الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«تَزوَّجْتُ امرأةً في عهدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَلَقِيتُ النبي-صلى الله عليه وسلم-، فقال: «يا جابرُ تَزَوَّجْتَ؟» قلتُ: نعم، قال: «بِكْرٌ أم ثَيِّبٌ؟» قلتُ: ثَيِّبٌ، قال: «فهلَّا بكرًا تُلَاعِبُهَا؟» قلتُ: يا رسول اللهِ: إنَّ لي أخواتٍ، فخَشِيتُ أنْ تَدْخُلَ بيني وبينهنَّ، قال: «فذاكَ إذنْ، إنَّ المرأةَ تُنْكَحُ على دينِهَا، ومالها وجمالها، فعليك بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يداكَ».


رواه البخاري برقم: (2967)، ومسلم برقم: (715) واللفظ له، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.  


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«ثيب»:
الثَّيِّب: مَن ليس ببكر، ويقع على الذكر والأنثى، رجل ثيب وامرأة ثيب. النهاية، لابن الأثير (1/ 231).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
و«الثيب» المرأة التي دخل بها الزوج، وكأنها ثابَتْ إلى غالب أحوال كبار النساء. المفهم (4/ 214).

«هلَّا»:
بالتشديد، حرف معناه: الحث والتحضيض. النهاية، لابن الأثير (5/ 272).

«تَربت يداك»:
ترِب الرجل: إذا افتقر، أي: لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدُّعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر به، كما يقولون: قاتله الله، وقيل: معناها: لله درك، وقيل: أراد به المثل ليري المأمور بذلك الجد، وأنه إن خالفه فقد أساء، وقال بعضهم: هو دعاء على الحقيقة. النهاية، لابن الأثير (1/ 184).


شرح الحديث


قوله: «قال: تزوجتُ امرأة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» جابر: «تزوجتُ امرأة» اسمها سهلة بنت مسعود... «في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أي: في زمن حياته. الكوكب الوهاج (16/ 135).
قوله: «فلقيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا جابر تزوجتَ؟ قلتُ: نعم»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلقيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم-» أي: رأيتُه، وكان ذلك اللقاء عند القفول من غزوة تبوك أو غزوة ذات الرقاع، «فقال» لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا جابر تزوجتَ» أي: هل تزوجتَ؟ بتقدير الاستفهام كما هو مصرح به في الرواية الآتية، «قلتُ» له: «نعم» تزوجتُ يا رسول الله. الكوكب الوهاج (16/ 135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فلقيتُ» بكسر القاف، من باب: فَرِحَ يَفْرَحُ، «النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا جابر، تزوجت؟» بتقدير همزة الاستفهام، أي: أتزوجتَ؟ وفي رواية للنسائي: «يا جابر، هل أصبتَ امرأة بعدي...»، وفي رواية الشعبي، عن جابر الآتية: قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فلما أقبلنا تعجلتُ على بعير لي قطوف، فلحقني راكب خلفي، فنخس بعيري بِعَنَزَةٍ معه، فانطلق بعيري، كأجود ما أنت راءٍ من الإبل، فالتفتُّ، فإذا أنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «ما يعجلك يا جابر؟»، قلتُ: يا رسول الله، كنتُ حديث عهد بعرس. البحر المحيط الثجاج (25/ 801).

قوله: «تزوجتَ؟»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«قال تزوجتَ؟» بحذف همزة الاستفهام وهي مقدرة، «قلتُ: نعم» تزوجتُ. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/ 35).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قال: تزوجتَ» أي: تحقق زواجك، «قلتُ: نعم». مرقاة المفاتيح (5/ 2046).

