خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أبْشِروا أبْشِروا، أليس تَشْهَدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟» قالوا: نعم، قال: «فإنَّ هذا القُرآن سَبَبٌ طَرَفُه بِيَد الله، وطَرَفُه بأيْدِيكم، فَتمسَّكوا به؛ فإنَّكم لن تَضِلوا، ولن تَهْلِكوا بعده أبدًا».
رواه ابن حبان برقم (122) واللفظ له، والبيهقي في الشُّعب برقم (1792)، والطبراني في الكبير برقم: (491)، وابن أبي شيبة برقم: (30006)، من حديث أبي شريح الخزاعي -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم: (713)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (38).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أبْشِروا»:
البَشارة: كُل خبر صدق تتغير به بَشْرةُ الوجه، ويستعمل في الخير والشر، وفي الخير أغلب. التعريفات، للجرجاني (ص: 45).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
البُشرى: خبر بما يَسُر، وسُميت بذلك لأنها تُظهر السرورَ في بَشرة المبَشَّر، وأصله في الخير، وقد يقال في الشّر توسعًا، كما قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آل عمران: 21. المفهم(6/ 447).
«سبب»:
السبب: هو الحَبْلُ الذي يُتَوصَّل به إلى الماء، ثم اسْتُعِير لكل ما يُتَوصَّل به إلى شيء، كقوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب} البقرة: 166، أي: الوصْل والـمَودَّات. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(2/329).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
السبب: الحَبْلُ. والسبب أيضًا: كل شيء يتوصل به إلى غيره. الصحاح تاج اللغة، للجوهري (1/ 145).
«طرَفه»:
الطَرَفُ، بالتحريك: الناحية من النواحي، والطائِفةُ من الشيء. الصحاح، للجوهري(4/ 1393).
وقال الرّاغب -رحمه الله-:
طَرَفُ الشيءِ: جانبُهُ، ويُستعمل في الأجسام والأوقات وغيرهما. قال تعالى: {فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ} طه: 130. المفردات(ص: 517).
شرح الحديث
قوله: «أبْشِروا أبْشِروا»:
قال ابن بطال-رحمه الله-:
«أبْشِروا» أي: بالأجر والثواب على العمل.شرح صحيح البخاري (1/96).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: افرَحُوا ولا تَحْزَنُوا؛ فإن الله تعالى كريمٌ يرضى عنكم بأداء فرائضه، ويعطيكم الثوابَ العظيمَ بالعملِ القليل. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 280).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هكذا ينبغي للإنسان أن يستعمل البُشرى لإخوانه ما استطاع، ولكن أحيانًا يكون الإنذار خيرًا لأخيه المسلم، فقد يكون أخوك المسلم في جانب تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم، فيكون من المصلحة أن تُنذره وتخوِّفه، فالإنسان ينبغي له أن يستعمل الحكمة، ولكن يُغلِّب جانب البشري. شرح رياض الصالحين (2/ 226).
قوله: «أليس تَشْهَدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قالوا: نعم»:
قال ابن تيمية -رحمه الله-:
التوحيد الذي بعث الله به رسله هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وذلك يتضمن التوحيد بالقول والاعتقاد وبالإرادة والقصد. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية. (4/ 623).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الأصل في الشهادة ما شُوْهِدَ، فإذا كمل اليقين عُبِّر عنه بالشهادة.فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/154).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
فالشهادة هنا العلم والنطق باللسان؛ لأن الشاهد مخبر عن علم، وهذا المقام لا يكفي فيه مجرد الإخبار، بل لا بد من علم وإخبار وقبول وإقرار وإذعان؛ أي: انقياد. مجموع الفتاوى (9/ 122).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، فشهادة أن لا إله إلا الله أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله -عزَّ وجلَّ-. مجموع الفتاوى (6/66).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
معنى شهادة أن لا إله إلا لله: أن تشهد عن علم ويقين وصدق أنه لا معبود حق إلا الله، وأن ما عبده الناس من دون الله كله باطل.فتاوى نور على الدرب (1/49).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
أما معنى شهادة أن محمدًا رسول الله: فهو الإقرار باللسان، والإيمان بالقلب، بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله -عزَّ وجلَّ- إلى جميع الخلق من الجن والإنس، كما قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}الأعراف:158، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الفرقان:1، ومقتضى هذه الشهادة: أن تصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وألا تعبد الله إلا بما شرع، ومقتضى هذه الشهادة أيضًا: ألا تعتقد أن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقًا من الربوبية وتصريف الكون، أو حقًا في العبادة، بل هو -صلى الله عليه وسلم- عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا من النفع والضر إلا ما شاء الله، كما قال الله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}الأنعام:50.فقه العبادات (ص: 21).
