الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«بادِرُوا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المظلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجلُ مُؤمِنًا، ويُمْسِي كافرًا، أو يُمْسِي مُؤْمِنًا، ويُصْبِحُ كافرًا، يَبِيعُ دينَهُ بِعَرَضٍ مِن الدُّنيا»


رواه مسلم برقم: (118)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وفي رواية عند الترمذي برقم: (2197) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: «تكون بين يدي الساعة فِتنٌ ‌كقطعِ ‌الليل ‌المظلم...».


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«بادِرُوا»:
قال ابن فارس -رحمه الله-:
بدر: الباء والدار والراء، أصلان: أحدهما: كمال الشيء وامتلاؤه، والآخر: الإسراع إلى الشيء. معجم مقاييس اللغة(1/ 202).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فالمبادرة ‌المسارعة ‌بإدراك ‌الشيء ‌قبل ‌فواته. أو بدفعه قبل وقوعه.الكاشف عن حقائق السنن(11/ ٣٤٠٦)

«فِتــنٌ»:
جِمَاعُ معنى الفتنةِ في كلام العربِ: الابتلاءُ والامتحانُ، وأصلها: مأخوذٌ من قولك: فَتَنْتُ الفِضّةَ والذَّهَبَ إذا أذبتهما بالنار؛ ليتميز الرَّدِيء من الجَيِّد. تهذيب اللغة، للأزهري (14/ 211).

«قِطَعٌ»:
القِطْع بالكسر: ظُلمة آخر الليل، ومنه قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} هود: 81. الصحاح، الجوهري (3/ 1267).
وقال ابن فارس -رحمه الله-:
والقِطْعُ -بِكَسْرِ القَافِ-: الطَّائفةُ مِن الليل، كأَنَّهُ قِطْعَةٌ. مقاييس اللغة (5/ 101).

«بعَرَض»:
العَرَض: ما نيل من الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر. المحكم، لابن سيده (1/ 396).
وقال الرازي –رحمه الله-:
وعَرَض الدُّنيا أيضًا: ما كان من مال قلَّ أو كثر. مختار الصحاح (ص: 205).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
العرض -بِفَتْح الرَّاء- قال هو ما يجمع من مَتَاع الدنيا، يُرِيد كَثرة المَال؛ وسمي مَتَاع الدُّنيا عرضًا لزواله. مشارق الأنوار (2/ 73).


