«إذا رأيتم الجنازةَ فقوموا، فمَن تبعها فلا يقعدْ حتى تُوضعَ».
رواه البخاري برقم: (1310)، ومسلم برقم: (959)، من حديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ -رضي الله
وفي رواية عند مسلم برقم: (959) «إذا اتبعتم جنازةً، فلا تجلسوا حتى تُوضعَ».
وفي البخاري برقم: (1307)، ومسلم برقم: (958) «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تُخَلِّفَكُمْ أو تُوضع».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الجنازة»:
بالكسر والفتح: الميت بسريره، وقيل بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت. النهاية، لابن الأثير (1/ 306).
«توضع»:
أي: عن الأعناق، وقيل: حتى توضع في اللحد. مجمع بحار الأنوار، للفتني (5/ 658).
شرح الحديث
قوله: «إذا رأيتم الجنازةَ فقوموا»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «إذا رأيتم ...فقوموا» الجملة شرطية، ولكن أداة الشرط فيها غير جازمة، وجواب الشرط قوله: «فقوموا».
«إذا رأيتم»، يعني: رؤية عين، «فقوموا» وإن لم تحاذكم، بمجرد ما ترونها فقوموا، إلى متى؟ ما بَيَّن في هذا الحديث، ولكنه بَيَّن في حديث آخر حتى تجاوز الإنسان، ثم إذا قام فإن شاء تبع وإن شاء لم يتبع؛ ولهذا قال بعدها: «فمَن تبعها فلا يجلس حتى توضع». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 588).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إذا رأيتم الجنازة فقوموا» أمر بالقيام لمن كان قاعدًا، أما مَن كان راكبًا فيقف؛ لأن الوقوف في حقه كالقيام في حق القاعد. إرشاد الساري (2/ 418).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويحتمل أن يكون الأمر بالقيام للصلاة عليها ... قال بعض علمائنا: إذا لم يرد الذهاب معها، فالقيام مكروه عند الأكثر، وقال جمع: هو مخير بينه وبين القعود، وقال بعض: هما مندوبان، وقال صاحب التتمة: يستحب القيام؛ للأحاديث الصحيحة الواردة منه، وقال الجمهور: الأحاديث منسوخة. مرقاة المفاتيح (3/ 1193).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
يحتمل: أنه أمر بالقيام عند رؤية الجنازة؛ لأن من حق الموت الذي كتبه الله على كل نفس منفوسة أن يستحفل أمره ويهاب، وإذا حل بإنسان فرآه آخر يقف شعره وترعد فرائصه، وإذا ذكر به استشعر الخوف منه، ومن حق المرعوب أن يكون قلقًا مستوفزًا؛ فيجلس إن كان نائمًا ويقوم إن كان قاعدًا، وقلة الاحتفال بهذه النازلة العظيمة، وإظهار التجلد دونها إنما يوجد ممن أخذت الغفلة بمجامع قلبه فأُمر بالقيام لها؛ إزاحة لتلك العلل، ويؤيد هذا التأويل: حديث جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الموت فزع؛ فإذا رأيتم الجنازة، فقوموا» ...، وقد صح عن علي -رضي الله عنه- أنه قال في شأن الجنائز: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام ثم قعد، ووجه ذلك -والله أعلم-: أنه قام وأمرهم بالقيام على ما ذكرنا تقريرًا للمعنى الذي ذكرناه، ثم قعد ليعدل بالقضية عن حد الوجوب ويريهم أنهم في فسحة من ذلك، وإن كان القيام أحب إليه، ويحتمل: النسخ على ضعف فيه؛ لأنه أمر بالقيام على ما ذكرنا، ولم يأمر بالقعود، قلتُ: ولولا مكان حديث جابر: «أن الموت فزع»، ثم ما في هذا الحديث: «أن الجنازة كانت جنازة يهودية» لكان لنا أن نقول: إنما أمرهم بالقيام ليشتركوا مع المشيعين في الثواب، ولكن القول به مدخول؛ لوجود العلتين. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 398- 390).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أمر بالقيام عند رؤيتها؛ لإظهار الفزع والخوف عن نفسه فإنه أمر عظيم، ومَن لم يقم فهو علامة غلظ قلبه وعظم غفلته، فالمراد بالقيام: تغيير الحال في قلبه، وظاهره لا حقيقته. شرح المصابيح (2/ 349).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فقوموا» هل هذا الأمر للوجوب؟ الأصل في الأمر الوجوب، فيقتضي أنه يجب علينا أن نقوم إذا رأينا الجنازة، لكن ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قام ثم قعد، وهذا يدل على أن الأمر ليس للوجوب، ولكن هذا الحديث «قام ثم قعد» لا يدل على أن الحكم نُسِخَتْ مشروعيته؛ لأن من شرط النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع وجب، ولا يجوز أن نلجأ إلى النسخ؛ لأن النسخ معناه: إبطال دلالة أحد الدليلين، وهذا لا يجوز إلا بأمر لا بد لنا منه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 589).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -رحمه الله-:
هذا الأمر للاستحباب لا الوجوب، وصرفه عن الوجوب حديث علي -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالقيام ثم قعد، والقاعدة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر بشيء ثم تركه انصرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (3/ 61).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -رحمه الله-:
«إذا رأيتم الجنازة فقوموا»؛ فعلى هذا يُعنى بما يُصنع في كثير من المساجد أنه يُهيَّأ مكان للصلاة على الجنازة في المسجد، ويكون دونها باب مغلق أثناء صلاة الفريضة، ثم يفتتح هذا الباب، وهي باقية مكانها، حديث الباب يدل على أن من رآها يقوم، ولو لم تمر به، إذا رأيتم الجنازة فقوموا، لكن ننظر في عدم القيام في آخر الأمر، هل هو ناسخ أو صارف -وهو محتمل-؟ يعني: مجرد الترك هو ناسخ للأمر أو صارف له؛ بمعنى أنه ملغٍ له بالكلية، أو صارف له من الوجوب إلى الاستحباب؟ والأمر محتمل، وكثير من أهل العلم يرى أنه منسوخ -القيام منسوخ-، ومنهم مَن يرى أنه صارف، فمَن لم يقم لم يأثم، وعلى كل حال: القولان قيل بهما، وكأن شيخ الإسلام يرى أنه صارف غير ناسخ. شرح بلوغ المرام (54/ 14).
قوله: «حتى تخلِّفكم»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
بضم التاء وكسرِ اللام المشددة أي: يصيرون وراءها غائبين عنها.
فيه دليل على أن من قام للجنازة يستمر قائمًا حتّى تغيب عن بصره، هذا إذا لم يتبعها.شرح سنن أبي داود(13/٤٣٦)
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «حتى تخلِّفكم» أي: تتجاوزكم، وتجعلكم خَلفها، وليس المراد التخصيص بكون الجنازة تتقدم، بل المراد مفارقتها سواء تخلف القائم لها وراءها أو خلفها القائم وراءه وتقدم، وهو من قولك: خلفت فلانا ورائي فتخلف عني أي: تأخر... ، ثم إسناد التخليف إلى الجنازة على سبيل المجاز لأن المراد حاملها.عمدة القاري(8/١٠٧)
قال المناوي -رحمه الله-:
والأمر بالقيام إِنما هو للقاعد، أَمَا الراكب فيقف.فيض القدير(1/٣٥٩).
قوله: «فمن تبعها فلا يقعدْ حتى تُوضعَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فمَن تبعها» أي: بعد الصلاة، «فلا يقعد حتى توضع»، أي: عن أعناق الرجال؛ قصدًا للمساعدة، وقيامًا بحق الأخوة والمصاحبة، أو حتى توضع في اللحد؛ للاحتياج في الدفن إلى الناس، وليكمل أجره في القيام بخدمته، ويؤيد الأول ما رواه الترمذي عن أحمد وإسحاق قالا: مَن تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع على أعناق الرجال، ويعضده رواية الثوري: حتى توضع بالأرض، ولأنها ما دامت على أعناقهم هم واقفون فقعودهم مخالفة لهم، ويشعر بالتميز عنهم، والتكبر عليهم. مرقاة المفاتيح (3/ 1193).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«مَن تبعها» يعني: مَن قام وتبعها لَمَّا مرَّت به؛ فلا يجلس حتى توضع على الأرض مدة، فإن وضعت في اللحد مباشرة فحتى توضع في اللحد...فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 588).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فلا يقعد حتى توضع» على الأرض، وأما مَن مرَّت به فليس عليه من القيام إلا بقدر ما تمرُّ عليه أو توضع عنده، كأن يكون بالمصلى مثلًا، وفي حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعًا: «مَن صلى على الجنازة، ولم يمشِ معها؛ فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع». إرشاد الساري (2/ 418).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أما قوله: «حتى توضع» فإنا كنا نقول: توضع عن أعناق الرجال، حتى رأينا في المتفق عليه من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «حتى توضع في اللحد»، وفي لفظ أخرجه مسلم: «حتى توضع في القبر»، ووجه ذلك: أن التابع للشيء يكون بحكمه، فمَن قعد قبل وضعها فما تأدَّب لها ولا كأنه تبعها، ووضعها على الحقيقة إنما هو في القبر، فلا اعتبار بحطها عن الرؤوس، ثم رأينا أبا بكر الأثرم، وكان من كبار العلماء يقول: إنما المراد به: حتى توضع عن مناكب الرجال، واحتج بحديث البراء: «كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة فانتهينا إلى القبر ولما يلحد؛ فجلس وجلسنا حوله»، قال: وحديث أبي هريرة غلط من أبي معاوية، فإنه رواه عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وإنما رواه سهيل عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع»؛ فغلط أبو معاوية في إسناده وفي كلامه، قلتُ: ويمكن أن يقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما جلس هناك؛ لأنه لم يكمل حفر القبر فرأى الأمر يطول، بخلاف ما إذا كان محفورًا. كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 123).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
والجلوس في موضعين:
أحدهما: لمن مرَّت به.