قوله: قال: «بِكْرٌ أم ثَيِّب؟ قلتُ: ثَيِّب»:
قال العظيم آبادي -رحمه الله-:
بحذف همزة الاستفهام أي: أَهي ‌بكرٌ ‌أَمْ ‌ثيِّبٌ. وفي بعض النُّسخ بالنصب فيهما أي: أتزوجت بكرًا أم ثيبًا (فقلت ثيبًا) أي: تزوجت ثيبًا وفي بعض النُّسخ بالرفع أي: هي ثيبٌ.عون المعبود(6/٣١).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
(في لفظ) «قال» تزوجتَ «بكرًا أَم» تزوجتَ «ثيبًا؟» بالمثلثة، وقد تطلق على المبالغة وإن كانت بكرًا مجازًا واتساعًا، والمراد هنا: العذراء، ولأبي ذر: «أبكرًا؟» بهمزة الاستفهام المقدرة في السابق.إرشاد الساري (4/ 35).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
(في لفظ) قال أبو البقاء: قوله: «أبكرًا؟» تقديره: أتزوجت بكرًا؟ وقوله: «بل ثيب» يروونه بالرفع، ووجهه: بل هي ثيب، أو بل زوجتي ثيب، ولو نصب لجاز وكان أحسن.
قلتُ: وكذا هو بالنصب في أكثر الطرق. عقود الزبرجد(1/ 274).

قوله: «قال: «فهلّا بكرًا تلاعبها؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فهلا» تزوجتَ «بكرًا» توبيخ له على تزوجه ثيبًا، وقوله: «تلاعبها» وتلاعبك، تعليل لتزوج البكر، أي: لأنك تلاعبها وتلاعبك؛ لما فيها من الألفة التامة، فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالزوج الأول فلم تكن محبتها كاملة بخلاف البكر. الكوكب الوهاج (16/ 135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قال: فهلَّا» بفتح الهاء وتشديد اللام: أداة تحضيض، ولا يليها إلا الفعل غالبًا، نحو: هلا أكرمتَ زيدًا، وقد يليها اسم معمول لفعل محذوف، كقول الشاعر:
هلا التقدم والقلوب صحاح
أي: هلَّا وجد التقدم، وكقوله هنا: «بكرًا تلاعبها؟» أي: هلَّا تزوجتَ بكرًا، وفي رواية عمرو بن دينار الآتية: «فهلَّا جارية»، وقوله: «تلاعبها»، وفي رواية عمرو الآتية: «تلاعبها، وتلاعبك، وتضاحكها، وتضاحكك»، وهو من الملاعبة، تعليل للترغيب في البكر، سواء كانت الجملة مستأنفة، كما هو الظاهر، أو صفة لـ«بكر»، أي: ليكون بينكما كمال التألف والتأنس؛ فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالسابق، وقوله: «وتضاحكها، وتضاحكك» مما يؤيد أن «تلاعبها» من اللعب، ووقع عند الطبراني من حديث كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: ...، فذكر نحو حديث جابر -رضي الله عنه-، وقال فيه: «وتعضها، وتعضك»، وفي رواية: «تداعبها وتداعبك» بالدال المهملة بدل اللام، من المداعبة، وهو المزح، ووقع في رواية لأبي عبيدة: «تذاعبها، وتذاعبك» بالذال المعجمة بدل اللام.
ووقع في رواية محارب المتقدمة بلفظ: «ما لك وللعذارى ولعابها»، وهو بكسر اللام، بمعنى: الملاعبة. البحر المحيط الثجاج (25/ 802).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «فهلَّا بكرًا» وذلك أنه اختار له الأجود والأفضل؛ ولأن أصلح ما قصد به في التزويج أن يلائم بين القرينين المتجانسين بعد حصول الدين أن ينكح الشاب الشابة، والكهل الكهلة، والحسيب الحسيبة، وهذا يدل أن جابرًا كان شابًّا.
وفي الحديث: دليل على جواز ملاعبة الرجل المرأة، والمرأة الرجل؛ لأن في ذلك ألفة وغرس محبة.
وفيه أيضًا: أنه لما سمع جابر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر الأصلح، وكان عنده من العذر ما تنكب الأصلح لأجله، وهو أراد به امرأة تقوم بمصالح البنات. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 269).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فهلَّا جارية تلاعبها، وتلاعبك» يدلُّ على تفضيل نكاح الأبكار، كما قال في الحديث الآخر: «فإنهنَّ أطيب أفواهًا، وأنتَقُ أرحامًا (أي: أكثر أولادًا)».
و«تلاعبها» من اللعب، بدليل قوله: «وتضاحكها»، وفي كتاب أبي عبيد: «تداعبها وتداعبك»، وقوله في الرواية الأخرى: «أين أنت من العذارى ولِعابها؟» بكسر اللام هنا لا غير، وهو مصدر لاعب، من الملاعبة، كما يقال: قِتالًا؛ من: قَاتَل، يقاتل، وقد رواه أبو ذر من طريق المستملي: «لُعَابها» بالضم؛ يعني به: ريقها عند التقبيل، وفيه بُعدٌ، والصواب: الأول. المفهم (4/ 214).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وقع في رواية المستملي بضم اللام (لُعابها) ، والمراد به: الريق، وفيه: إشارة إلى مصِّ لسانها، ورشف شفتيها؛ وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل، وليس هو ببعيد، كما قال القرطبي. فتح الباري (9/ 122).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وهذا يدل على أن تزويج البِكر أولى، وأن الملاعبة مع الزوجة مندوب إليها. شرح المصابيح (3/ 542).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الملاعبة: مفاعلة من الجانبين، من اللعب، والمقصود: اللعب المباح، وما يقع بين الزوجين من المداعبة، يؤيد هذا المعنى رواية: «وتضاحكها وتضاحكك»، وعند الطبراني: «وتعضها وتعضك»، وليس شرطًا أن يكون الزوج البادئ بالملاعبة والمضاحكة، وإن كان هذا هو الغالب والشأن، لما جبلت عليه الفتاة من الحياء والخجل؛ ولذا جاء في الرواية السابعة بلفظ: «وتضاحكك وتضاحكها وتلاعبك وتلاعبها» على غير الغالب. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/ 36).