شرح الحديث


قوله: «‌بادروا ‌بالأعمال ‌فتنًا كقِطَع الليل المظلم»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «‌بادروا ‌بالأعمال فتنًا» أي: سابقوا بالأعمال الصالحة هجوم المحن المانعة منها، السالبة لشرطها المصحح لها الإيمان؛ كما قال: «يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا»، ولا إحالة ولا بُعْد في حمل هذا الحديث على ظاهره؛ لأن المحن والشدائد إذا توالت على القلوب أفسدتها بغلبتها عليها، وبما تؤثر فيها من القسوة. المفهم (1/ 326).
وقال النووي -رحمه الله-:
معنى الحديث: الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المُقْمِر. شرح مسلم (2/ 133).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«بادروا» أي: أسرعوا وسابقوا، «القطع» جمع قطعة، وهي بعض الشيء؛ يعني: ستأتي فتن شديدة كالليل المظلم لا يعرف أحد سببها، ولا يعرف طريق الخلاص منها، فتعجلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيئها، فإنكم لا تطيقون الأعمال الصالحة إذا أتتكم الفتن. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 351).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «‌بادروا ‌بالأعمال» أي: سابقوا وقوع الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتموا بها قبل نزولها، كما روي: «‌بادروا ‌بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا»؛ فالمبادرة المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته، أو بدفعه قبل وقوعه. الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3406).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بادروا» أي: سابقوا وسارعوا، «بالأعمال» أي: بالاشتغال بالأعمال الصالحة، «فتنًا» أي: وقوع فتن «كقطع الليل المظلم» -بكسر القاف وفتح الطاء- جمع قطعة، والمعنى: كقطع من الليل المظلم؛ لفرط سوادها وظلمتها، وعدم تبين الصلاح والفساد فيها، وفيه إيماء إلى أن أهل هذه الفتن ما قال تعالى في حقهم: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} يونس: 27، وقد قرأ ابن كثير والكسائي في الآية بسكون الطاء، على أن المراد به: جزء من الليل أو من سواده ويرادفه قطعة، وحاصل المعنى: تعجلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيء الفتن المظلمة من القتل والنهب والاختلاف بين المسلمين في أمر الدنيا والدين، فإنكم لا تطيقون الأعمال على وجه الكمال فيه، والمراد من التشبيه: بيان حال الفتن من حيث إنه بشيع فظيع، ولا يعرف سببها ولا طريق الخلاص منها، فالمبادرة: المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته، أو بدفعه قبل وقوعه. مرقاة المفاتيح (8/ 3383).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «‌بادروا ‌بالأعمال فتنًا» أي: بادروا إلى الاشتغال بالأعمال الصالحة قبل وقوع الفتن المانعة عنه، «كقطع الليل المظلم» من حيث إنها شاعت ولا يعرف سببها، ولا طريق للخلاص منها. لمعات التنقيح (8/ 596).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«بادروا ‌بالأعمال فتنًا» أي: ائتوا بالعمل الصالح وابتدروا إليه قبل ظهور المانع منه من الفتن، فهو قريب من حديث: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». دليل الفالحين (2/ 298).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌بادروا ‌بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم» أي: أنها في التباس بعضها ببعض كجوانب الليل المظلم لا يتميز بعضه عن بعض، أو في إطباقها وعمومها للأوقات كعمومه، أو إيقاعها للناس في الحيرة وعدم الاهتداء أو في كل ذلك، والمعنى: سابقوا بالأعمال الصالحات هذه الفتن، فإنها إذا وقعت كان فيها شغل شاغل عن الأعمال الصالحة. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 525).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«‌بادروا ‌بالأعمال» وبادروا: يعني: أسرعوا إليها؛ والمراد: الأعمال الصالحة؛ والعمل الصالح ما بني على أمرين: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-...
«فتنًا كقطع الليل المظلم» أخبر أنه ستوجد فتن كقطع الليل المظلم -نعوذ بالله-، يعني: أنها مدلهمّة مظلمة؛ لا يرى فيها النور -والعياذ بالله-، ولا يدري الإنسان أين يذهب؟ يكون حائرًا، ما يدري أين المخرج؟ أسأل الله أن يعيذنا من الفتن. شرح رياض الصالحين (2/ 16-18).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فتنًا» أي: أيام فتن، منصوب على المفعولية...ووصف الليل بالمظلم للتأكيد. البحر المحيط الثجاج (3/ 418).
قوله: في رواية للترمذي: «تكون بين يدي الساعة فِتنٌ ‌كقطعِ ‌الليل ‌المظلم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بين يدي الساعة» أي: قدامها من أشراطها.مرقاة المفاتيح (8/ 3395) .
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«بين يدي الساعة» أي: قبل قيام القيامة. شرح المصابيح (5/ 520) .

