الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«‌ويلٌ ‌للذي ‌يُحدِّثُ فيكذبُ؛ ليضحكَ به القومَ ويلٌ له ويلٌ له».


رواه أحمد برقم: (20046)، وأبو داود برقم: (4990)، والترمذي برقم: (2315)، والنسائي في الكبرى برقم: (11061)، من حديث معاوية بن حَيْدَة القُشَيْرِي -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7136)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2944).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«وَيْلٌ»:
الوَيل كلمة تقال: لكل من وقع في هلكة وعذاب. لسان العرب، لابن منظور (2/639).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الويل: الحُزْن والهلاك والمشقة من العذاب، وكل مَن وقع في ‌هلَكةٍ ‌دَعَا ‌بِالوَيْلِ. النهاية (5/236).
ومنه قوله تعالى: ‌ {‌يَا ‌وَيْلَتَنا} الكهف: 49 ، أي: ‌يا ‌هَلَاكَنَا. تفسير البغوي(3/١٩٧).


شرح الحديث


قوله: «‌ويلٌ للذي يُحدِّثُ فيكذبُ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
أي: في حديثه. شرح سنن أبي داود (19/ 132).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يُحدِّث» أي: لمن يُخبر الناس، «فيكذب» أي: لا يصْدُق في تحديثه وإخباره. مرقاة المفاتيح (7/ 3037).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ويلٌ» هذه كلمة دعاء ووعيد؛ ولهذا جاز الابتداء بها وهي نكرة، كقولك: سلام عليك، لَمَّا كانت دعاء صح الابتداء وهي نكرة، وكذلك «ويل» صح الابتداء بها وهي نكرة؛ لأنها كلمة وعيد ودعاء، وقيل: إنه وادٍ في جهنم، ولكن هو يستعمل في هذا وفي هذا، قد يكون واديًا في جهنم إذا عوقب به شخص معين، وأما إذا كان على سبيل العموم؛ فالظاهر: أنها كلمة وعيد مطلقًا.
وقوله: «الذي يحدث» أي: يحدث الناس، فالمفعول به محذوف، «فيكذب» الكذب: الإخبار بخلاف الواقع. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 415).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يعني: ليس لحديثه أصل، ولكن من أجل أن يضحك به القوم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 415).

قوله: «ليضحك به القوم»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
الجالسين معه. شرح سنن أبي داود (19/ 132).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وذلك لأنّ الكذب محرَّم، والإضحاك به يزيده تحريمًا؛ لأنّ الضحك مذموم. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 48).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ليُضحِك» بضم أوله، وكسر حائه، «به» أي: بسبب تحديثه، أو الكذب، «القومَ» بالنصب على أنه مفعول ثانٍ، هكذا في النسخ، ويجوز فتح الياء والحاء ورفع «القوم»، ثم المفهوم منه: أنه إذا حدَّث بحديث صدق ليضحك القوم فلا بأس به، كما صدر مثل ذلك من عمر -رضي الله عنه- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حين غضب على بعض أمهات المؤمنين. مرقاة المفاتيح (7/ 3037).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
«ليضحك» بضم الياء، وكسر الحاء: من أضحك الرباعي المتعدِّي، و«القوم» بالنصب مفعول به، ويجوز فتح الياء والحاء من المضارع من ضحك الثلاثي اللازم، والقوم: بالرفع فاعل، والضمير «به» يعود إلى المتحدث، فتكون الباء سببية، أو يعود إلى الكذب. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (10/ 303).