قوله: «قلتُ: يا رسول الله: إن لي أخوات، فخشيتُ أن تدخل بيني وبينهن»:
قال السندي- رحمه الله-:
«أن تَدخل» أي: البكر لصِغرها وخفة عقلِها (بيني وبينهن) فتورث الفتن وتؤدي إلى الفراق (فذاك) الذي فعلت من أخذ الثيب أحسن وأولى أو خير (إذا) أي إذا كان لهذا الغرض بتلك النية فإن الدّين خير من لذة الدنيا. حاشية السندي على سنن النسائي (6/ ٦٥)
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قلتُ» له -صلى الله عليه وسلم- اعتذارًا عن تزوج الثيب: «يا رسول الله، إن لي أخوات» سبعًا أو تسعًا، «فخشيتُ» أي: خفتُ «أن تدخل» بكر خَرقاء لا تعرف القيام بمصالحهن «بيني وبينهن» أي: وبين أخواتي فتفرّق بيننا. الكوكب الوهاج (16/ 135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قلتُ: يا رسول الله، إن لي أخوات» قال في "الفتح": لم يعرف أسماء أخوات جابر -رضي الله عنه-
«فخشيتُ» بكسر الشين المعجمة، من باب رضي يرضى، «أن تدخل» بفتح أوله، وضم ثالثه: من الدخول، ويحتمل أن يكون بضم أوله، وكسر ثالثه: من الإدخال، «بيني وبينهن» أي: تثير بيني وبينهن العداوة والبغضاء...، وفي رواية وهب بن كيسان، عن جابر -رضي الله عنه- الآتية: «قلتُ: إن لي أخوات، فأحببتُ أن أتزوج امرأة تجمعهن، وتمشطهن، وتقوم عليهن» أي: وتقوم في غير ذلك من مصالحهن، وهو من العام بعد الخاص، وفي رواية عمرو بن دينار: «إن عبد الله هلك، وترك تسع بنات أو سبع، وإني كرهتُ أن آتيهن، أو أجيئهن بمثلهن، فأحببتُ أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن»، قال: «فبارك الله لك، أو: قال خيرًا».
وفي رواية للبخاري في المغازي: «وترك تسع بنات، كنَّ لي تسع أخوات، فكرهتُ أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن»، قال: «أصبتَ»، وفي رواية: «فأردتُ أن أنكح امرأة قد جربَتْ خلا منها (أي: كبرت وذهب معظم عمرها)»، قال: «فذاك». البحر المحيط الثجاج (25/ 803-804).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا الحديث يدلُّ على فضل عقل جابر؛ فإنه راعى مصلحة صيانة أخواته، وآثرها على حق نفسه، ونيل لذته؛ ولذلك استحسنه منه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: «فبارك الله لك»، وقال له خيرًا.
وفيه ما يدلُّ على قصد الرجل من الزوجة: القيام له بأمور وبمصالح ليست لازمة لها في الأصل، ولا يُعاب مَن قصد شيئًا من ذلك. المفهم (4/ 215).