قوله: «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«يُصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا» يعني: يكفر كثير من المسلمين بالله في تلك الفتن، والفتن التي يكفر المسلم فيها تحتمل احتمالات:
أحدها: أن تكون بين طائفتين مسلمتين حرب، فتستحل كل واحدة من الطائفتين مال الأخرى ودمها بالتعصب والغضب، فيكفرون باستحلالهم أموال المسلمين ودمائهم.
والاحتمال الثاني: أن يغلب الكفار على بلاد المسلمين، ويكون ملوك بلادهم كفارًا، فيأمرون الرعية بالارتداد عن الإسلام إلى الكفر، وربما يرتد المسلم لطلب جاهٍ ومال منهم من غير أن يطلبوا منه الكفر.
والاحتمال الثالث: أن يكون ملوك بلاد المسلمين مسلمين، ولكن يغلب عليهم الظلم والفسق، فيريقون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حق، ويزنون، ويشربون الخمر، ويلبسون الحرير، ويعتقد بعض الناس أنهم على الحق، ويفتيهم بعض علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرمات، وربما يغضب الملك على أحد من الرعية، ويأمر الناس بقتله، أو بأخذ ماله، فيعتقد بعض الناس كون أمره حقًّا، وربما يأمر بصلب السارق، فيعتقد الناس جوازه، فيكفرون به؛ لأن حد السارق القطع لا الصلب. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 351-352).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يصبح الرجل مؤمنًا» أي: موصوفًا بأصل الإيمان أو بكماله «ويمسي كافرًا» أي: حقيقة، أو كافرًا للنعمة، أو مشابهًا للكفرة، أو عاملًا عمل الكافر، «ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا»، وقيل: المعنى: يصبح محرمًا ما حرمه الله ويمسي مستحلًّا إياه وبالعكس، وحاصله: التذبذب في أمر الدين والتتبع لأمر الدنيا، كما بينه بقوله: «يبيع» أي: الرجل أو أحدهم كما في الجامع، «دينه» أي: يتركه «بعَرَض» بفتحتين، أي: يأخذ متاعًا دنيئًا وثمنًا رديئًا. مرقاة المفاتيح (8/ 3383).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا»، ويجوز أن يكون معناه: مؤمنًا لتحريمه دم أخيه وعرضه وماله، وكافرًا لتحليله -واللَّه أعلم-. لمعات التنقيح (8/ 596-597).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«يصبح الرجل مؤمنًا» أي: باقيًا على إيمانه الذي كان عليه، «ويمسي» بضم التحتية فيه وفي: «يصبح»، «كافرًا» يحتمل الكفران بالنعم؛ لما يداخله من المعاصي المبعدة من ساحة الشكر، ويحتمل الكفر الحقيقي...دليل الفالحين (2/ 298).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«يُصبِحُ الرَّجل مؤمنًا، ويُمسِي كافرًا»، ولا إحالةَ ولا بُعدَ في حمل هذا الحديثِ على ظاهره؛ لأنَّ المِحَنَ والشدائد إذا توالَت على القلوب أفسدَتهَا بِغَلَبتها عليها، وبما تُؤَثِّرُ فيها مِنَ القَسوة.
ومقصودُ هذا الحديثِ: الحَضُّ على اغتنامِ الفُرصة، والاِجتهادُ في أعمالِ الخيرِ والبِرِّ عند التمكُّنِ منها، قَبلَ هجومِ الموانع. المفهم (1/ 326).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يصبح الرّجل» أي: جنس الرّجل، «مؤمنًا ويمسي كافرًا» أي: لأنه يأتيه في الفتن ما يزل به قدمه عن صفة الإيمان، والضمير في قوله: «ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا» عائد إلى الرجل باعتبار معناه الجنسي لا أنه رجل بعينه يتفق له ذلك، بل هو إعلام بأنها تتقلب الأحوال بالناس، ولا يثبتون على صفة واحدة، ويحتمل أنه يتفق ذلك لأفراد معينين من الرجال. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 526).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا..»، ليس الليل والنهار مقصودين، بل هما كناية عن سُرعة التحول؛ إذ يمكن أن يكون بين الصبح والظهر، أو بين الظهر والعصر مثلًا، وذكر الرجل ليس للاحتراز فالمرأة كذلك، «يبيع دينه بعَرَض من الدنيا» جملة تعليلية لتحوله إلى الكفر. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 388).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يصبح الرّجل مؤمنًا ويمسي كافرًا..» من أَثر تلك الفتن أنه «يصبح الرجل» وكذا المرأة، أي: يكون الرجل في الصباح «مؤمنًا» عاملًا للأعمال الصالحة، «ويُمسي» أي: ويكون ذلك الرجل الذي أصبح مؤمنًا في مساء ذلك اليوم «كافرًا» أي: مسلوب الإيمان، مُعرضًا عن الأعمال الصالحة؛ لسرعة انقلاب حاله من الصلاح إلى الفساد بسبب تراكم تلك المحن، وغلبتها على قلبه، المفسدة له بما أثرت فيه من القسوة...الكوكب الوهاج (3/ 201).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«يصبح» أي: يدخل في وقت الصباح، يقال: أصبحنا: أي: دخلنا في الصباح، وهو أول النهار، «الرجل» ذكر الرجل ليس للاحتراز عن المرأة، فهي مثله في هذا، ولكن الظاهر -والله أعلم- أن ذلك غالب في الرجال؛ لأن أكثر الفتن تواجههم؛ إذ النساء غالبًا يبتعدن عن مواجهتها بسبب لزومهن البيت غالبًا، «مؤمنًا» أي: متصفًا بأصل الإيمان، أو بكماله «ويمسي» أي: يدخل في المساء، وهو خلاف الصباح «كافرًا» أي: حقيقة، أو كافرًا للنعمة، أو مشابهًا للكفرة، أو عاملًا عمل الكافر. البحر المحيط الثجاج (3/ 419-420).

