«مَثَلُ الذي يَذكُرُ رَبَّهُ والذي لا يذكُرُ مَثَلُ الحيِّ والميِّتِ».
رواه البخاري برقم: (6407) واللفظ له، ومسلم برقم: (779) ولفظه: «مَثَلُ البَيتِ الذي يُذكرُ اللهُ فيه، والبيتِ الذي لا يُذكرُ اللهُ فيه، مَثَلُ الحيِّ والميِّت»، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «مثل الذي يذكر رَبَّه والذي لا يذكر مثل الحي والميت»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت» يعني: الحي تحصل منه طاعة، والميت لا تحصل منه طاعة، فالذاكر ربه هو الحي على الحقيقة؛ لأن الحي من له تلذذ وحياة، والتلذذ والحياة الحقيقي هو ذكر الله تعالى وطاعته؛ لأن الذكر يحيي القلوب، ويوجب له الجنة، ولقاء الله ورضاه، وهذه الأشياء هي الحياة الحقيقية، ومَن خلا من الذكر فهو ميت؛ لأنه خالٍ عما يُحيي قلبَه، وعما يوجب له الحياة الأبدية، وهو ذكر الله وطاعته. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 133).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«مَثَل» ساكن «البيت الَّذي يُذكر الله» سبحانه وتعالى «فيه» بأنواع الذكر والتلاوة «و» ساكن «البيت الَّذي لا يُذكر الله فيه مثل الحي والميت»، فيه من المحسِّنات البديعية: اللَّفُّ والنشر المرتب، أي: مثل ساكن البيت الَّذي يذكر الله... إلخ، مثل الشخص الحي بجامع الانتفاع، أو الميت بجامع عدم الانتفاع، فالذي يوصف بالحياة والموت حقيقةً هو الساكن لا المسكن، كما دل عليه رواية البخاري: «مثل الَّذي يذكر ربه -عزَّ وجلَّ-» إلخ. الكوكب الوهاج (10/ 89).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
شبَّه الذاكر بالحي الذي تزين ظاهرُه بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرف التام فيما يريد، وباطنه منوَّر بنور العلم والفهم والإدراك، كذلك الذاكر مزيَّن ظاهره بنور العمل والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة، فقلبُه مستقر في حظيرة القدس، وسِرُّه في مخدع الوصل، وغير الذاكر عاطلٌ ظاهرُه وباطلٌ باطنُه. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1722).
وقال البابرتي -رحمه الله-:
تشبيه البيت بالحي والميت من حيث وجود الذكر فيه وعدمه، وقيل: فيه تقدير مضاف، أي: مثل ساكن بيت يذكر فيه، وفيه نظر؛لأنه حي، لا مثل حي؟!تحفة الأبرار في شرح مشارق الأنوار، مخطوط لوح (147).
وقال ابن الملك -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قال الشيخ الشارح: هذا تشبيه البيت بالحي والميت من حيث وجود الذكر وعدمه، وقيل: المضاف فيه مقدر، يعني: ساكن البيت، وفيه نظر؛ لأن ساكن البيت حي، فكيف يكون مثل حي؟! إلى هنا كلامه.
وأقولُ: الحي المشبَّه به من ينتفع بحياته بذكر الله وطاعته، فلا يكون نفس المشبه، كما شبَّه المؤمن بالحي، والكافر بالميت، مع كونهما حيَّين، في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الأنعام: 122، على أنَّ تشبيه غير الذاكر من جهة أنَّ ظاهره عاطل، وباطنه باطل أنسب من تشبيه بيته به، يشهد عليه الذوق. مبارق الأزهار (2/496).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
«مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت» ولفظ مسلم: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت»، فجعل بيت الذاكر بمنزلة بيت الحي، وبيت الغافل بمنزلة بيت الميت وهو القبر، وفي اللفظ الأول: جعل الذاكر بمنزلة الحي والغافل بمنزلة الميت، فتضمن اللفظان: أن القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء، والغافل كالميت في بيوت الأموات، ولا ريب أن أبدان الغافلين قبور لقلوبهم، وقلوبهم فيها كالأموات في القبور كما قيل:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ** وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ** وليس لهم حتى النشور نشور
وكما قيل:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ** وأجسامهم فهي القبور الدَّوَارِسُ
وأرواحهم في وحشة من حبيبهم ** ولكنها عند الخبيث أَوَانِسُ مدارج السالكين (2/ 429).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
وجهُ تشبيه الذاكرِ بالحيِّ: الاعتدادُ به، والنفعُ، والنصرة، ونحوها. اللامع الصبيح (15/ 436).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» سقط لفظ (ربِّه) الثانية من رواية غير أبي ذر، هكذا وقع في جميع نُسخ البخاري، وقد أخرجه مسلم عن أبي كريب -وهو محمد بن العلاء شيخ البخاري- فيه بسنده المذكور بلفظ: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه، جميعًا عن أبي يعلى عن أبي كريب، وكذا أخرجه أبو عوانة عن أحمد بن عبد الحميد والإسماعيلي أيضًا عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن براد وعن القاسم بن زكريا عن يوسف بن موسى وإبراهيم بن سعيد الجوهري وموسى بن عبد الرحمن المسروقي والقاسم بن دينار، كلهم عن أبي أسامة فتوارُد هؤلاء على هذا اللفظ يدل على أنه هو الذي حدَّث به بريد بن عبد الله شيخ أبي أسامة، وانفراد البخاري باللفظ المذكور دون بقية أصحاب أبي كريب وأصحاب أبي أسامة يُشعر بأنه رواه من حفظه أو تجوَّز في روايته بالمعنى الذي وقع له، وهو أن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا السكن، وأن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يُراد به ساكن البيت، فشبَّه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنه بنور المعرفة، وغير الذاكر بالبيت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل، وقيل: موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت. فتح الباري (11/ 210).