قوله: «قال: فذاك إذن»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قال» -صلى الله عليه وسلم-: «فذاك» مبتدأ، خبره محذوف، أي: فذاك حسن، أو أفضل، وقوله: «إذن» هي (إذا) الشرطية، وتنوينها تنوين عوض عن المضاف إليه، وجوابها محذوف، يدل عليه ما تقدم، أي: إذا كان الأمر ما ذكرتَه، فذاك حسن، أي: فما عملتَه حسن. البحر المحيط الثجاج (25/ 803).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فذاك» أي: فتزوجك الثَّيب حسن، «إذن» أي: إذا كانت الحال على ما أخبرتَ من النظر لمصالح أخواتك. الكوكب الوهاج (16/ 135).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فذاك» أي: فذاك إذًا عذر. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 269).

قوله: «إن المرأة تُنكح على دينها ومالها وجمالها»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن المرأة تنكح على دينها» أي: لأجل دينها «و» لأجل «مالها و» لأجل «جمالها». الكوكب الوهاج (16/ 135-136).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «وجمالها» حسن الوجه مطلوب؛ إذ به يحصل التحصن، والطبع لا يكتفي بالدميمة غالبًا «ودينها»، والحث على الدِّين، وأن المرأة لا تنكح لجمالها؛ ليس زجرًا عن رعاية الجمال، بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض مع عدم الدين وقلة الصلاة، ويدل على الالتفات إلى معنى الجمال أنَّ الألفة والمودة تحصل به غالبًا، وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الألفة؛ ولذلك استحب النظر، ومعلوم أن النظر لا يعرف به الخلق والدين والمال، وإنما يعرف به الجمال والقبح. شرح سنن أبي داود (9/ 257).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
فأما قوله: «إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها» أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أباح بهذا القول أن تنكح المرأة على جمالها وعلى مالها؛ إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- عيّن أن ذات الدين أولاهن بالإيثار. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 270).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «تنكح لمالها» قال بعضهم: فيه دليل أن للرجل الاستمتاع بمال الزوجة وأنه يقصد لذلك، وإلا فكانت كالفقيرة، ولم يكن بهذا الكلام فائدة، فإن طابت به نفسها فهو حلال، وإن منعت فله بقدر ما بذل من الصداق، وعلى هذا: اختلفوا في إجبارها على التجهيز بصداقها، فألزمها ذلك مالك ولم يجز لها منه قضاء دين ولا نفقته لغير جهازها، إلا أن تنفق اليسير من الكثير، وقال الكوفيون (الأحناف): لا تجبر على شيء، وهو مالها تفعل فيه ما تشاء. إكمال المعلم (4/ 672).
وقال النووي -رحمه الله-:
الصحيح في معنى هذا الحديث: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين، لا أنَّه أَمَرَ بذلك. شرح مسلم (10/ 51-52).

