الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«إنَّ مما أدرك الناس من كلام النُّبُوَّة الأولى، إذا لم تَسْتَحْيِ فاصنع ما شئت»


رواه البخاري برقم: (6120)، من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«النُّبُوَّة الأُولى»:
أي: التي قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم-. فتح الباري لابن حجر (6/523).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: أول نُبُوَّة وهي نُبُوَّة آدم فما بعده. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 135).

«إذا لم تَسْتَحْيِ»:
الاستحياء: ‌ضِدُّ ‌الوقاحة. مقاييس اللغة، لابن فارس (2/ 122).


شرح الحديث


قوله: «إن مما أدرك الناس»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: مما وصل إليهم، وظَفِرُوا به، ولَحِقُوه. مرقاة المفاتيح (8/ 3172).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الناس»: من النَّوْس، وهو التَّحرُّك، أو الأُنْس؛ لأن بعضهم يأنس ببعض. قال ابن الكمال: والإدراك: إحاطة الشيء بكماله، و«الناس» بالرفع في جميع الطرق، كما في الفتح، قال: ويجوز نصبه، أي: مما بلغ الناس. فيض القدير (1/ 43).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: "الناس" المراد به: أهل الجاهلية إلى وقت البعثة، هذه الكلمة العظيمة: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" فتح ذي الجلال والإكرام(6/429).

قوله: «من كلام النُّبُوَّة الأُولى»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
(من) تبعيضية، والمعنى: أن من جملة أخبار أصحاب النُّبَوَّة. «الأُولى»، أي: السابقة من الأنبياء والمرسلين، أضافه إليهم إعلامًا بأنه من نتائج الوحي. مرقاة المفاتيح (8/ 3172).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قوله: «من كلام النُّبُوَّة الأُولى»، أي: مما اتفق عليه الأنبياء، ولم يُنْسَخ في شريعة؛ لأنه أمرٌ أطبقت العقول على حسنه، والشرطية: اسم لـ(أن) بتقدير القول أو خبره بتأويل (من) للبعضية. شرح سنن ابن ماجه للسيوطي (ص: 308).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: إنه مما نَدَبَ إليه الأنبياء، ‌ولم ‌يُنْسَخ ‌فيما ‌نُسِخَ ‌من ‌شرائعهم؛ لأنه أمرٌ أطبقت عليه العقول. فتح الباري (6/ 523).
قال الخطابي -رحمه الله-:
معنى قوله: «النُّبُوَّة الأُولى»: أن الحياء لم يَزَلْ أمرُه ثابتًا، واستعمالُه واجبًا منذ زمان النُّبُوَّة الأُولى، وأنه ما من نبي إلَّا وقد ندب إلى الحياء، وبعث عليه، وأنه لم يُنْسَخ فيما نُسِخَ من شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّلَ منها؛ وذلك أنه أمر قد عُلِمَ صوابُه، وبان فضله، واتفقت العقول على حُسْنه، وما كان هذا صفته لم يَجُزْ عليه النسخ والتبديل. معالم السنن: (4/ 109- 110).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
يُشِير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرنًا بعد قرن، وهذا يدل على أن النُّبُوَّة المتقدمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بين الناس، حتى وصل إلى أول هذه الأمة. جامع العلوم والحكم (ص: 464).
قال ابن الملك -رحمه الله-:
في إضافة الكلام إلى النُّبُوَّة: إشعارٌ بأن هذا الكلامَ من نتائج الوحي، وفي التقييد بـ(الأُولى): إشارةٌ بأن الحياءَ كان مندوبًا إليه في الأولِين، لم يَجْرِ عليه النسخُ من شرائعهم. شرح المصابيح (5/ 341).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لفظ «الأُولى»: ليس في البخاري، بل في سنن أبي داود. سبل السلام (2/ 689).
قال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ويظهر أنَّ الصنعاني لم يطَّلع على هذا الحديث في كتاب الأدب من صحيح البخاري؛ فقال: لفظ: (الأُولى) ليس في البخاري، بل في سنن أبي داود. اهـ، -واللَّه أعلم-. فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام (10/ 295).

