروفة. فتح الباري (9/ 222).
قوله: «قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«قال: بارك الله لك» في هذا الأمر «وبارك عليك» جعل البركة كائنة عليك، عامرة لك، حتى تعلوك.
وأُفْرِد؛ لأن المدعوَّ له أصالةً: الرجل.
«وجمع بينكما» ثنَّاه؛ لأن بالجمع يحصل المطلوب، وهو التناسل.
«في خير» يشمل أحوالها كلها. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 403).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «بارك الله لكم» البركة لكونها نافعة تتعدَّى باللام؛ ولكونها نازلة من السماء تتعدَّى بـ"على"؛ فجاءت في الحديث بالوجهين للتأكيد والتفنن والدعاء محل للتأكيد، -والله تعالى أعلم-. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 589).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بارك الله لك» أي: بالخصوص، أي: أكثر لك الخير في هذا الأمر المحتاج إلى الإمداد، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} النور: 32، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة حق على الله أن يغنيهم» وذكر منهم «المتزوج يريد العفاف».
«وبارك عليكما» بنزول الخير والرحمة والرزق والبركة في الذرية.
«وجمع بينكما في خير» أي: في طاعة وصحة وعافية وسلامة وملاءمة وحسن معاشرة، وتكثير ذرية صالحة.
قيل: قال أولًا: «بارك الله لك»؛ لأنه المدعوُّ له أصالة، أي: بارك الله لك في هذا الأمر، ثم ترقَّى منه ودعا لهما، وعَدَّاه بـ"على" بمعنى: بارك عليه بالذراري والنسل؛ لأنه المطلوب من التزوج، وأخَّر حسن المعاشرة والمرافقة والاستمتاع؛ تنبيهًا على أن المطلوب الأول هو النسل، وهذا تابع له. مرقاة المفاتيح (4/ 1696).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «وبارك عليكما» كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، والذي في الترمذي وأبي داود: «وبارك عليك»، وهكذا وقع عند ابن حبان وابن السني والحاكم، وكذا ذكر في المصابيح والأذكار والمنتقى وجامع الأصول الصغير والحصن وتحفة الذكرين، وفي ابن ماجه: «بارك الله لكم، وبارك عليكم، وجمع بينكما في خير». مرعاة المفاتيح (8/ 198).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقد أخرج بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم قال: كنا نقول في الجاهلية: بالرِّفَاء والبنين، فعلَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «قولوا...» الحديث، وأخرج مسلم من حديث جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: «تزوجتَ؟» قال: نعم، قال: «بارك الله لك»، وزاد الدارمي: «وبارك عليك». سبل السلام (2/163- 164).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال الطبري: والذي أختار من الدعاء ما صحَّتْ به الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رَفَّأ الرجل يتزوج، قال: «بارك الله لك، وبارك عليك»، ورواه الدراوردي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغير محظور الزيادة على ذلك. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/ 490).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والمعنى: أنه إذا أراد الدعاء للمتزوج دعا له بالبركة، وَبَدَّل قولهم في جاهليتهم: بالرِّفَاء والبنين بقوله هذا؛ لأنه أتم نفعًا، وأكثر عائدةً؛ ولما في الأول من التنفير عن البنات. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 103).
وقال السندي -رحمه الله-:
«بارك الله لك» أي: بارك فيها لأجلك، و«بارك عليك»، ويجوز أن يُقَدَّرَ الكلام على طريق الاحْتِبَاك، أي: بارك الله عليها لأجلك، وبارك عليك لأجلها. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (2/ 499).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«بارك الله لك» في أهلك، «وبارك» لأهلك «عليك»؛ فإن "على" التي للاستعلاء إشارة إلى أن الله يُنْزِل عليه البركة، فهو أبلغ مما قبله. شرح سنن أبي داود (9/ 445).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
فغيَّر رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أسلوب الجاهلية، واستبدله بالدعاء بالبركة للزوجين، والجمع بينهما في خير.
كما غيَّر ما كان عليه الجاهلِيُّون من تحايا؛ كأنْعِمْ صباحًا، وعِمْ مساء، بالسلام الذي هو تحية أهل الإسلام.
«وجمع بينكما» أي: بينك وبين زوجك.
«في خير» أي: في سرور ونماء، ورفاهية وسعادة. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (6/ 196).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: أنّ الدعاء للمتزوج سنة، وأما المتزوج فيُسَنّ له أن يفعل، ويدعو بما أفاده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادمًا، أو دابة، فليأخذ بناصيتها، ولْيَقُلْ: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جُبِلَتْ عليه، وأعوذ بك من شرها، وشر ما جُبِلَتْ عليه» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. سبل السلام (2/163- 164).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وفي الحديث: دلالة على شرعية الدعاء للناكح. البدر التمام شرح بلوغ المرام (7/ 22).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يقول: «بارك الله لك» أي: في أهلك، أي: وضع البركة فيك، والبركة تشمل البركة في العلم، والبركة في الأخلاق، كما تشمل البركة في الرعاية، والبركة في الأولاد، أي: أن كل ما يمكن أن يكون فيه بركة فهو داخل في هذا.
إذن معنى هذا: يبارك الله لك في أهلك بكثرة الأولاد، ويبارك في أهلك بالخُلق والرعاية الحسنة، ويبارك في أهلك بالاستمتاع، المهم بارك لك في كل ما تَأَتَّى في البركة.