قوله: «فعليك بذات الدّين ترِبَت يَداك»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
الفاء في قوله: «فعليك» للإفصاح، أي: إذا عرفتَ ما قلتُه لك وأردتَ بيان الأهم لك منها فأقول لك: الزم «بذات الدّين» واظفر بها؛ لأنها خير متاع الدنيا، إن لم تظفر بها «تربت» أي: افتقرت «يداك» والتصقت بالتراب. الكوكب الوهاج (16/ 135-136).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
في حديث جابر: «فعليك بذات الدّين» والمعنى: أن ‌اللائق ‌بذي ‌الدين ‌والمروءة ‌أن ‌يكون ‌الدين ‌مطمح ‌نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل صاحبة الدين الذي هو غاية البغية، وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه رفعه: «لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يُرْدِيْهِنَّ أي: يُهْلِكُهُنَّ، ولا تزوجوهن لأموالهن؛ فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل». فتح الباري (9/ 135).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«بذات الدّين» أي: اخترها وقَرّبها مِن بين سائر النِّساء ولا تنظر إلى غير ذلك.فيض القدير(3/٢٧٠)
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«بذات الدّين»، وفي بعض النسخ: «فاطلب ذات الدين»، أي: اطلبها حتى تفوز بها، وتكون محصلًا بها غاية المطلوب، وفي حديث جابر -رضي الله عنه-: «فعليك بذات الدين». البحر المحيط الثجاج (25/ 796).
وقال الرافعي -رحمه الله:
والدين ها هنا يمكن أنْ يُحمل على الملة والتوحيد، أي: ارغبوا عن نكاح الكتابيات فهو مكروه، والأظهر: حمله على الطاعات والأعمال الصالحة والعِفة التي هي من مواجب الملة، وهذا ما يعنيه الفقهاء بقولهم: إنَّ الدين من خصال الكفاءة. كتاب الأمالي الشارحة لمفردات الفاتحة (215).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ظاهر كلامه (المازري): إباحة النبي -صلى الله عليه وسلم- النكاح للمال والحَسَب وبقية الأوصاف، وهو كما قال، لكنه آثر -عليه السلام- مقصد الدين، وحض عليه وأغرى به، وقال الداودي في معناه: إنما أخبر -عليه السلام- بما يفعله الناس، ليس أنه أمر بذلك، وقد تقدم القول على قوله: «فعليك بذات الدين تربت يداك»، وقول مَن قال: افتقرتَ وتعبتَ إن لم تفعل، وقول مَن قال: معناه: لله درك إن فعلتَ ما أمرتُك به، وغير ذلك من معاني «تربت يداك».
واختلف العلماء في مراعاة الكَفاءة في النكاح، وما هي ؟ فعند مالك: الكفاءة: الدين، والمسلمون بعضهم لبعض أكفاء، والمولى كفؤ للقرشية، وروى مثله عن عمر وابن مسعود وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره: الكفاءة معتبرة في الحال والنسب، فعند أبي حنيفة: قريش كلهم أكفاء، وليس غيرهم من العرب لهم بكفء، وكذلك العرب أكفاء بعضهم لبعض، وليس الموالي لهم بأكفاء، وممن له من الموالي آباء في الإسلام بعضهم لبعض أكفاء، وليس المعتق نفسه بكفء لمن له الآباء في الإسلام.
وقال الشافعي: ليس نكاح غير الكفء بمحرّم فأردّه، وإنما هو حق للمرأة والأولياء، فإن تراضى جميعهم بغير كفء جاز، وقال الثوري: يفرق بين العربية والمولى، ويشدّد في ذلك، وقاله أحمد، وقال الخطابي: الكفاءة في قول أكثر العلماء في أربعة: الدين والنسب والحرية والصناعة، واعتبر بعضهم السلامة من العيوب واليسار.
