الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«آتِي بابَ الجنَّةِ يوم القيامةِ فأَسْتفْتِحُ، فيقولُ الخازنُ: مَنْ أنت؟ فأقولُ: محمدٌ، فيقولُ: بك أُمِرْتُ لا أفتحُ لأحدٍ قبلك».


رواه مسلم برقم: (197)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«آتِي»:
أَيْ: أَجِيءُ. مرقاة المفاتيح، للقاري (9/ 3673).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: أَجِيْءُ إليه من الموقف بعد فصل القضاء. التنوير شرح الجامع الصغير(1/ 186).

«أستفتح»:
أي: أطلب فتحه من خازن الجنة. الكوكب الوهاج، للهرري (5/85).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فأستفتحُ» أيضًا للمتكلِّم من الاستفتاح، وهو طلبُ الفتح. المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 87).

«الخازن»:
متعهّد أو مسئول الخَزْن، ‌الذي ‌يتولّى ‌حفظَ ‌المال ‌وغيرهِ وإِنفاقه.معجم اللغة العربية المعاصرة(1/٦٣٩)


شرح الحديث


قوله: «آتي»:
أي: أَجِيْء بعد الانصراف من الموقف إلى أعظم المنافذ التي يتوصل منها إلى دار الثواب، وهو باب الرّحمة أو التوبة. التيسير بشرح الجامع الصغير(1/ 7).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«آتي»... ؛ فإن قلتَ: هل لتعبيره بالإتيان دون المجيء من نكتة؟ قلتُ: نعم، وهي الإشارة إلى أنّ مجيئه يكون بصفة من أُلْبِس خلَع الرضوان، فجاء على تمهل وأمان، من غير نَصَب في الإتيان؛ إذ الإتيان كما قال الراغب: مجيء بسهولة. قال: والمجيء أعم، ففي إيثاره عليه مزية زهية.
وفي الكشاف وغيره: إن أهل الجنة لا يُذهب بهم إليها إلا راكبين، فإذا كان هذا في آحاد المؤمنين، فما بالك بإمام المرسلين؟! فيض القدير (1/ 35).

قوله: «باب الجنة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
الجنة في الأصل: المرة من الجن، مصدر جَنَّهُ ستره، ومَدار التركيب على ذلك، سُمّي به الشجر المظلل لالتفاف أغصانه وسترها ما تحته، ثم البستان لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان، مع أن فيها ما لا يوصف من القصور؛ لأنها مَناط نعيمها، ومعظم ملاذها.
وقال الزمخشري: الجنة: اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين لكل طبقة منهم جنة منها.
قال ابن القيم: ولها سبعة عشر اسمًا، وكثرة الأسماء آية شرف المسمى، أولها: هذا اللفظ العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والبهجة والسرور، وقرة العين، ثم دار السلام: أي: السلامة من كل بَلِيَّة، ودار الله، ودار الخلد، ودار الإقامة، وجنة المأوى، وجنة عدن، والفردوس، وهو يطلق تارة على جميع الجنان، وأخرى على أعلاها، وجنة النعيم، والمقام الأمين، ومقعد صدق، وقدم صدق، وغير ذلك مما ورد به القرآن. فيض القدير (1/ 36).

قوله: «يوم القيامةِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
فِعَالة تقحم فيها التاء للمبالغة والغَلبة وهي قيام مُستعظم والقيام هو: الاستقلال بأعباءٍ ثقيلة، ذكرهُ الحراني.فيض القدير(1/ 35)

قوله: «فأستفتحُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
الفاء سببية، أي: يتسبب عن الإتيان الاستفتاح، ويحتمل جعلها للتعقيب، بل هو القريب. فإن قلتَ: ما وجهه؟
قلتُ: الإشارة إلى أنه قد أذن له من ربه بغير واسطة أحد لا خازن ولا غيره؛ وذلك أن من ورد باب كبيرٍ فالعادة أن يقف حتى ينتهي خبره إليه، ويستأمر، فإن أذن في إدخاله فتح له. فالتعقيب إشارة إلى أنه قد صانه ربه عن ذل الوقوف، وأذن له في الدخول قبل الوصول، بحيث صار الخازن مأموره منتظرًا لقدومه. فيض القدير (1/ 36).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأستفتح»: أطلب فتحه، فالسين للطلب؛ وذلك بقرع الباب، كما أفاده حديث: «أنا أوَّل من يدُقُّ باب الجنة، فلم تسمع الآذان أحسن من طنين تلك الحِلَق على تلك المصاريع». التنوير شرح الجامع الصغير(1/ 186).