والبركة قال العلماء: هي الخير الكثير الثابت؛ لأنه مأخوذ من البِرْكة، أي: بِرْكة الماء، وبِرْكة الماء -كما نعلم- كثيرة وثابتة، كثيرة الماء ليس كالماء الذي في الإناء، وثابتة أيضًا لأنها لا تجري.
وقوله: «وبارك عليك» أي: أنزل عليك البركة لأهلك، فإذن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا للرجل في أهله ولأهله فيه.
«بارك عليك»، وهل يمكن أن يُقال: إن البركة هنا عامة بالنسبة لأهله وله؟ يعني: بارك الله لك في كل شيء وبارك عليك في كل شيء؟ قد يقال: إنها عامة، وقد يقال: إنها خاصة، والذي يخصصها هي قرينة الحال؛ لأن الدعاء له مناسبة، فيُنزَّل على هذه المناسبة.
ولهذا نجد أنَّ الذين يُباركون للمتزوج لا يخطر في بالهم أن يُبارك له في ماله، وإنما يقصدون أن يُبارك له في أهله، فإذن يمكن أن نقول: إن العموم هنا لا يُراد، وإن كان اللفظ صالحًا له؛ لأن قرينة الحال تقتضي تخصيصه.
«وجمع بينكما في خير» أي: بينك وبين أهلك في خير ديني ودنيوي، فيشمل كل ما يمكن من الخير، فهذه ثلاث جمل: «بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير»، وتَرْفِئَة الجاهلية كم؟ اثنتان، قاصرتان لفظًا ومعنىً.
ومن العجب أن بعض السفهاء مِنّا إذا رفَّأ أحدًا قال: بالرِّفاء والبنين عودًا على الجاهلية، ومثل هذا لا يجوز؛ لأن استبدال اللفظ الإسلامي الذي وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى لفظ جاهلي منسوخ يدل على رغبة الإنسان عن السنة، لكن الغالب على هؤلاء أنهم جُهَّال لا يعرفون ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يدركون خطورة إرجاع الناس إلى الجاهلية، فهذا خطر عظيم؛ ولهذا يجب أن يُمْحى كل ما يتعلَّق بأمور الجاهلية مما لا يُقِرُّه الإسلام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية».
إذن في هذا الحديث بحث:
أولًا «بارك الله لك» هل هو خبر أو إنشاء؟ خبر بمعنى الإنشاء؛ لأن «بارك» فعل ماضٍ، لكن لا يُرَاد الخبر، يُرَاد الطلب، أي: أنك تسأل الله أن يبارك له وعليه.
ثانيًا: هل يشرع هذا القول للرجل وللمرأة؟ قلنا: بالنسبة للرجل لا شك فيه، وأما بالنسبة للمرأة فقد يُقال: إنه مشروع من النساء. فتح ذي الجلال والإكرام(4/ 436-437)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد الحديث:
أنه يُشرع قوله لمن تزوج، أما مَن خطب فلا يُشرع له.
ومن فوائده أيضًا: أنهُ يُقال لمن تزوج وإن لم يحصل الدخول؛ لأن الإنسان بمجرد العقد يصبح زوجًا للمرأة، والمرأة زوجة له، لو مات ورثته، ولو ماتت ورثها، فيُدعى له بالبركة.
ومن فوائد الحديث: أنه لا تشرع المصافحة عند التَّرْفِئَة، الدليل عدم الدليل؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفعله، ولو كان يفعله لنُقِل مع القول؛ لأنه يَبْعُد أن الصحابة يعقلون سُنّة جُمعت إلى سُنة أخرى -يعني: يبعُدُ أن الرسول كان يُصافح، ويقول هذا الذكر- ثم يُنقل هذا الذّكر، ولا تُنقل المصافحة؛ ولأن المصافحة لا وجه لها في هذه الحال، إنما المصافحة تكون عند الملاقاة والسلام.
يتفرع على هذه الفائدة: أنَّ التقبيل أيضًا أبعد وأبعد خلافًا لعُرف الناس اليوم، حيث إنه يُصافح ويقبل، وربما ضم ضمة يتنفس منها الصعداء، على كل حال: هذا ليس بمشروع؛ لا المصافحة، ولا التقبيل.
ومن فوائد الحديث: أنَّ التهاني والتحيات الإسلامية تجدها خيرًا وأكثر بركة من التحيات التي ليست إسلامية بَحْتَة، مثل: أن يقتصر الإنسان على قوله: «مرحبًا» «أهلًا ومرحبًا» يعني: حللتَ مكانًا واسعًا، أهلًا حللتَ أو نزلتَ أهلًا، ما الفائدة في مثل هذه التحيات؟ أليست هي إكرام فقط؟ لكن «السلام عليكم» تحية ودعاء، كذلك قولهم: «بالرِّفاء والبنين» إذا كان يتضمن دعاء فهي دعاء في أمر دنيوي؛ لكن «بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير» تشمل الخير في الدُّنيا والآخرة، فأنت إذا تأمَّلتَ ما يحصل من السّنن التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه المناسبات وجدت أنها خير ودعاء وبركة وصلاح.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي اللجوء إلى الله -عز وجل- في كل الأمور عند الفرح، وعند الحزن، فعند الزواج أسأل الله البركة للزوج وعليه، وأن يجمع بينه وبين أهله في خير. فتح ذي الجلال والإكرام(4/ 437-438).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)