والثاني: لمن يتبعها؛ فهل يقوم لها حتى توضع؟ فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- القيام لها في موضعين: روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا؛ فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع»، ثم روي عنه بعد ذلك حديث علي المذكور فيه: «أنه جلس بعد أن كان يقوم»، اختلف أصحابنا في ذلك؛ فقال مالك وغيره من أصحابنا: إن جلوسه ناسخ لقيامه، واختاروا أن لا يقوم، وقال ابن الماجشون وابن حبيب: إن ذلك على وجه التوسعة، وإن القيام فيه أجر وحكمه باقٍ، وما ذهب إليه مالك أولى؛ لحديث علي الذي فيه: «ثم جلس بعد». المنتقى شرح الموطأ (2/ 24).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«حتى توضع»: النهي عن القعود ها هنا لاستيفاء الأجر في الإتيان بالتشييع على وجه الكمال، واختلف بعض أهل العلم في المراد بالوضع: هل هو عن أعناق الرجال أو الوضع في اللحد؛ لاختلاف الرواية: فرواه سفيان الثوري: «حتى توضع بالأرض»، ورواه محمد بن حازم وأبو معاوية الضرير: «حتى يوضع في اللحد»، قال أبو داود: سفيان أحفظ من أبي معاوية، قلتُ: سفيان يفوق أبا معاوية بأكثر من الحفظ، ثم إن لفظ الحديث يشهد لسفيان، وهو قوله: «حتى توضع» على صيغة التأنيث، ولم يرو إلا كذلك؛ فالضمير للجنازة، والجنازة لا توضع في اللحد، وإنما توضع على الأرض، وقد ورد: «حتى يوضع في اللحد» يعني: الميت، في غير هذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة في ثواب من شهد الجنازة: «حتى يصلي عليها، وحتى يُدفن» أي: يدفن صاحبها، وفي رواية: «حتى يوضع في اللحد». الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 389).
وقال العيني-رحمه الله-:
قوله: «حتى توضع»، هذا روي بألفاظ مختلفة، ففي رواية البخاري: «حتى تخلفكم أو توضع» أي: أو توضع الجنازة من أَعناق الرجال على الأرض، وفي رواية النسائي: «حتى تخلفه أو توضع» ، وفي رواية للبخاري: «حتى تخلفكم»، فقط وفي رواية الطحاوي: «حتى توضع أو تخلفكم»، وقال عياض: وفي لفظ: «حتى تخلف أو توضع»، ثم هل المراد بالوضع الوضع على الأرض أو وضعها في اللحد؟ اختلفت فيه الروايات، فقال أبو داود في سننه عقيب حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع»، روى هذا الحديث الثوري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة، قال فيه: «حتى تُوضع بالأرض»، ورواه أبو معاوية عن سهيل، قال: «حتى تُوضع في اللحد»، قال أبو داود: وسفيان أحفظ من أَبي معاوية.عمدة القاري(8/١٠٧)
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«حتى توضع» يحتمل أن يكون الوضع هنا على الأرض، ويحتمل أن يكون الوضع في اللحد، ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه جلس وجلس أصحابه من حوله انتظارًا للدفن، وكان ينكت في عود وحدثهم وهو جالس -عليه الصلاة والسلام-، فالمرجَّح أنها حتى توضع على الأرض لا في اللحد، وتنتظر من جلوس أثناء الدفن. شرح بلوغ المرام (54/ 14).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: مضى القيام للجنازة -والله أعلم- على التعظيم لأمر الموت والإجلال لأمر الله؛ لأن الموت فزع فيجب استقباله بالقيام له والجد، وقد روي هذا المعنى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: «الموت فزع؛ فإذا رأيتم الجنازة فقوموا» ذكره ابن أبى الدنيا، ورواه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخذ بظاهر حديث عامر بن ربيعة جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء. شرح صحيح البخاري (3/ 291-296).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
الباعث على الأمر بالقيام أحد أمرين: إما ترحيب الميت وتعظيمه، وإما تهويل الموت وتفظيعه، والتنبيه على أنه بحالٍ ينبغي أن يقلق ويضطرب مَن رأى ميتًا؛ استشعارًا منه ورعبًا، ولا يثبت على حاله؛ لعدم المبالاة، وقلة الاحتفال به، ويشهد له قوله -عليه السلام-: «إن الميت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا»؛ فإن ترتب الحكم على الوصف -سيما إذا كان بالفاء- يدل على أن الوصف علَّة الحكم. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 434).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
واختلف العلماء بسبب هذه الأحاديث على ثلاثة أقوال:
أولها: الأمر بالقيام مطلقًا لمن مرَّت به ولمن تبعها، وهو قول جماعة من السلف والصحابة؛ أخذًا بالأحاديث المتقدمة، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ أو لم يروا ترك قيامه ناسخًا.
وثانيها: لا يقوم لها أحد لا مرورًا به ولا متبعًا، وكأن هؤلاء رأوا أن ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- القيام ناسخ لمطلق القيام، وهو قول قوم من أهل العلم، وروي عن أحمد وإسحاق وابن الماجشون من أصحابنا: أن ذلك على التوسعة والتخيير.
وثالثها: أن القيام منسوخ في حق مَن مرَّت به، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقال أحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والأوزاعي: فمَن اتبعها لا يجلس حتى توضع، وأما مَن مرَّت به فلا يلزمه القيام، وقد اختلف أيضًا في القيام على القبر حتى يقبر؛ فكرهه قوم وعمل به آخرون، وروي ذلك عن علي وعثمان وابن عمر، وقد تقدم في كتاب الإيمان قول عمرو بن العاص: وأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، أي: تثبتوا وتربصوا. المفهم (2/ 619).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وفي الحديث: أنه ينبغي لمن رأى الجنازة أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال، وقد اختلف في القيام للجنازة، فذهب الإمام الشافعي إلى أنه غير واجب...، وبالكراهة صرح النووي في الروضة، لكن قال المتولي بالاستحباب، قال في المجموع: وهو المختار، فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث علي، وليس صريحًا في النسخ؛ لاحتمال أن القعود فيه لبيان الجواز، وذكر مثله في شرح مسلم ... قال الأذرعي: وفيما اختاره النووي من استحباب القيام نظر؛ لأن الذي فهمه علي -رضي الله عنه- الترك مطلقًا، وهو الظاهر؛ ولهذا أمر بالقعود من رآه قائمًا واحتج بالحديث. ا. هـ. وكذا ذهب إلى النسخ: عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (2/ 417).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يستفاد من هذا الحديث: مشروعية القيام للجنازة؛ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- به، ولولا أنه ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام وقعد لقلنا: إن الأمر للوجوب ...
ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان أن يُولِيْ الموت عناية واهتمامًا، ويشعر نفسه بالفزع لرؤية الميت؛ لقوله: «فقوموا»؛ فإن ذلك فزع يفزعه الإنسان حتى يقوم.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز لمن قام لرؤية الجنازة أن يتبعها أو لا يتبعها؛ لقوله: «فمن تبعها»، ولم يقل: فقوموا واتبعوها.
ومن فوائد الحديث: أن حمل الميت وكذلك دفنه ليس فرض عين، وجهه: لو كان فرض عين لقال: اتبعوها، ولوجب على كل من رآها أن يتبعها، فليس فرض عين، ولكنه فرض كفاية؛ إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن رأيت طفلًا صغيرًا بيد رجل حمله إلى المقبرة فهل اتباعه فرض عين؟ هل الذي وحده يتمكن من دفنه؟ لو ذهب إلى المقبرة ووضعه فجاء كلب فأكله فهذا ممكن وارد، فهو يحتاج إلى مساعدة على الأقل إلى حماية الطفل عندما يذهب ليأتي بالماء واللِّبْنِ، فالظاهر: أنه لا يكفي واحد في دفن الجنازة.
ومن فوائد الحديث: أن النهي عن الجلوس مُغَيًّا بعناية وهي: «حتى توضع»؛ فهل يستفاد منه تقييد الأحكام الشرعية بغايتها؟ بمعنى: أن يصدر حكم من الشارع مُغيًّا بغاية إذا وجدت زال؟ ممكن: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب»، والأحكام الشرعية الْمُغَيَّاة بغاية كثيرة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 589-590).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
قال في شرح الزاد وحاشيته: ويكره جلوس تابع الجنازة، حتى توضع بالأرض للدفن، إلا لمن بَعُدَ؛ لما في انتظاره قائمًا حتى تصل إليه وتوضع من المشقة، ولما روى أبو داود عن البراء قال: «خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة؛ فانتهينا إلى القبر ولم يُلْحَدْ؛ فجلس وجلسنا معًا». توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/ 225).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -رحمه الله-:
الحديث دليل على أن من تبع جنازة وشيَّعَها فإنه لا يجلس حتى توضع الجنازة على الأرض، وهذا قول جماعة من الصحابة كابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهم-، وجماعة من التابعين كالنخعي والشعبي وابن سيرين والأوزاعي، وهو قول الحنفية، وهو المذهب عند الحنابلة، وقد عبروا باستحباب القيام وكراهة الجلوس، والقول الثاني: أن الجلوس جائز وهو قول المالكية والشافعية، وقالوا: إن الحديث الوارد بالأمر بالقيام منسوخ، سواء في ذلك قيام مشيعها أو قيام مَن مرت به أو قيام المشيع على القبر، وذلك بما أخرجه مسلم عن علي -رضي الله عنه- قال: رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام فقمنا، وقعد فقعدنا؛ يعني: في الجنازة، فقالوا: إن القعود كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكون ناسخًا للأمر بالقيام؛ كما في حديث أبي سعيد وحديث جابر -رضي الله عنه-، والأظهر -والله أعلم-: أن الأمر بالقيام مراد به الاستحباب، وأن القعود في حديث علي -رضي الله عنه- محمول على بيان الجواز، وهذا اختيار ابن حزم والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وجماعة آخرين، وهذا القول فيه جمع بين الأدلة وهو مطلوب متى أمكن، وأما القول بالنسخ فهو قول مرجوح؛ لأن النسخ له شرطان:
الشرط الأول: عدم إمكان الجمع، وهنا قد أمكن، فيكون هو المتعين.
الشرط الثاني: معرفة التاريخ، وهو تقدم المنسوخ وتأخر الناسخ، وهذا غير ممكن.
وقد استثنى بعض الفقهاء مَن تقدم الجنازة؛ فلا بأس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه، قال الترمذي: قد روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، أنهم كانوا يتقدمون الجنازة فيقعدون قبل أن تنتهي إليهم الجنازة. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (4/ 332).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
1-منها: بيان الأمر بالقيام للجنازة.
2-ومنها: أن هذا الأمر للاستحباب على الراجح.
3-ومنها: أن ظاهر هذا الأمر يعم كل جنازة، سواء كانت لمسلم أو لكافر.
4-ومنها: أن القيام للجنازة قد جاء تعليله في الحديث الآتي بقوله: «إن الموت فزع»؛ فدل على أن القيام لتذكر الموت وإعظامه وجعله من أهم ما يخطر بالإنسان؛ ولذا استوى فيه جنازة المؤمن والكافر، ويأتي أيضًا تعليله بقوله: «أليست نفسًا»، وثبت في رواية أحمد وابن حبان تعليله بقوله: «إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس»، وفي رواية الحاكم بقوله: «إنما قمنا للملائكة»، ولا تنافي بين هذه الروايات.
5-ومنها: ما قاله في الفتح من أن حديث أبي سعيد أَبْيَنُ سياقًا من حديث عامر بن ربيعة هذا، وهو يوضح أن المراد بالغاية المذكورة: من كان معها أو مشاهدًا لها، وأما من مرت به فليس عليه القيام إلا قدر ما تمر عليه، أو توضع عنده بأن يكون بالمصلى مثلًا، وروى أحمد من طريق سعيد ابن مرجانة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «مَن صلى على جنازة فلم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها فلا يجلس حتى توضع»، وفي هذا السياق بيان لغاية القيام، وأنه لا يختص بمَن مرت به، ولفظ القيام يتناول مَن كان قاعدًا، فأما مَن كان راكبًا فيحتمل أن يقال: ينبغي له أن يقف، ويكون الوقوف في حقه كالقيام في حق القاعد. انتهى.
6-ومنها: أنه يستفاد من قوله في هذا الحديث: «فإن لم يكن ماشيًا معها … إلخ»، وكذا في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- الآتي: «فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع» على أن شهود الجنازة لا يجب على الأعيان، ووجه ذلك: أنه يدل على أن من لم يتبعها لا يقوم إلى أن توضع؛ بل حتى تخلفه، فدل على أنه إن شاء اتبعها ولا يجلس حتى توضع، وإن شاء لم يتبعها ولكن يقوم حتى تخلفه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم(18/487- 488).