قوله: «يبيع دينه بعَرَض من الدنيا»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «يبيع دينه بعَرَض من الدنيا» عرض الدنيا: بفتح العين والراء: هو طَمعها وما يُعرض منها، ويدخل فيه جميع المال؛ قاله الهروي.المفهم(1/ 326).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«يبيع دينه بعَرَض» بفتح الراء: أي: متاع وحطام «من الدنيا» استئناف بياني: أي: أن سبب كفره بيعه: أي أخذه العَرَض في مقابلة دينه، بأن يأخذ أو يستحلّ مال أخيه المسلم أو يستحلّ الربا والغشّ أو نحوه مما أجمع على تحريمه، وعلم من الدين بالضرورة. دليل الفالحين (2/ 298).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يبيع دينه بعَرَض من الدنيا»، بفتح الراء أي: متاع؛ ونكّره ووصفه بأنه: «قليل» للإعلام بأنه يتساهل الناس بأمر الدّين ولا يقدرون شيئًا، قال الحسن (البصري): فوالله لقد رأيناهم صورًا ولا عقول، وأجسامًا ولا أحلام، فَرَاش نار وذباب طمع، يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن عَنْز. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 526).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«يبيع دينه بعرض من الدنيا»، لا تظن أن العَرَض من الدنيا هو المال، كل متاع الدنيا عَرَض، سواء مال، أو جاه أو رئاسة، أو نساء، أو غير ذلك، كل ما في الدنيا من متاع فإنه عَرَض، كما قال تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} النساء: 94، فما في الدنيا كله عَرَض.
فهؤلاء الذين يصبحون مؤمنين ويمسون كفارًا، أو يمسون مؤمنين ويصبحون كفارًا، كلهم يبيعون دينهم بعَرَض من الدنيا -نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن-. شرح رياض الصالحين(2/ 20).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
مقصودُ هذا ‌الحديث: ‌الأمرُ ‌بالتمسُّك ‌بالدِّين، ‌والتشدُّدُ فيه عند الفتن، والتحذيرُ مِنَ الفتنِ، ومِنَ الإقبالِ على الدنيا وعلى مَطَامِعِهَا. المفهم(1/٣٢٦)
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الحديث بَيِّن المعنى كله، وفائدة المبادرة بالعمل: إمكانه قبل شغل البال والحشد بالفتن، وقطعها عن العمل. إكمال المعلم (1/ 405).
وقال النووي -رحمه الله-:
وصف -صلى الله عليه وسلم- نوعًا من شدائد تلك الفتن وهو أنه يمسي مؤمنًا ثم يصبح كافرًا أو عكسه شك الراوي وهذا لعظم الفتن ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب. والله أعلم. شرح صحيح مسلم(2/ 133).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: إخبار عن سرعة تغير أحوال الناس في الفتن؛ لكثرة ما يشاهدون من الأهوال العظيمة. شرح سنن أبي داود (17/ 14).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: الحث على مبادرة الفتن بالأعمال، فإن من الفتن ما يعرض للقلوب فتصبح مؤمنة وتمسي كافرة في تلك الفتنة، فتثبط العامل عن عمله، أو بعمله ما يعمل على ارتياب وشك؛ فلا ينفعه عمله، وهذه الفتن قد يكون فيها ما يعم الناس، وقد يكون فيها ما يخص، وأن منها الكلمة الخبيثة؛ التي يقذفها الشيطان على لسان ولي من أولياء الشيطان ليقولها، إما جادًّا أو هازلًا؛ ليسمعها الضعيف القلب فيفتنن بها، الفتنة التي لا يخلص منها إلى يوم القيامة؛ لأن القلوب كثيرة التقلب من رِبْقَة الحق، شديدة التطلع إلى منافذ الضلال، فإذا قذف في روعها شيء من المضللات وجد عندها داء قاتلًا وشرًّا مستعرًا، كالنار التي تقع في الحرَّاق، فينبغي للإنسان أن يكون أشد خوفًا وحذرًا على دينه وإيمانه، متعاهدًا له بالذكر ومدارسة القرآن، وامتثال أمر القرآن بالنظر والتدبر والفكر المؤدي له إلى الحق صباح مساء؛ بل في كل وقت ونفس وساعة. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 164).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