قوله: «ويلٌ له ويلٌ له»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قيل: ويل: وادٍ في جهنم، ويدل عليه رواية الصحيحين: «إنّ الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا»، ولابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة: «إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها أبْعَدَ من الثريا». شرح سنن أبي داود (19/ 132).
وقال المناوي -رحمه الله-:
كرّره إيذانًا بشدة هلكته؛ وذلك لأنّ الكذب وحده رأس كل مذموم، وجماع كل فضيحة، فإذا انضمّ إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان، ويورث الرعونة، كان أقبح القبائح، ومن ثَمّ قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة. فيض القدير (6/ 368).
وقال الإمام مسلم -رحمه الله-:
قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس: كذب؛ إلا في ثلاث: ‌الحرب ‌والإصلاح ‌بين ‌الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. صحيح مسلم (8/ 28).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- معلقًا:
لا خلاف في جواز الكذب في هذا. إكمال المعلم (8/ 77).
وقال الصنعاني -رحمه الله- معلقًا:
انظر في حكمة الله ومحبته لاجتماع القلوب كيف حرم النميمة، وهي صدق؛ لما فيها من إفساد القلوب، وتوليد العداوة والوحشة، وأباح الكذب، وإن كان حرامًا إذا كان لجمع القلوب وجلب المودة وإذهاب العداوة. سبل السلام (2/ 684).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث حسنه الترمذي، وأخرجه البيهقي؛ فيه دعاء على الذي يكذب بالويل ثلاث مرات، والويلُ مصدر بمعنى: الهلاك...، وفيه: دلالة على تحريم الكذب وإن لم يكن ضارًّا، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في التحذير من الكذب على الإطلاق، مثل قوله: «إياكم والكذب؛ فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار» ...، وأخرج ابن حبان في صحيحه: «وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار»، والطبراني: «وإياكم والكذب؛ فإنه يهدي إلى الفجور، وهما في النار»، وأحمد من حديث ابن لهيعة: ما عمل النار؟ قال: «الكذب؛ إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار»، والبخاري: «رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه؛ فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة»، والشيخان: «علامة المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب» الحديث، وزاد مسلم: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»، وأخرجه أبو يعلى بزيادة: «وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال: إني مسلم»، وأحمد والطبراني: «لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقًا»، وأبو يعلى بسند رواته رواة الصحيح: «لا يبلغ العبد الإيمان حتى يدع المزاح والكذب، ويدع المراء إن كان محقًّا»، وأحمد: «يطبع المؤمن على الخلال إلا الخيانة والكذب»، وأخرجه الطبراني والبيهقي وأبو يعلى بسند رواته رواة الصحيح، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 336-338).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث دليل على تحريم الكذب لإضحاك القوم، وهذا تحريم خاص، ويحرم على السامعين سماعه إذا علموه كذبًا؛ لأنه إقرار على المنكر؛ بل يجب عليهم النكير أو القيام من الموقف، وقد عُدّ الكذب من الكبائر. سبل السلام (2/ 683).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وهذا يدل على أن من يحدِّث فيَصدُق في المزاح، فيضحك منه الحاضرون، فلا بأس به. شرح المصابيح (5/ 246).
وقال المظهري -رحمه الله-:
هذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ مَن حَدَّثَ بحديثِ صِدْقٍ في المزاح فَيَضْحَك بذلك الحديثِ الحاضرون- ليس عليه بأسٌ؛ لأنه قد ذُكِرَ في باب المصافحة أن أُسَيْدَ بن حُضَيْرٍ يُضْحِكُ القومَ بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 180).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
والحاصل: أنّ الكذب حرام، ولم يرخص إلَّا في مواقع الضرورة...، وأمّا ليضحك الناس فلا ضرورة فيه للكذب، بل لا فائدة فيه، فهذا الكذب أشدّ حرمة في أنواعه، فاستحق الويل. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 390).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقد عدّ (الكذب) من الكبائر لشمول حدّ الكبيرة له، فإنّه ورد الوعيد عليه بعينه، وقد صرح الروياني في البحر -من الشافعية-: أنه كبيرة وإن لم يضرّ، وقال: من كذب قصدًا رُدَّتْ شهادته وإن لم يضرّ بغيره؛ لأنّ الكذب حرام بكل حال، وروى في البحر حديثًا مرسلًا: أنه -صلى الله عليه وسلم- أبطل شهادة رجل في كذبة كذبها، وقال الأذرعي: قد تكون الكذبة الواحدة كبيرة ...