«العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمَن تركها فقد كفرَ».
رواه أحمد برقم: (22937)، والترمذي برقم: (2621)، والنسائي برقم: (463)، وابن ماجه برقم: (1079)، من حديث بريدة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4143)، مشكاة المصابيح برقم: (574).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«العهد»:
بمعنى: اليمين، والأمان، والذِّمة، والحفاظ، ورعاية الحُرمة، والوصية، ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني. النهاية، لابن الأثير(3/ 325).
شرح الحديث
قوله: «العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«العهد» أي: الميثاق المؤكد بالإيمان، «الذي بيننا» أي: معشر المسلمين «وبينهم الصلاة». مرقاة المفاتيح (2/ 512).
وقال محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة» يحتمل أن المراد بالعهد: ما تقدم في قول عبادة: كان له عهد عند الله، ويحتمل أن المراد بالعهد هنا: الفرق بيننا وبينهم، والمراد: الكفار بدليل قوله: «فقد كفر»، كما في الحديث الآخر: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة». شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (4/ 1037).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«العهد» يطلق العهد، كما في مختار الصحاح على: الأمان، واليمين، والموثق، والذمة، والحفاظ، والوصية.
والظاهر: أن الأمان هو المناسب هنا، أي: الأمان الذي «بيننا» أهل الإسلام «وبينهم» غير أهل الإسلام، يعني: أن الأمر الذي يكون سببًا لأمن الشخص إذا تمسك به، فلا يجوز التعرض له بشيء، هي «الصلاة» أي: أداؤها. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/ 192).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
الضمير في قوله «وبينهم» راجع إلى المنافقين، وردت به الرواية، ومعناه: أن الصلاة هي الموجبة لحقن دمائهم ومراعاة ذمتهم، فإذا تركوها برئت عنهم الذمة ودخلوا في حكم الكفار، فنرى سفك دمائهم كما نرى سفك دماء مَن لا عهد له من الكفار ولا أمان، أشار إلى أن المانع عن قتل المنافقين هي الصلاة، فإذا ارتفع المانع رجع الحكم إلى أصله، كما أن المانع عن قتل المعاهدين هو العهد؛ فإذا انقضى العهد الذي بيننا وبينهم أو أخلّ به النقض من قبلهم أبيحت لنا دماؤهم، وقيد هذا المعنى قوله -صلى الله عليه وسلم- لما استؤذن في قتل المنافقين: «إلا، إني نُهيت عن قتل المصلين» -والله أعلم-. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 178).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «بيننا وبينهم» أي: وبين المنافقين، هكذا جاء في بعض الروايات، يعني: لا مانع من قتل المنافقين إلا أداؤهم الصلاة، فإذا تركوا الصلاة ارتفع العهد الذي بيننا وبينهم، وصاروا كسائر الكفار فنقاتلهم. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 13).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
الضمير الغائب للمنافقين، شبه الموجِب لإبقائهم وحقن دمائهم بالعهد المقتضي لإبقاء المعاهد والكف عنه، والمعنى: أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم: تشبههم بالمسلمين في حضور صلواتهم ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا وسائر الكفار سواء. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 232).
وقال العراقي -رحمه الله-:
الضمير في قوله: «وبينهم» يعود على الكفار أو المنافقين، معناه: بين المسلمين والكافرين والمنافقين تركُ الصلاة.
وأما رواية أصحاب السنن: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة»؛ فالمراد: أنهم ما داموا يصلون فالعهد الذي بينهم وبين المسلمين من حقن الدم باقٍ؛ ولذلك قال في حديث أم أيمن: «مَن ترك صلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله» رواه أحمد في مسنده، وهو منقطع، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث معاذ ولم يقل: «ورسوله»، وهو كحديث أبي هريرة مرفوعًا: «نُهيت عن قتل المصلين» رواه أبو داود بإسناد ضعيف، ورواه أحمد بإسناد صحيح من حديث رجل من الأنصار أنه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في مجلس فسارَّه يستأذنه في قتل رجل من المنافقين؛ فجهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟» قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أليس يشهد أن محمدًا رسول الله؟» قال: بلى يا رسول الله ولا شهادة له، قال: «أليس يصلي؟» قال: بلى يا رسول الله ولا صلاة له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم»، روى الترمذي بسند صحيح من رواية عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 145- 146).
وقال الطيبي -رحمه الله- معلقًا:
وأقول: يمكن أن يكون الضمير عامًّا في مَن بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كان منافقًا أم لا، يدل عليه الحديث الآخر من هذا الباب، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي الدرداء: «ولا تترك صلاة مكتوبة معتمدًا، فمَن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذّمة». الكاشف عن حقائق السنن (3/ 871).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«العهد الذي بيننا وبينهم» أقول: بين أهل الإسلام، وبين أهل الشرك إقامة الصلاة، فمَن أقامها فهو مسلم، ومَن تركها فلم يقمها فهو مشرك كافر. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 62).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
« العهد الذي بيننا وبينهم» أي: الذي يفرق بين المسلمين والكافرين، ويتميز به هؤلاء عن هؤلاء صورة على الدوام، «الصلاة» وليس هناك عمل على صفتها في إفادة التمييز بين الطائفتين على الدوام. مرعاة المفاتيح (2/ 279).
قوله: «فمَن تركها فقد كفر»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فمَن تركها» أي: الصلاة، «فقد كفر» أي: دخل في حكم الكفار؛ لارتفاع ذلك العهد فيحل سفك دمه.
قال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. شرح المصابيح (1/ 362).
وقال أبو موسى المديني -رحمه الله-:
يعني: المنافقين؛ لأنهم يصلون في الظاهر رياء، فإذا خلوا لا يصلون: أي: ما داموا يصلون في الظاهر فلا أمر لنا معهم، ولا سبيل لنا عليهم، وإذا تركوها في الظاهر كفروا، بحيث يحل لنا دماؤهم وأموالهم ...، وقال قوم: هو لمن تركها جاحدًا، وقيل: هو أن يتركها حتى يخرج وقتها بدلالة قوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} مريم: 59، وهذا لا يحتمل إلا أن يكون تاركًا للصلوات؛ لأنه قال: «الصلاة» بالألف واللام، ألا ترى أنه قال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} مريم: 59، والغَي: وادٍ في جهنم لا يدخله إلا الكفار، وقيل: لا يجوز أن يترك المؤمن الصلاة على كل حال؛ لأن الله تعالى أخبر أن المؤمن يقيم الصلاة، فقال تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} المائدة: 55، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} الحج: 35، وفي النكرة: {وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} الأنعام: 92.
أخبر أن مَن يؤمن بالآخرة يؤمن بها، وهو على صلاته محافظ، فثبت باسم المعرفة والنكرة في صفة المؤمنين، أنهم يقيمون الصلاة ويحافظون عليها، فلم يكن للترك منهم معنى. المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (1/ 227-228).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«فمَن تركها فقد كفر» قيل: هو لمن تركها جاحدًا، وقيل: أراد المنافقين؛ لأنهم يصلون رياء، ولا سبيل عليهم حينئذٍ، ولو تركوها في الظاهر كفروا.
وقيل: أراد بالترك تركها مع الإقرار بوجوبها، أو حتى يخرج وقتها؛ ولذلك ذهب أحمد بن حنبل إلى أنه يكفر بذلك؛ حملًا للحديث على ظاهره، وقال الشافعي: يقتل بتركها ويُصلى عليه ويُدفن مع المسلمين. النهاية (1/ 188).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
ويحتمل المراد بهذا الكفر كفرًا يبيح الدم لا كفرًا يرده إلى ما كان عليه في الابتداء، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه جعل إقامتها من أسباب حقن الدم. شعب الإيمان (3/ 34).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فمَن تركها فقد كفر» أي: أظهر الكفر، وعمل عمل أهل الكفر، فإن المنافق نفاقًا اعتقاديًّا كافر، فلا يقال في حقه: كَفر، قيل: يمكن أن يكون ضمير الغائبين عامًّا فيمَن بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سواء كان منافقًا أو لا، يدل عليه الحديث الأخير من هذا الباب؛ حيث قال لأبي الدرداء: «لا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا، فمَن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة»؛ فالمراد بالمتكلم في «بيننا» هو المعظم نفسه، والكفر مؤول بما سبق. مرقاة المفاتيح (2/ 512).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
والمراد بقوله: «قد كفر» ظهور كفره وإجراء حكم الكفر عليهم، أو لجميع أمة الإجابة وهو الأوفق بقوله: «قد كفر». لمعات التنقيح (2/ 324).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«فمَن تركها فقد كفر» أي: صورة، وتشبه بهم إذ لا يتميز إلا المصلي، وقيل: يخاف عليه أن يؤويه إلى الكفر، وقيل: كَفر، أي: أبيح دمه، وقيل: المراد من تركها جحدًا، وقال أحمد: تارك الصلاة كافر لظاهر الحديث. انتهى.
قلتُ: الراجح في ذلك ما ذهب إليه أحمد؛ لأن ظواهر الأحاديث الواردة بالتكفير تؤيده، لكن المراد كُفر دون كفر، أي: كفر غير الكفر المخرج من الملة -والله تعالى أعلم-. مرعاة المفاتيح (2/ 279).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فمَن تركه فقد كفر» أي: كفر كفرًا مخرجًا عن الملة؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة»، وهذا حد فاصل بين المؤمنين وبين الكافرين.
ولقد أبعد النجعة مَن قال من العلماء: إن المراد بالكفر: الأصغر، كالذي في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اثنتان في الناس هُما بِهمْ كُفر»؛ لأنه من تدبر الحديث علم أن هذا تأويل خاطئ، وأن الصواب المتعين: أن المراد بالكفر هنا: الكفر الأكبر المخرج عن الملة؛ لأن الفاصل بين شيئين، بين الإيمان والكفر، لا بد أن يميز أحدهما من الآخر، وإلا لما صلح أن يكون فاصلًا، كالحدود التي بين أرضين إحداهما لزيد والأخرى لعمرو، فإن هذه الحدود فاصلة لا تدخل أرض زيد في أرض عمرو، ولا أرض عمرو في أرض زيد، وكذلك الصلاة حد فاصل، مَن كان خارجًا منها فليس داخلًا فيما وراءها.
إذًا: الصلاة من بين سائر الأعمال إذا تركها الإنسان فهو كافر، لو ترك الإنسان صيام رمضان وصار يأكل ويشرب بالنهار ولا يبالي لم نقل: إنه كافر، لكن لو ترك الصلاة قلنا: إنه كافر، ولو ترك الزكاة وصار لا يزكي، يجمع الأموال ولا يزكي، لم نقل: إنه كافر، لكن لو ترك الصلاة قلنا: إنه كافر، ولو لم يحج مع قدرته على الحج لم نقل: إنه كافر، لكن لو ترك الصلاة قلنا: إنه كافر. شرح رياض الصالحين (1/ 303).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فمَن تركها» أي: ترك الصلاة المفروضة «فقد كفر» وأنكر ونقض عهدنا الذي عاهدناهم عليه، ورفع سبب الأمان الذي بيننا وبينهم، فهو كالكافر المعاهد الذي نقض عهده فيستحق القتل. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (7/27).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فمَن تركها» أي: لم يؤدِّها «فقد كفر» وخرج عن الأمان، فحلّ قتله، على اختلاف بين العلماء في معنى كفره، هل كفر مخرج عن الملة، كما قال به بعضهم، أو هو كفر دون كفر، كما قال به الآخرون؟ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/ 193).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه دليل لمن كفَّر تارك الصلاة من السلف والعلماء وإن كان معتقدًا وجوبها، وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وجماعة من السلف، وذهب إليه فقهاء أهل الحديث: أحمد بن حنبل وابن المبارك وإسحاق وابن حبيب من أصحابنا. وجماعة من العلماء على أنه ليس بكافر، وأكثرهم يرى قتله إن أبى منها، والكوفيون (الأحناف) لا يرون قتله ويُعزَّر حتى يصلي، ونحوه للمزني، ثم اختلفوا في استتابته، ومَن لم يكفره يقتله حدًّا، قال ابن القصار: واختلف أصحابنا في استتابته، فمَن لم يستتبه يجعله كسائر الحدود التي لا تسقطها التوبة يؤخر حتى يَمُرَّ وقت صلاة، فإن لم يصلِّ قتل، وكذلك اختلفوا في قتله إذا تركها متهاونًا، وإن قال: أصلي وفي استتابته وتأخيره.
فذهب مالك -رحمه الله- أنه يؤخَّر حتى يخرجَ الوقتُ، فإن خرج ولم يصلِّ قُتل، والصحيح: أنه عاصٍ غير كافر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، وأن يُقتل إن أبى منها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الآية التوبة: 5، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم».
واختلف العلماء في أخوات الصلاة كالزكاة والصيّام والحج والوضوء والغسل، هل يقتل الآبيُّ منها المعترفُ بفرضها أو يعاقب؟ وهل هو كافر أو عاصٍ؟
ومذهب مالك فيمَن أبى من ذلك فقال: لا أتوضأ ولا أصوم يُستتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل، وإن قال: لا أزكي أُخِذت منه كرهًا، فإن امتنع قوتل، وإن قال: لا أحُجّ لم يجبر؛ لكون فرضه على التراخي دون الفور.
وقال ابن حبيب: مَن قال عند الإمام: لا أصلي وهو فرضٌ عليَّ قُتل ولا يُستتاب، وكذلك مَن قال عنده: لا أتوضأ ولا أغتسل من جنابة ولا أصوم رمضان، قال ابن حبيب: مَن ترك الصلاة عامدًا أو مُفَرِّطًا فهو كافر، ومَن ترك أخواتها متعمدًا من زكاة وصوم وحج فهو كافر، وقاله الحكم بن عتيبة وجماعة من السلف، وقال: لا يكفر إلا بجحد هذه الفرائض، وإلا فهو ناقص الإيمان فاسق، واحتجوا بإجماع الصدر الأول على مواراة مَن لا يصلي ودفنهم مع المسلمين، وكذا الخلاف في الزكاة إذا امتنع بها ولم يقدر أن تأخذ منه، وإلا فمتى منعها أخذت منه كرهًا وجوهد على ذلك إن امتنع.
ولا خلاف في جاحد فرض من هذه الفرائض أنه كافر. إكمال المعلم (1/ 343).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اتفق العلماء على أن مَن ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها فهو كافر، واختلفوا فيمَن تركها تكاسلًا، فقال أحمد: يُدعى إلى فعلها، فإن لم يفعلها حتى تضايق وقت الذي بعدها وجب قتله، وعنه: أنه لا يجب قتله حتى يترك ثلاث صلوات ويتضايق وقت الرابعة، فإذا وجب قتله لم يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل بالسيف، وهل وجب قتله حدًّا، أو لكفره؟ على روايتين:
إحداهما: لكفره، ودليله هذا الحديث، والثانية: يقتل حدًّا، وقال مالك والشافعي: لا يكفر، بل يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال أبو حنيفة: يستتاب ويحبس ولا يقتل. كشف المشكل (3/ 77).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما تارك الصلاة فإن كان منكرًا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين خارج من ملة الإسلام؛ إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه، وإن كان تركه تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها -كما هو حال كثير من الناس- فقد اختلف العلماء فيه؛ فذهب مالك والشافعي -رحمهما الله- والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر؛ بل يفسق ويستتاب؛ فإن تاب وإلا قتلناه حدًّا كالزاني المحصن، ولكنه يقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهو مروي عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي -رضوان الله عليه-، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي -رحمهم الله-: أنه لا يكفر ولا يقتل؛ بل يعزر ويحبس حتى يصلي، واحتج مَن قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور («إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»)، وبالقياس على كلمة التوحيد، واحتج مَن قال: لا يقتل بحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» وليس فيه الصلاة، واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة»، «مَن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، «ولا يلقى الله تعالى عبد بهما غير شاكٍّ فيحجب عن الجنة»، «حَرَّم الله على النار مَن قال: لا إله إلا الله» وغير ذلك، واحتجوا على قتله بقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} التوبة: 5، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم»، وتأولوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» على معنى: أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكُفر، أو أن فعله فعل الكفار -والله أعلم-. شرح مسلم (2/ 70-71).
وقال الشوكاني -رحمه الله- معلقًا:
والحق أنه كافر يقتل، أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتضٍ لجواز الإطلاق، ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون؛ لأنا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا، فلا مُلجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها، وأما أنه يقتل فلأن حديث: «أُمرتُ أن أقاتل الناس» يقضي بوجوب القتل لاستلزام المقاتلة له، وكذلك سائر الأدلة المذكورة في الباب الأول، ولا أوضح من دلالتها على المطلوب، وقد شرط الله في القرآن التخلية بالتوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} التوبة: 5، فلا يخلى مَن لم يقم الصلاة.
وفي صحيح مسلم: «سيكون عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمَن أنكر فقد برئ، ومَن كره فقد سلم، ولكن مَن رضي وتابع، فقالوا: ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا»؛ فجعل الصلاة هي المانعة من مقاتلة أمراء الجَور (الظلم)، وكذلك قوله لخالد في الحديث السابق: «لعله يصلي»؛ فجعل المانع من القتل نفس الصلاة، وحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم» لا يعارض مفهومه المنطوقات الصحيحة الصريحة. نيل الأوطار (1/ 361).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
هذا الذي قاله العلامة الشوكاني هو التحقيق الواضح الذي تجتمع به الأدلة من غير تكلف، والحاصل: أنَّ تارك الصلاة كافر بنص الحديث، ولكنه كفر دون كفر إذا لم يقترن بالجحد القلبي، فإذا مات يُصَلَّى عليه، ويُدفَنُ في مقابر المسلمين، ويَرِثُ، ويُورَث -والله أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/ 204).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه (أي: الحديث): حجة لما ذهب إليه عبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية: أنه يكفر بترك الصلاة، وإن لم يكن جاحدًا لها، وهو محكي عن علي بن أبي طالب وابن عباس والحكم بن عيينة، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، ومن حجتهم أيضًا: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «بين الرجل وبين الشرك، والكفر ترك الصلاة».
وروى ابن ماجه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس بين العبد والكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة».
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط بلفظ: «مَن ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر».
وروى محمد بن نصر أيضًا من حديث عبادة بن الصامت قال: أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع خلال؛ فقال: «لا تشركوا بالله شيئًا، وإن قطعتم أو حرقتم أو صلبتم، ولا تتركوا الصلاة متعمدين؛ فمَن تركها متعمدًا فقد خرج من الملة» الحديث، ورواه الطبراني في المعجم الكبير.
وروى أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي الدرداء قال: «أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- أن لا أشرك بالله شيئًا، وإن حُرِّقْت، وأن لا أترك صلاة مكتوبة متعمدًا؛ فمَن تركها متعمدًا فقد كفر» وفي إسناده شهر بن حوشب مختلف فيه، وقال النووي في الخلاصة: إنه حديث منكر، وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أميمة بنت رقيقة.
وروى الطبراني في أكبر معاجمه من حديث ابن عباس ولا أعلمه إلا رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بُني الإسلام على خمس» الحديث؛ فذكر منها الصلاة، ثم قال: «فمَن ترك واحدة منهن كان كافرًا حلال الدم»، وروى أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الصلاة يومًا؛ فقال: «مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة إلى يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وأُبيّ بن خلف».
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يكفر بترك الصلاة إذا كان غير جاحد لوجوبها، وهو قول بقية الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد بن حنبل أيضًا، وأجابوا عما صح من أحاديث الباب بأجوبة؛ منها:
الأول: أن معناها: أن تارك الصلاة يستحق عقوبة الكافر وهي القتل.
والثاني: أنها محمولة على مَن استحل تركها من غير عذر.
والثالث: أن ذلك قد يؤول بفاعله إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر.
والرابع: أن فعله فعل الكفار، ولم يصح من أحاديث الباب غير حديث بريدة وحديث جابر.
وأما حديث أنس فقال الدارقطني في العلل: الأشبه بالصواب عن الربيع بن أنس مرسلًا، وحديث أبي الدرداء تقدم تضعيفه، وحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: «فقد خرج من الملة»؛ فالراوي له عن عبادة، سلمة بن شريح، وهو مجهول قاله صاحب الميزان.
وقال ابن يونس في تاريخ مصر: ولا يحدث عن سلمة غير يزيد بن قوذر، وفيه أيضًا مَن يحتاج إلى الكشف عن حاله، وحديث ابن عباس شك الراوي له عن ابن عباس في رفعه، وهو أبو الجوزاء الربعي، وحديث أم أيمن تقدم أنه منقطع، وحديث معاذ في إسناده عمرو بن واقد، وهو الدمشقي منكر الحديث قاله البخاري، وهو أيضًا من رواية أبي إدريس الخولاني عن معاذ، وقد قال أبو زرعة: إنه لم يصح سماعه منه.
وكذا قال الزهري: إنه فاته معاذ، وأثبت ابن عبد البر سماعه منه، وكذا قال الوليد بن مسلم: أدركه، وهو ابن عشر سنين.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فهو وإن كان صحيحًا فلا يلزم من كونه يكون يوم القيامة مع فرعون وهامان وأُبيّ بن خلف أن يكون مخلدًا في النار معهم؛ بل قد يعذب معهم في النار، ويخرج بالشفاعة أو يغفر له -والله أعلم-...
احتج الجمهور على عدم تكفير تارك الصلاة من غير جحود بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، وبأحاديث صحيحة؛ منها: حديث عبادة بن الصامت قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «خمس صلوات فرضهن الله، مَن أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن؛ كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومَن لم يفعل فليس له عند الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه» رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح.
ومنها: حديث عبادة أيضًا في الصحيحين: «مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق- أدخله الله الجنة على ما كان من عمل»، وفي رواية لمسلم: «مَن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله حرم عليه النار»، وفي الصحيحين أيضًا من حديث عثمان بن مالك: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ فيدخل النار أو تطعمه النار»، وفي الصحيح غير ذلك مما يدل على ذلك. طرح التثريب في شرح التقريب (2/146-148).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
(الحديث) يدل على أن تارك الصلاة يكفر؛ لأن الترك الذي جعل الكفر معلقًا به مطلق عن التقييد، وهو يصدق بمرة لوجود ماهية الترك في ضمنها. نيل الأوطار (1/ 363).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
في هذا الحديث: بيان أن ترك الصلاة كفر، فمَن تركها جاحدًا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، أما إذا تركها كسلًا، وتهاونًا، ويعلم أنها واجبة، فهذا كفر على الصحيح من أقوال العلماء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الصلاة الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، والبينية تفصل بين الشيء وبين الآخر، وهذا الذي أجمع عليه الصحابة، كما نقل الإجماع عبد الله بن شقيق -رحمه الله-، وإسحاق بن راهويه، وابن حزم -رحمه الله-، ونقله غيرهم من العلماء، وهو الذي تدل عليه النصوص الكثيرة، وهو الذي عليه المحققون من أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم: إنه كافر كفرًا أصغر لا يخرج من الملة، لكن هذا القول ضعيف.
والصواب: أن ترك الصلاة كفر أكبر، ولو لم يجحد وجوبها.
ومن الأدلة على أنه من الكفر الأكبر: مجيء الكفر معرفًا بـ(أل)؛ لأن (أل) للاستغراق، أما الكفر الأصغر فيأتي منكرًا، مثل ما سبق: «اثنتان في الناس هما بهم كفر». توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (1/ 168-169).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
لا يخفى ما فيه (الحديث) من تعظيم شأن الصلاة والحث على فعلها، والحضّ على ملازمتها. دليل الفالحين (6/ 564).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)