في الحديث: إشارة إلى تتابع الفتن المضلة أواخر الزمان، وكلما انقضى منها فتنة أعقبتها أخرى، وقانا الله من الفتن بمنه وكرمه. دليل الفالحين (2/ 298).
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
يؤخذ من الحديث:
1- أن على المؤمن أن يبادر بفعل الطاعات والاجتناب عن المعاصي ولا يمهل، ولا يؤخر عمل اليوم إلى غد، ولا عمل الساعة إلى ما بعدها؛ فإنه لا يدري متى يموت؟ فإن الساعة تقوم وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها، كذا ورد في الحديث.
وليس المقصود من المبادرة بالأعمال: الإجهاد والمبالغة والتشدد في الدين، فإن الْمُنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، وإنما المقصود: التعجيل بفعل الطاعة الميسورة، فإن خير العمل أدومه وإن قلَّ، ففي الحديث: «سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيئًا من الدُّلْجة»، أي: العمل ليلًا.
2- التحذير من الفتن والابتلاء عمومًا، ومن مقاتلة المسلم للمسلم خصوصًا، فقد شاعت الفتنة في الفتنة الكبرى التي وقعت بين المسلمين.
3- عدم الاغترار بما قدم من صالحات، والحث على مداومة الخوف من الله، فإنما الأعمال بالخواتيم، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع -أو باع- فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع - أو باع- فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها.
4- التمسك بالدين والحرص عليه والاحتياط عند التمتع بعَرَض الدنيا -والله أعلم-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 388- 389).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث): ...
* منها: بيان حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، حيث يحثهم على الإكثار من الطاعات قبل أن تمنعهم الفتن الشاغلة، ويخوفهم من تأخير الطاعات المتيسرة؛ إذ لا يدري العبد ماذا يحدث بعد وقته الذي هو فيه، فما أكثر المرض بعد الصحة، والفقر بعد الغنى! وما أسرع الشيب بعد الشباب، والشغل بعد الفراغ!...
* ومنها: أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع في أمته من الفتن.
* ومنها: أن في حثه -صلى الله عليه وسلم- بالأعمال الصالحة قبل أيام الفتن فوائد:
منها: انتهاز الفرصة قبل فواتها.
ومنها: حصول قوة إيمان العبد بسبب الأعمال الكثيرة، فيستطيع أن يدافع بقوته ما يواجهه من شدائد الفتن؛ ومَن كان ضعيف الإيمان لا يقدر على ذلك، بل تتلاعب به الفتن كما تتلاعب الريح بالخيط المعلق في الهواء.
ومنها: أن مَن اعتاد الأعمال الصالحة إذا حيل بينه وبينها يكتب له ما كان يعمله قبل أن يمنع منه، فقد أخرج البخاري في صحيحه، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»...
* ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يبادر بالأعمال الصالحة، وفعل الحسنات ما وجد إلى ذلك سبيلًا، قبل فوات أوانها، وتغلق أبوابها، فيقع في الندم كما يقع مَن يقول: {يَا حَسْرَتَا} الزمر: 56، أو يقول: لو أن لي عُمْرًا لأكونن من العاملين العابدين، أو يقول: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} المنافقون: 10. البحر المحيط الثجاج (3/ 422).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
هذا الحديث فيه: بيان الحث على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن تأتي العوائق، والصوارف، والفتن التي تصرف، ولا يستطيع المسلم معها العمل، ومن الصوارف والعوائق: ما جاء في الحديث من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «هل تنظرون إلا إلى فقر مُنْسٍ، أو غنى مُطْغٍ، أو مرض مفسد، أو هرم مفند، أو موت مجهز، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر». توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (1/ 225).


ابلاغ عن خطا