قوله: «فيقول ‌الخازن»:
قال المظهري -رحمه الله-:
واحد الخَزَنَة، وهو مَلَكٌ موكَّلٌ بحفظ الجنة، سُمِّيَ خازنًا؛ لأن الجنةَ خزانةُ الله -سبحانه وتعالى-، أعدَّها للمؤمنين، وهو حافظُها. المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 87).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فيقول ‌الخازن»: أي: الحافظ، وهو المؤتمن على الشيء الذي استحفظه، والخَزْنُ: حفظ الشيء في الخزانة، ثم عُبِّر به عن كل حفظ، ذكرهُ الراغب، سمي الموكل بحفظ الجنة خازنًا؛ لأنها خزانة الله تعالى أعدّها لعباده.
و(أل) فيه عهدية، والمعهود رضوان، وظاهره: أن ‌الخازن واحد، وهو غير مراد، بدليل خبر أبي هريرة: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة، كُل خزنة باب: هَلُمَّ»؛ فهو صريح في تعدد الخزنة، إلا أن رضوان أعظمهم ومقدمهم، وعظيم الرسل، إنما يتلقاه عظيم الحفظة. فيض القدير (1/ 36).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وجزم الشارح أنَّ الخازن رضوان، فيحتمل: أنه لحديث ورد بذلك، ويحتمل: أنه لما كان أعظم الخزنة، ومقدمهم، لا ينبغي أن يتلقى أعظم الرسل ومقدمهم إلا أعظم الخزنة، وقد ورد في لفظ: «ولا أقوم لأحد بعدك»، ومعلوم أن غيره من الخزنة يقومون يتلقون المؤمنين.
ثم لا يخفى لطف افتتاح المصنف بهذا الحديث لهذا الحرف لما فيه من الاستفتاح والفتح. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 187).

قوله: «مَن أنت؟»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
لم يقتصر على (مَن)؛ لأنه يريد تعيين الذي قرع ليفتح له أو يرده، ولو اقتصر عليها لقيل: افتح، فيقال: ومن أتيت؟ فأتى الخازن بعبارة تُفيد المراد من أول الأمر. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 186).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«مَن أنت؟»: أجاب بالاستفهام، وأكَّدَه بالخطاب تلذُّذًا بمناجاته. التيسير بشرح الجامع الصغير(1/ 7).

قوله: «‌فأقول: ‌محمد»:
قال المناوي -رحمه الله-:
اكتفى به، وإن كان الْمُسمّى به كثيرًا؛ لأنه العَلَم الذي لا يشتبه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 7).
وقال أيضًا: لم يقل: أنا؛ لإيهامه، مع ما فيه من الإشعار بتعظيم المرء نفسه، وهو سيد المتواضعين، وهذه الكلمة جارية على ألسنة الطغاة المتجبرين، إذا ذكروا مفاخرهم، وزهوا بأنفسهم.
قال في المطامح: وعادة العارفين المتقين أن يَذْكُر أحدهم اسمه بدل قوله: "أنا" إلا في نحو إقرار بحق، فالضمير أولى. فيض القدير (1/ 36).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: أنا محمد، حُذف لقرينة السؤال، وأتى باسمه العَلَم، ولم يقل: رسول الله، وأنه يفيد النص عليه، بخلاف ما لو جاء بلفظ الرسول، لاحتيج إلى طلب تعيينه، ولا يقال: اسمه العَلَم مشترك، فلا يُعرف، أي: المحمدين؛ لأننا نقول: قد عُرف في الملأ الأعلى به، كما أفاده سياق حديث الإسراء، وأنه يقول أهل كل سماء لجبريل: ومن معك؟ فيقول: محمد، فقد كان معلومًا عندهم، أنه قد أرسله الله إلى العباد؛ لأنه لم يُسر به إلا بعد مدة من البعثة، ومعلوم أنه لا يخفى ذلك على الملائكة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 186).

قوله: «فيقول: بك أُمِرْتُ لا أفتح لأحدٍ قبلك»»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
«بك»: متعلق بـ(أُمِرْتُ)، والباء للسببية قُدِّمت للتخصيص، والمعنى: بسببك أُمِرْتُ أن لا أفتح لغيرك لا بشيء آخر، ويجوز أن يكون صلة للفعل، و«أن لا أفتح» بدلًا من الضمير المجرور، أي: أمرت بأن لا أفتح لأحد غيرك. شرح المشكاة (11/ 3633).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: أُمِرْتُ بفتح بابك؛ يعني: أُمِرْتُ بأن أفتح لكَ بابَ الجنة أولُ، ثم لغيرك من الأنبياء والمرسلين.المفاتيح في شرح المصابيح(6/87).
قال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث فيه فضيلة واضحة له -صلى الله عليه وسلم- لما فيه من تعظيمه، وأنه تعالى قد قدَّم الأمر إلى الخازن قبل مجيء محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يفتحَ له، ولا يفتح لأحد قبله، وأنه أول من يفتح له، كما أنه أول من تنشق عنه الأرض، كما أنه أول شافع ومشفّع. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 187).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قد مضى هذا الحديث، والكلام عليه؛ إلا أنَّ فيه ما يُنَبِّه على معنى: منع موسى في الرؤية؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إذا كان لا يفتح باب الجنة لأحد قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه يعرف من هذا: أنَّ نظر الله -عز وجل- أولى أن لا يبدأ به لأحد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ النظر إلى الله -عز وجل- لحظة واحدة، أفضل من الجنة كلها وأشرف. الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 391).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وقد تقدَّم حديث أنس، ورواه الطبراني بزيادة فيه قال: «فيقوم الخازن، فيقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك»، وذلك أنَّ قيامه إليه -صلى الله عليه وسلم- خاصة إظهارًا لمزيته ورتبته، ولا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته، وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله في خدمة عبده ورسوله، حتى مشى إليه، وفتح له الباب. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 110).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد رأيتُ لبعض من نصر الغنى من الشارحين -وهو أبو القاسم بن أبى صفرة- أنه لا فضيلة في السبق إلى الجنة المذكورة في هذا الحديث، وإنما الفضيلة في درجاتها، واحتج بدخول هؤلاء وغيرهم ممن جاء في الحديث الجنة والنبي بعد في الشفاعة، قال: ولا بشر أفضل من محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سبقه هؤلاء بدخول الجنة، قال: وكذلك من ذكر من المؤمنين والشهداء وغيرهم ممن يشفع.
قال القاضي: وهذا مما لا أساعده عليه؛ لأنه لم يرد نص بسبقهم للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في دخول الجنة، بل في نص الحديث: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أول من يفتح له باب الجنة، وأنَّ الخازن يقول له: «بذلك أُمِرْتُ ألا أفتح لأحدٍ قبلك»؛ فأين هذا مما قاله؟
وقد يجمع بين هذا وبين ما جاء فيمن ينطلق به إلى الجنة في الموقف، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الشفاعة وغير ذلك، مما جاء في الحديث أن يكون النبي -صلَّى اللَّه عليه وسلم- (عليهم) يدخلهم، ويستفتح لهم، ويدخل معهم، ثم يرجع إلى شفاعته، وهو في ذلك في الجنة، كما جاء في الحديث: «أَدخِل الجنة من أمتك من الباب الأيمن من لا حساب عليه»؛ فانظر كيف جاء أدخلهم مع أن ما فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلَّم- من لذة الحظوة وبلوغ الأمل في الشفاعة، والقُرب من الله تعالى، والنظر إليه؛ ألذّ من كُل نعيم.
ويحتمل: أن هؤلاء السابقين إلى الجنة ينعمون في أفْنِيَتِها وظلالها، ويتلذّذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- الجنة بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم، -والله أعلم-. إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 527-528).


ابلاغ عن خطا