قوله: «فإنَّ هذا القُرآن سَبَبٌ»:
قال الخادمي -رحمه الله-:
«إنَّ هذا القرآن» كون المسند إليه اسم إشارة؛ لتعظيمه، والمناسِب هو الكلام اللفظي الذي يبحث عنه الأصول، لا الكلام النفسي الذي يذكر في علم الكلام؛ إذ مدار استخراج الأحكام هو الأول...
ويمكن أنْ يُشبَّه القرآن بالحبل الممدود منه تعالى إلى العباد، استعارة مكنيَّة، وذِكْر الطَّرَف له استعارة تخيلية، قرينة للمكْنِيَّة.
حاصله: أنَّ مقصود الكل هو الوصلة إلى الله تعالى، والخلق في طريقه كالعميان، فإن أخذوا وتمسكوا بالحبل يصلوا إليه، وإن تركوا ضلوا عن طريقه، وسقطوا في مهاوي المهالك، فإن قيل: ظاهر هذا الحديث يدل على اختصاص الدليل الشرعي بالكتاب.
قلنا: قالوا: السُّنة والإجماع في الحقيقة راجعان إلى الكتاب، كما سبق الإشارة إليه، فاعلمه.
ثم إنه يمكن أن يُستشار من هذا الحديث: التمسك والربط بحسب تلاوته. بريقة محمودية (1/ 40-41).
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «سَبَبٌ» أي: حَبْلٌ يُرْتَقى به. فيض القدير (7/12).
قوله: «طَرَفُه بِيد الله، وطرفُه بأيديكم»
قال المناوي -رحمه الله-:
القرآن حبل الله المتين طرفه بيد الله وطرفه الآخر بيد المؤمن، فمن استمسك به فتعلم وعَمل وعلّم مخلصًا لله متبعًا لهدي كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لم يضل أبدًا حتى يلقى الله، فهذه بشارة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن حفظ كتاب الله وعمل به نسأل الله أن يجعلنا منهم. فيض القدير(7/ 12).
قوله: «فَتمسَّكوا به؛ فإنَّكم لن تَضِلوا، ولن تَهْلِكوا بعده أبدًا»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
إمساك الشيء التعلق به وحفظه، قال الله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الحج: 65 ...،
ومعنى التمسك بالقرآن: العمل بما فيه، وهو الائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه. شرح المشكاة(12/ 3909).
وقال الخادمي -رحمه الله-:
«فتمسَّكوا به» بالعمل بمضمونه، والمداومة على أحكامه، والإتعاب والتكلَّف في استحصال مواجبه.
ثم أشار إلى عِلته أو فائدته لزيادة اهتمامه، وكمال قوة إحكام أحكامه، فقال
«فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا» يعني: إن فعلتم ذلك لم تكونوا في خطأ وحيرة في الدنيا، ولن تكونوا في عقوبة وحسرة في الآخرة، بل تكونوا في توفيق وهداية وثواب ونعمة، وجْهُ التأكيدين للحمل على المسارعة في أمر التمسك.
«بعده» أي: بعد التمسك بالقرآن، فإنه كافٍ في الوصول إلى كل المآرب، والخلاص عن كل المهالك.
«أبدًا» في أزمنة غير متناهية، أو في الدنيا والآخرة؛ لأن القرآن جامعٌ مَجامع أحكام المبدأ والمعاد. بريقة محمودية (1/ 40-41).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فَتمسَّكوا به» أي: لأنه يُتَوصَّل به إلى الخروج من الفتن، والبُعْد عن الضَّلال والكفر، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل* وَمَا هُوَ بِالْهَزْل} الطارق: 13-14. فيض القدير(7/12).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
وهذا حق بلا شك، فإن مَن تمسك بالقرآن فإنه لا يَضِل، وأمَّا من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله فهو الضال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} طه:123-124.
والمراد أيضًا السنَّة؛ لأن السنَّة موضِّحة للقرآن وشارحة له، وهي وحي ثَانٍ. شرح صحيح ابن حبان(6/ 11).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فالتمسك بكتاب الله يوجب التمسك بكل ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الإفصاح عن معاني الصحاح. لابن هبيرة (8/ 366).
قوله: «لن تضلوا»:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
يدل على أن كتاب الله سبب الهُدى؛ فمن تمسك به لم يضل. الإفصاح عن معاني الصحاح، لابن هبيرة (8/ 366).
وقال المظهري -رحمه الله-:
مَن ترك العمل بآية أو بكلمة مِن القرآن، أو ترك قِراءتها مِن التّكبر والإعراض، يكون كافرًا، ومَن تركه مِن العَجز والضعف والكَسل مع اعتقاد تعظيمه، لا إِثم عليه.المفاتيح في شرح المصابيح(3/ ٨٥).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
الهدي كُل الهدي في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي المبنية لمراد كتاب الله إذا أشكل ظاهره أبانت السُّنة عن باطنه وعن مراد الله منه، والجدال في ما تعتقده الأفئدة من الضلال. الاستذكار (8/ 265 ـ 266).