، واعلم أنه قد اختلف في تحقيق الكذب؛ فذهب الجمهور إلى أن حقيقته: ما خالف مقتضاه في الوقوع؛ فإذا قال: زيد في الدار، وانكشف أنه في الدار كان صدقًا، وإن لم يكن في الدار كان كذبًا، ولو كان يعتقد أنه في الدار إلا أنه لا يأثم في الإخبار في هذا الظرف، وقال النظام: ما خالف مقتضاه في الاعتقاد وإن طابق الواقع، وقال الجاحظ: ما خالف الاعتقاد والواقع، وأثبت الواسطة بين الصدق والكذب وتحقيق الأقوال في علم الأصول. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/338).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن أعظم الكذب: ما يفعله بعض الناس اليوم، يأتي بالمقالة كاذبًا يعلم أنها كذب، لكن من أجل أن يضحك الناس، وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا، فقال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ‌«ويلٌ ‌للذي ‌يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويلٌ له، ويلٌ له»، وهذا وعيد على أمر سهل عند كثير من الناس، فالكذب كله حرام، وكله يهدي إلى الفجور، ولا يستثنى منه شيء، وورد في الحديث: أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها.
ولكن بعض أهل العلم قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث: التورية، وليس الكذب الصريح.
وقال: التورية قد تسمى كذبًا، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله تعالى: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} الصافات: 89، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} الأنبياء: 63، وواحدة في شأن سارة ...» الحديث، وهو لم يكذب، وإنما ورَّى تورية هو فيها صادق.
وسواء كان هذا أو هذا؛ فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثير من أهل العلم، وبعض العلماء يقول: الكذب لا يجوز مطلقًا: لا مزحًا، ولا جدًّا، ولا إذا تضمن أكل مال أو لا...
فالحاصل: أن الكذب حرام، ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقًا، لا هازلًا ولا جادًّا، إلا في المسائل الثلاث. شرح رياض الصالحين (1/ 296).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ففي هذا الحديث دليل على أن الكذب لإضحاك القوم محرم، بل من كبائر الذنوب؛ لأنه توعد عليه بالويل.
ومن فوائد الحديث: أن ما يقع في التمثيليات من ذكر أشياء لا حقيقة لها وتُنسب إلى شخص؛ فإن هذا داخل في الحديث.
ومن فوائد الحديث: تكرار الكلام للتوكيد؛ لقوله: «ويل له ثم ويل له»، وهذا التوكيد توكيد لفظي؛ لأنّه إذا أعيد التوكيد بلفظ مؤكد فهو لفظي، وإن أعيد بمعناه أو بالأدوات المعروفة فهو معنوي، والكذب منه ما هو خير ومنه ما هو شر، مَن كذب ليصلح بين الناس فهو خير، ومَن كذب في الحرب ومَوّه على العدو بأن الجمع كثير والعدة قوية فهو خير، ومَن كذب على امرأته بشيء لا يمكن أن تطلع فيما بعد أنه كذب من أجل الألفة والقربة منها فهو خير؛ ولهذا أبيح الكذب في هذه الثلاث، ثم إنّ الكذب قد يكون أشدّ، ذكر في هذا الحديث إذا تضمن أكل مال بالباطل؛ فإنه يكون فيه مفسدتان: المفسدة الأولى: مفسدة الكذب، والمفسدة الثانية: مفسدة الأكل بالباطل؛ إذن العموم ليس له مفهوم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 415).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
إنّ بعض الناس يكذب؛ ليضحك به القوم، فيألف ذلك لما يرى من ضحك الناس، ويستمر على عمله، فيهون عليه، وقد جاء في الحديث: «‌ويلٌ ‌للذي ‌يحدث فيكذب؛ ليضحك به القوم، ويلٌ له ثم ويلٌ له» أخرجه الثلاثة وإسناده قوي.
وإن بعض الناس يكذب على الصبيان؛ لأنهم لا يوجهون إليه النقد، ولكنه في الحقيقة أوقع نفسه في الكذب، وفتح لهم باب التهاون به والتَّربي عليه. الضياء اللامع من الخطب الجوامع (7/ 514).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
هذا فيه التحذير من الكذب، والتشديد في أمر الكذب كما في الترجمة، وذلك بالتعبير بالويل: «ويلٌ له ويلٌ له» وتكرار ذلك، فهو يكذب ويتعمد الكذب لأجل أن يضحك الناس بالكذب الذي يخبر به وهو غير صادق، بل هو كاذب، وهذا كذب؛ سواء كان للإضحاك أو كان لغير الإضحاك؛ لأن الكذب محرم مطلقًا كما مر في الحديث السابق: «إياكم والكذب».
فعلى الإنسان: أن يتجنب الكذب ويحذر الكذب.
ثم أيضًا: هذا يدل على تحريم التمثيل الذي ابتُلي به كثير من الناس في هذا الزمان؛ لأن التمثيل مبني على الكذب، وعلى أخبار غير واقعة.
إذا حدث الرجل بقصة أو بطرفة وهي لا حقيقة لها وليس لها أساس، فالمحظور قائم؛ لأنه إخبار بشيء لا حقيقة له، ويكون قد صرح لهم بأنه كذاب.
وقد كرر فيه ذكر الويل ثلاث مرات. شرح سنن أبي داود (567/ 22).

وينظر ما يستثنى من الكذب (هنا

وللمزيد من الفائدة ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا