«مَثَلُ الذي يتعلَّمُ العلمَ، ثم لا يُحَدِّثُ به، كمَثَلِ الذي يَكنِزُ الكنزَ، فلا يُنفِقُ منه».
رواه الطبراني في الأوسط برقم: (689)، والكبير برقم: (304) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5835)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (122).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الكَنز»:
قال ابن منظور -رحمه الله-:
الكَنز: اسم للمال إذا أُحْرِز في وعاء ولِمَا يُحْرَزُ فيه، وقيل: الكنز المال المدفون. لسان العرب(5/ 401).
شرح الحديث
قوله: «مَثَلُ الذي يتعلَّم العلم، ثم لا يُحَدِّثُ به، كمَثَل الذي يكنِزُ الكنز، فلا ينفقُ منه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«مَثَلُ الذي يتعلَّم العلم ثم» بعد تعلمه «لا يُحَدِّث به» غيره ممن يستحقه «كمَثَل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه» في كونه وبالًا عليه يوم القيامة. التيسير بشرح الجامع الصغير(2/ 371).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
الكَنز: هو ما لم تؤدَّ زكاته، وما أدى زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا تحت سبع أرضين. فتح القريب المجيب(2/ 69).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فعلى العالم أن يفيض من العلم على مستحقِّه لوجه الله تعالى، ولا يرى نفسه عليهم مِنَّة وإن لزمتهم، بل يرى الفضل لهم؛ إذ هذَّبوا قلوبهم؛ لأن تتقرب إلى الله بزراعة العلوم فيها كمَن يُعِيرُ أرضًا ليزرع فيها لنفسه وينفعه، ولولا المتعلم ما نال ذلك المعلم. فيض القدير (5/ 510).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
تشبيه العلم بالكنز وارد في عدم النفع والانتفاع والإنفاق منهما، لا في أمر آخر، وكيف لا؟ وإن العلم يزيد بالإنفاق والكنز ينقص، والعلم باقٍ، والكنز فانٍ.
فإن المال يفنى عن قريب *** وإن العلم باقٍ لا يزال الكاشف عن حقائق السنن (2/ 722).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن التحديث بالعلم من جملة العمل به، وكما أن صاحب الكنز معاقب كذلك كانز العلم...، وقد ذُكِرَ وجه الشبه وهو عدم الإنفاق، فلا يقال: العلم يزكو على الإنفاق، بخلاف المال فإنه ينقصه الإنفاق؛ لأن التشبيه فيما ذُكِرَ لا غير. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 526).
وقال الحليمي -رحمه الله-:
فإذا حضر العالم مَن يسألُه عن علم عنده سؤال المسترشد المستفيد، أو يُحال ذي الحرج الشديد، وجب عليه إخباره بما عنده، ولم يسعْهُ كتمانه. والحرج في كتمان النصوص أشد منه في كتمان الاستنباط، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} التوبة: 122.
فأبان الله على المقيمين أخبار النافرين إذا رجعوا إليهم بما حملوا في حال غيبتهم من علم الدِّين؛ ليشارك الفريقان في العلم، ولا يستأثر به مَن حضر دون الذي غاب، وقد قال الله -عزّ وجلّ-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} آل عمران:178، فثبت أن علم الدِّين محمول عن أهله على شريطة الأداء إلى مَن يعرض له على ألا ينفردَ به حامله، ولا يرويه غيره.
وقال -عز وجل-:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النحل: 43، فلمَّا أمر مَن لا يعلم أن يسأل العالم، دلَّ على أنّ العالم إذا سُئِلَ أن يجيب، كما أنه -عزَّ وجلَّ- لَمَّا أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} التوبة: 103، دلَّ ذلك على أن مَن طالبه بصدقة، فعليه أن يدفعها إليه.
وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، ورُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه» وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم-: «ألا فليبلِّغ الشاهد الغائب» وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ سُئِلَ عن علم فكتمه، جاء يوم القيامة ملجَّمًا بلجام من نار» وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَثلُ الذي يتعلَّم العلم ولا يتحدث به كمثل رجل أعطاه الله مالًا فلا ينفق منه».
ويدلُّ على ما قلنا أن طلب العلم إذا كان فرضًا على الكفاية دلَّ ذلك على أن الطالب طالب لنفسه ولغيره، فأيُّ علم حصل له فهو بمنزلةٍ عنده، فإذا سُئِلَها كان عليه أن يَردُّ بها لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء: 58.
وأيضًا فإن الله -عزَّ وجلَّ- ألزم مَنِ ائتمنه مثله على ماله أن يؤدي إليه الأمانة، فقال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} البقرة: 283، فدلَّ ذلك على أن مَنِ ائتمنه عالم على علم عنده، بأن ألقاه إليه لَزِمَه أن يؤدي الأمانة فيه، ومِنْ أداء الأمانة فيه إذا طُلب منه أن لا يكتمَهُ.
وأيضًا فإن في منع العلم هجر الدِّين، والتعفيةُ على آثاره، وحمل الناس على ارتكاب العظائم وانتهاك المحارم، فدلَّ ذلك على أنه حرام ممنوع، والإثم فيه كبير، وبالله التوفيق. المنهاج في شعب الإيمان (2/ 201).