قال بعض شيوخنا: الكُفَآء في الدين: المتشاكلون كان بينهم تفاضل، وكذلك يكون أيضًا: المراعاة في الحال والنسب والمال، لا أنه يكون بقدر واحد وغير متقارب، بل يكونان ممن ينطلق عليه اسم الشرف واسم الحسب أو المال، وإن كان بعضهم أعلى درجة فيه من بعض، إلا أن يكون إحداهما خاليًا منه بالكلية. إكمال المعلم (4/ 672).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «تربت يداك» أي: لصقتا بالتراب، وهي كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى: الدعاء؛ لكن لا يراد به: حقيقته، وبهذا جزم صاحب العمدة، زاد غيره أن صدور ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق مسلم لا يستجاب لشرطه ذلك على ربه، وحكى ابن العربي أن معناه: استغنت، ورُدَّ بأن المعروف أَتْرَبَ إذا استغنى وتَرِبَ إذا افتقر، ووجه: بأن الغني الناشئ عن المال تراب؛ لأن جميع ما في الدنيا تراب، ولا يخفى بُعْده، وقيل: معناه: ضعف عقلك، وقيل: افتقرت من العلم، وقيل: فيه تقدير شرط، أي: وقع لك ذلك إن لم تفعل، ورجحه ابن العربي، وقيل: معنى افتقرت خابت، وصحَّفّه بعضهم فقاله: بالثاء المثلثة، ووجهه بأن معنى ثربت: تفرقت. فتح الباري (9/135 ـ 135).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «تربت يداك» فإنه قول يحض به، وإن كان مخرجه مخرج الدعاء.
وفيه أيضًا: «أن ذات الدين خيرهن»؛ فإن كانت جامعة للأوصاف، فهي من قرة الأعين؛ وإلا فدينها كافٍ عند ذي الدين. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 270).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
عون المرأة زوجها في ولده من غيرها ليس بواجب عليها، وإنما هو من حسن الصُّحبة، وجميل المعاشرة، ومن سير صالحات النساء وذوات الفضل منهن مع أزواجهن. شرح صحيح البخاري (7/ 545).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفي الحديث: الحث على استحباب الدَّيِّنَة، فهي أولى من الفاسقة، والمسلمة أولى من الكتابية، نعم لو كانت المسلمة تاركة للصلاة، قال الزركشي: ويحتمل أن الذِّمية الكتابية أولى؛ لأن نكاحها مجمع على صحته، وتاركة الصلاة باطل عند قوم بناء على ارتدادها، فإن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها وزوجها وأزرت بزوجها، فإن سلك فيها سبيل الغيرة والحمية لم يزل في بلاء ومحنة، وإن سلك سبيل التهاون كان نقصًا في دينه، وإنما بالغ في الحث على الدين؛ لأنها حينئذٍ تكون عونًا له على الدين، وإن لم تكن متدينة كانت شاغلة عن الدين ومشوشة له؛ إذ يأمرها بالصلاة فلا تطيع، أو تطيع في حضوره دون غيبته.شرح سنن أبي داود (9/ 258).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه دليل على استحباب نكاح الأبكار إلا لمقتضٍ لنكاح الثيب كما وقع لجابر؛ فإنه قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال له ذلك: هلك أبي وترك سبع بنات أو تسع بنات فتزوجتُ ثيبًا كرهتُ أن أجيئهن بمثلهن؛ فقال: «بارك الله لك» هكذا في البخاري في النفقات، وفي رواية له ذكرها في المغازي من صحيحه: «كن لي تسع أخوات فكرهتُ أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن، قال: أصبتَ». نيل الأوطار (6/ 126).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«تربت يداك» الجملة جواب شرط مقدر، أي: إن خالفت ما أمرتُك به افتقرتَ، يقال: ترب الرجل إذا افتقر، وأصله: التصقت يداه بالتراب، ويلزمه الفقر، فالجملة خبرية لفظًا ومعنى، وقيل: هي خبرية لفظًا طلبية دعائية معنى، لكنها لا يراد بها حقيقة الدعاء، بل القصد منها الحث على امتثال الأمر الذي قبلها، وللعرب كلمات توسعوا فيها، حتى أخرجوها عن حقيقتها؛ لإرادة الإنكار، أو التعجب، أو التعظيم أو الحث على الشيء كما هنا. [فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/ 36)
.
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: فيه جواز نكاح الثَّيِّبَات للشّبَّان إذا كان ذلك لمعنى، كالمعنى الذي قصد له جابر من سبب أخواته؛ وذلك أن يكون للناكح بنات أو أخوات غير بالغات يحتجن إلى قيّم ومتعهد.
وفيه: أن نكاح الأبكار للشّبَّان أولى؛ لقوله -عليه السلام-: «فهلا جارية».
وفيه: سؤال الإمام رجاله عن أحوالهم في نكاحهم ومفاوضتهم في ذلك.