قوله: «إذا لم تَسْتَحْيِ...»:
بياء واحدة، وبياءين، فإذا جُزِمَ يجوز أن يبقى بدونها...، وقال الأخفش: تستحي بياء واحدة لغة تميم، وبياءين لغة أهل الحجاز. عمدة القاري للعيني(22/ 165).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
قوله: «إذا لم تَسْتَحْيِ» الجزم إما بحذف إحدى الياءَين إن كان بياءَين، أو بحذف الياء إن كان أصلُه بواحدةٍ. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 154).
قال الشيخ عبد الكريم الخضير-حفظه الله-:
الترجمة: بدون ياء لأكثر الرواة، والحديث بالياء: «تستحي»، أيهما الصواب؟ هما لغتان: لغة تميم بياءٍ واحدة، أصل الفعل بياءٍ واحدة، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي}، ولغة قريش بياءين: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} البقرة: 26، فعلى هذا: إذا دخل الجازم على المضارع حذف الياء التي هي لام الكلمة، فإذا حُذِفت على لغة تميم ما يبقى شيء، هي ياء واحدة، وإذا حُذِفت على لغة قريش حُذِف واحدة وبقي واحدة، فالنص بالياء: «إذا لم تستحي»، والترجمة بدون ياء على لغة تميم في بعض النسخ. شرح الموطأ (25/ 21).
قال الكلاباذي -رحمه الله-:
قوله: «إذا لم تَسْتَحْيِ فاصنع ما شئت» رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- قدر هذه الكلمة، وأجَلَّها، وعظَّم شأنها، فذكر أنها من كلام الأنبياء، وليس مما قالت العرب بحكمتها وفصاحتها، ويجوز أن يكون قوله: «مما أدرك الناس من كلام النُّبُوَّة»، أي: أنها مما أوحى الله تعالى إلى الأنبياء -عليهم السلام- أوَّل ما أوحي، فلم يزل ذلك يجري في النُّبُوَّات حتى أدركها العرب، فهي على أفواهها مما أوحى الله إلى الأنبياء -عليهم السلام-. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار (ص: 267).
قال الخطابي -رحمه الله-:
لفظه لفظ أمرٍ، ومعناه الخبر، يقول: إذا لم يكن لك حياءٌ يمنعك من القبيح صنعت ما شئت، يريد ما تأمرك به النفس، وتحملك عليه مما لا تُحْمَد عاقبته، وحقيقته: من لم يستحِ صنع ما شاء. أعلام الحديث (3/ 2198).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
الحياء: خُلق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. فتح الباري (1/ 52).
قال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «فاصنع ما شئت»، قال الخطابي: الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في الحديث: أن الذي يكفُّ الإنسان عن مُوَاقَعة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعًا بارتكاب كل شر. فتح الباري (535/ 35).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وإنَّما عبَّر عنه بلفظ الأمر للتنبيه على أنَّ الذي يكفّ الإنسان عن مُوَاقَعة الشر هو الحياء، فإذا تركه توفَّرت دواعيه إلى مُوَاقَعة الشر حتَّى صار كأْنه مأمور بارتكاب كل شر. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 359).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خرج بلفظ الأمر على معنى الوعيد والتهدد لمن ترك الحياء، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} فصلت: 40، ولم يطلقهم تعالى على الكفر وفعل المعاصي، بل توعدهم بهذا اللفظ؛ لأنه تعالى قد بيَّن لهم ما يأتون، وما يتركون، وكقوله: «من باع الخمر فَليُشَقِّص الخنازير»؛ فلم يكن في هذا إباحة تشقيص الخنازير، إذ الخمر محرَّم شربها، محظور بيعها.
والوجه الثاني: أن يكون معناه: "اصنع ما شئت" من أمر لا تستحي منه تفعله، والتأويل الأول أولى، وهو الشائع في لسان العرب، ولم يقل أحد في تأويل الآية المذكورة غيره. شرح صحيح البخاري(9/299).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما معناه: فإنه لفظ يقتضي التحذير والذّم على قِلة الحياء، وهو أمر في معنى الخبر؛ فإن من لم يكن له حياء يحجزه عن محارم الله تعالى، فسواء عليه فعل الكبائر منها والصغائر. الاستذكار (2/ 289).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله: «إذا لم تَسْتَحْيِ، فاصنع ما شئت» في معناه قولان:
أحدهما: أنَّه ليس بمعنى الأمر: أنْ يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذَّمِّ والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان:
أحدهما: أنَّه أمرٌ بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن لك حياء، فاعمل ما شئت، فإنَّ الله يُجازيك عليه، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فصلت: 40، وقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الزمر: 15، وقول النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «من باع الخمر، فَليُشَقِّص الخنازير»، يعني: ليقطعها، إما لبيعها، أو لأكلها، وأمثلته متعدِّدة، وهذا اختيارُ جماعة، منهم: أبو العباس ثعلب.
والطريق الثاني: أنَّه أمرٌ، ومعناه: الخبر، والمعنى: أنَّ من لم يستحي صنع ما شاء، فإنَّ المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كُلِّ فحشاء ومنكر، وما يمتنع من مثله من له حياء على حدِّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَذَب عليَّ متعمدًا، فليتبوَّأ مقعده من النارِ»؛ فإنَّ لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبر، وإنَّ من كذب عليه تَبَوَّأَ مقعده من النار، وهذا اختيارُ أبي عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-، وابنِ قتيبة، ومحمدِ بن نصر المروزي وغيرهم.. جامع العلوم والحكم (ص: 465 -470).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: أوجه:
أحدها: إذا لم تستح من العتب، ولم تخش العار، فافعل ما تحدثك به نفسك، حسنًا كان أو قبيحًا، ولفظه أمر، ومعناه توبيخ.
الثاني: أن يُحْمَل الأمر على بابه، تقول: إذا كنت آمنًا في فعلك أن تستحي منه لجريك فيه على الصواب، وليس من الأفعال التي يُستحى منها، فاصنع ما شئت.
الثالث: معناه الوعيد، أي: افعل ما شئت تُجَازَى به، كقوله -عز وجل-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} فصلت: 40.
الرابع: لا يمنعك الحياء من فعل الخير.
الخامس: هو على طريق المبالغة في الذم، أي: تركك الحياء أعظم مما تفعله.
واعلم أن الجملة أعني قوله: «إذا لم تستح»: اسم: (إن) على تقدير القول، أو خبره على تأويل (من) التبعيضية بلفظ البعض، ولفظ: اصنع، أمر بمعنى الخبر، أو أمر تهديدي، أي: اصنع ما شئت، فإن الله يجزيك. عمدة القاري (16/ 64).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقوله: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» يحتمل معنيين:
المعنى الأول: إذا لم تكن ذا حياء صنعت ما تشاء، فيكون الأمر هنا بمعنى الخبر، لأنه لا حياء عنده، يفعل الذي يخل بالمروءة والذي لا يخل.
المعنى الثاني: إذا كان الفعل لا يستحيى منه فاصنعه ولا تبال.
فالأول عائد على الفاعل، والثاني عائد على الفعل.
والمعنى: لا تترك شيئًا إذا كان لا يستحيى منه.
وقوله: «فاصنع ما شئت» أي: افعل، والأمر هنا للإباحة على المعنى الثاني، أي إذا كان الفعل مما لا يستحيى منه فلا حرج.
وهي للذم على المعنى الأول، أي: أنك إذا لم يكن فيك حياء صنعت ما شئت. شرح الأربعين النووية (207).
قال الماوردي -رحمه الله-:
ليس هذا القول إغراء بفعل المعاصي عند قِلّة الحياء كما توهَّمه بعض من جهل معاني الكلام ومواضعات الخطاب، وفي مثل هذا الخبر قول الشاعر:
إذا لم تَخْشَ عاقبة الليالي *** ولم تَسْتَحِ فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العُوْدُ ما بقي اللِّحاءُ. أدب الدنيا والدين (ص: 248).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ولا شك أنهُ -أي: الحياء- مِن الخِصَالِ الشَّريفة، والصِّفاتِ المنِيْفَة، وهو خيرٌ كُلُّهُ، ولكن لا ينبغي أن يغلبه حتى يستحي فيما يَضُرُّه مِن أمرِ دينهِ ودنياه، فإنَّهُ حياءٌ غيرُ محمود، ومنهُ الحياء في التَّفقُّه في الدين، وليسَ حياءً، بل خَوَرًا. المعين على تفهم الأربعين (ص: 261).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: أن الذي لا يستحي يصنع ما يشاء ولا يبالي بالناس، وهذا لا شك أنه ذم، فيستفاد منه: أنه ينبغي للإنسان مراعاة الناس وألا يفعل ما يستحيا منه بينهم...
ومن فوائد الحديث: أن الأمر قد يأتي بمعنى الخبر على أحد الوجهين في تغير الحديث، وهو قوله: "فاصنع ما شئت"، والأمر يأتي بمعنى الخبر في اللغة العربية، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ‌لِلَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌اتَّبِعُوا ‌سَبِيلَنَا ‌وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} العنكبوت: 12. هذا ليس أمراً ولكنة خبر، أي: ونحن نحمل خطاياكم، إلا أنه خبر مؤكد حيث جاء بصيغة الأمر.فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/430).
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: حثٌّ على الحياء، وإبَانة أنه صفة شريفة قديمة. التنوير شرح الجامع الصغير (4/135).


ابلاغ عن خطا