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر» أي: ربه سواء ذكر غيره أو لم يذكر «مثل الحي والميت» لف ونشر مرتب، فالحي يزين ظاهره بنور الحياة والتصرف التام فيما يريد، وباطنه بنور العلم والإدراك، وكذا الذاكر مزين ظاهره بنور الطاعة، وباطنه بنور المعرفة، وغير الذاكر ظاهره عاطل وباطنه باطل، وقيل: موقع التشبيه النفع لمن يواليه، والضر لمن يعاديه، وليس ذلك في الميت، ويمكن أن يقال: في الحديث إيماء إلى أن مداومة ذكر الحي الذي لا يموت تورث الحياة الحقيقية التي لا فناء لها كما قيل: أولياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار. مرقاة المفاتيح (4/ 1541).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» لَفٌّ ونشر مرتب، البيت الذي فيه الذكر كالإنسان الحي مشرق الباطن بالإيمان، منطلق اللسان بالخير، محبوب قربه، والذي لا ذكر فيه كالميت جيفة ينفر عنها، لا خير عندها. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 520-521).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ولمسلم: «البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» فيكون التقدير: مثل بيت الحي والميت، أو المراد بالبيت القلب، فإنه بيت الرب، فطوبى لمن أحياه وعمره، ويا حسرتى على من أخربه وغمره. مرقاة المفاتيح (4/ 1541).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
أي: كما أن الميت لا يُرفع له عمل؛ كذلك الذي لا يذكر الله. الكوثر الجاري (10/ 118).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«مثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر» زاد أبو ذر بعد هذه (ربه) «مثل الحي والميت» بفتح الميم والمثلثة في (مَثَل) في الموضعين. إرشاد الساري (9/ 231).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
«مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت»...
وفي هذا التمثيل منقبة للذاكر جليلة، وفضيلة له نبيلة، وأنه بما يقع منه من ذكر الله -عز وجل- في حياة ذاتية وروحية؛ لما يغشاه من الأنوار ويصل إليه من الأجور، كما أن التارك للذكر وإن كان في حياة ذاتية فليس لها اعتبار، بل هو شبيه بالأموات الذين لا يفيض عليهم بشيء مما يفيض على الأحياء المشغولين بالطاعة لله -عز وجل-، ومثل ما في هذا الحديث قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الأنعام: 122، والمعنى: تشبيه الكافر بالميت، وتشبيه الهداية إلى الإسلام بالحياة. تحفة الذاكرين (ص: 20).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
...فإن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا المسكن، وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت، إنما يراد به ساكن البيت، فهو من باب ذكر المحل، وإرادة الحال، وقيل: معنى قوله: «مثل الحي والميت» في رواية مسلم أي: مثل قلبهما، أو مثل مكانهما؛ ولذا ورد «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا» أي: خالية عن الذكر. مرعاة المفاتيح (7/ 381).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
لا يخفى ما في التعبير بـ«ربه» هنا مِن البعث على الذِّكر والرمز إلى الذم لمن تركه كما قال: «مثل الحي والميت» فالأول: ظاهره مزين بالحياة والعمل، وباطنه معمور بالسر فيه، والثاني: ظاهره عاطل وباطنه باطل. دليل الفالحين (7/ 232).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: الندب إلى ذكر الله تعالى في البيت، وأنه لا يُخلَى مِن الذِّكر.
وفيه: جواز التمثيل.
وفيه: أن طول العمر في الطاعة فضيلة وإن كان الميت ينتقل إلى خير؛ لأن الحي يستلحق به، ويزيد عليه بما يفعله من الطاعات. شرح مسلم (6/ 68).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
مثلٌ عظيم، ولا يستوي الأحياء ولا الأموات.
إذا كان هذا الحديث في فضل التسبيح ففي فضل العلم أولى. الحلل الإبريزية (4/ 218).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه حثُّ على ذكر الله في البيوت، وقد سلف الأمر بالصلاة فيها، وأنها تنور البيوت، ويحتمل أن المراد مثل أهل البيت الذين لا يذكرون الله كالأموات، والذين يذكرون كالأحياء، فإن الحياة الحقيقية إنما هي بذكر الله الذي به تشرق أنوار القلوب. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 520).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
1. منها: بيان فضل ذكر الله -سبحانه وتعالى-.
2. ومنها: بيان استحباب ذكر الله تعالى في البيت، وأنه لا ينبغي خلوه منه.
3. ومنها: بيان جواز التمثيل، لإيضاح المسألة.
4. ومنها: بيان فضل البيت الذي يُذكر الله تعالى فيه على البيت الذي لا يُذكر الله تعالى فيه.
5. ومنها: أن طول العمر في الطاعة فضيلة، وإن كان الميت ينتقل إلى خير؛ لأن الحي يستلحق به، ويزيد عليه بما يفعله من الطاعات.
6. ومنها: أن المراد بالذكر الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات، وهي: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، ويطلق ذكر الله أيضًا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه، كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة، ثم الذكر يقع تارة باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النقائص عنه ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما ازداد كمالًا، فإن صحح التوجه، وأخلص لله تعالى في ذلك، فهو أبلغ الكمال. البحر المحيط الثجاج (16/ 158-159).