وفيه: أن ملاعبة الأهل مستحبة؛ لأن ذلك يحبب الزوجين بعضهما لبعض، ويخفف المؤنة بينهما، ويرفع حياء المرأة عما يحتاج إليه الرجل في مباعلتها، قال الله تعالى في نساء الجنة: {عُرُبًا أَتْرَابًا} الواقعة: 37، والعروب المتحببة إلى زوجها، ويقال: العاشقة له، ويقال: الحسنة التبعل. شرح صحيح البخاري (7/ 171-172).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال المهلب: في هذا ‌الحديث ‌دليل ‌على ‌أن ‌للزوج ‌الاستمتاع بمال الزوجة، فإن طابت نفسها بذلك حلّ له، وإلا فله من ذلك قدر ما بذل لها من الصداق، وتُعُقِّبَ بأن هذا التفصيل ليس في الحديث، ولم ينحصر قصد نكاح المرأة لأجل مالها في استمتاع الزوج، بل قد يقصد تزويج ذات الغنى لما عساه يحصل له منها من ولد؛ فيعود إليه ذلك المال بطريق الإرث إن وقع، أو لكونها تستغني بمالها عن كثرة مطالبته بما يحتاج إليه النساء ونحو ذلك، وأعجب منه: استدلال بعض المالكية به على أن للرجل أن يحجر على امرأته في مالها، قال: لأنه إنما تزوج لأجل المال فليس لها تفويته عليه، ولا يخفى وجه الرد عليه -والله أعلم-. فتح الباري (9/ 136).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
1- منها: بيان استحباب نكاح ذوات الدين.
2- ومنها: الحث على مصاحبة أهل الدين في كل شيء؛ لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم، وبركات أنفاسهم، وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم، قال الله تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام-: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} الكهف: 66، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} الآية الكهف: 28...
3- ومنها: أن النسائي -رحمه الله- استنبط منه كراهية تزويج الزناة، ووجه الاستدلال به: أن فيه الأمر بنكاح ذات الدين، والأمر بالشيء نهي عن ضده، والزانية من أشر الأضداد لذات الدين، فيكون نكاحها منهيًّا عنه، فتأمل -والله تعالى أعلم-.
4- ومنها: أنه لا ينبغي للإنسان أن يستدل بالكثرة على كون الشيء صوابًا، فيتأسى بأكثر الناس، ففي هذا الحديث أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن ثلاثة أصناف من الناس مخطئون في اختيارهم لصفات الزوجية، وأن صنفًا واحدًا هو المصيب، وقد نبَّهَ الله -عزَّ وجلَّ- على ذلك بقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} الآية الأنعام: 116.
5- ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن ينظر في عواقب الأمور، ومستقبلها، لا في عاجلها، فإن الزوجة الصالحة في دينها هي التي تكون بها السعادة في المستقبل، فإنها تحفظه في نفسها، وتحفظه في بيته، وتحفظه في ماله، وتقوم بتربية أولاده، وهي القرين الصالح النافع في الدنيا والآخرة، بخلاف ذات الجمال والمال والحسب؛ فإن السعادة بها قاصرة غير مستمرة، بل كثيرًا ما يكون ذلك لها غرورًا، يرديها ويردي مَن تعلق بها.
6- ومنها: أنه لا يحرم على الشخص أن يرغب في نكاح ذات الحسب والجمال والمال، وإنما يُعَابُ عليه إهمال أهم الصفات، وهو الدين.
7- ومنها: أن الإتيان بالكلمات التي ظاهرها الدعاء، أو مدلولها الذم والتقبيح؛ مما جاء على ألسنة العرب، أو على ألسنة الناس، لا يوقِع في الإثم، إذا لم يقصد حقيقتها، وإنما استعملها على ما جرت به العادة، مثل: "تربت يداك"، و"ثكلتك أمك"، و"ويل أمه"، ونحو ذلك -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (25/ 798-799).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1- الترغيب في نكاح المرأة المحافظة على دينها.
2- أنه لا ينبغي للرجل أن يكون كل حرصه أن يتزوج المرأة الجميلة ولو لم تكن متدينة.
3- حرص الإسلام على بناء الأسرة الصالحة. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (6/ 195).


ابلاغ عن خطا