الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«لا يَحِلُّ الكذبُ إلَّا في ثلاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، والكذبُ في الحربِ، والكذبُ لِيُصْلِحَ بينَ النَّاسِ».


رواه أحمد برقم: (27597) ورقم: (27570) ورقم: (27608)، والترمذي برقم: (1939) واللفظ له، من حديث أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها-.
صحيح الجامع رقم: (7723)، سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (545) صحيح دون قوله: «ليرضيها».


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «لا يحلُّ الكذب إلا فِي ثلاث»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «لا يحل الكذب إلا في ثلاث» أي: ثلاث كذبات. مرقاة المفاتيح (8/ 3152).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول ومجاوزة الصدق؛ طلبًا للسلامة، ودفعًا للضرر عن نفسه، وقد رخَّص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد؛ لما يؤمل فيه من الصلاح. معالم السنن (4/ 123).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وما هو هذا الكذب المباح في هذه الأبواب؟ فحمله ‌قوم ‌على ‌الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك؛ لما فيه من الصلاح، وأن الكذب المذموم إنما هو ما فيه مضرة المسلمين، واحتجوا بقوله: {‌بَلْ ‌فَعَلَهُ ‌كَبِيرُهُمْ ‌هَذَا} الأنبياء: 63، وقوله: {‌إِنِّي ‌سَقِيمٌ} الصافات: 89، وقوله: «فإنها أختي»، وقول منادي يوسف: {أَيَّتُهَا ‌الْعِيرُ ‌إِنَّكُمْ ‌لَسَارِقُونَ} يوسف: 70، وقالوا: لا خلاف أن من رأى رجلًا يريد أن يقتل مسلمًا، أو يقدر على أن ينجيه منه بالكذب، أنه واجب عليه، مثل أن يقول: ليس هو ها هنا، أو ليس هو فلان، ونحو هذا، فإذا كان واجبًا هنا فهو جائز فيما فيه الصلاح.
وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف مُخبره عن شيء، وما جاء في هذا من الإباحة فإنما هو مما لا يجوز في غيره للضرورة هنا، إنما هو على التورية وطريق المعاريض لا تصريح الكذب...
فهذا من الخدع الجائزة والمعاريض المباحة، فمثل هذا كله من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف منها أنها معاريض، ووجوه أُخر معروفة. إكمال المعلم (8/ 77- 78).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الكذب كله محرم لا يحل منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنه رخص فيها لما يحصل بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأَولى ألا يكذب في هذه الثلاثة إذا وجد عنه مندوحة؛ فإن لم توجد المندوحة أُعملت الرخصة، وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو -إن شاء الله- مذهب أكثر العلماء...
ولا تعارض بين العموم والخصوص كما هو عن العلماء منصوص، وأما كذبة تنجي نبيًّا، أو وليًّا، أو أممًا، أو مظلومًا ممن يريد ظَلَمَه، فذلك لا تختلف في وجوبه أُمَّة من الأمم، لا العرب ولا العجم. المفهم (6/ 592).
قال الطوفي -رحمه الله-:
الكذب ‌قد ‌يكون ‌واجبًا إِذا تضمّن واجبًا؛ كإِنقاذ وليّ أو مظلومٍ مِن قتلٍ أو ظُلمٍ، وقد يكون مندوبًا، كالإصلاح بين الناس، وقد يُباح، لاستصلاح الزوجة، وما عدا ذلك منه فهو حرامٌ قبيحٌ شرعًا؛ للنصوص فيه. درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح (ص: 107).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة. تحفة الأحوذي (6/ 58).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
وضابطه: ‌أن ‌كل ‌مقصود ‌محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو فيه مباح إن كان هذا المقصود مباحًا، وإن كان المقصود واجبًا، فهو واجب، فينبغي أن يحترز عن الكذب مهما أمكن. مختصر منهاج القاصدين (ص: 168).
وقال ابن مفلح -رحمه الله- (بعد نقله لكلام ابن قدامة):
وهو مراد الأصحاب ومرادهم هنا لغير حاجة وضرورة؛ فإنه يجب الكذب إذا كان فيه عصمة مسلم من القتل، وعند أبي الخطاب يحرم أيضًا، لكن يسلك أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما. الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 11).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقًّا عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين، واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالمٌ قتْلَ رجل وهو مختفٍ عنده، فله أن ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك، ولا يأثم، والله أعلم. فتح الباري (5/ 300).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
(جواز) ‌كذب ‌الإنسان ‌على ‌نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه... ونظير هذا: الإمام والحاكم يوهِم الخصم خلاف الحق؛ ليتوصل بذلك إلى استعلام الحق، كما أوهم سليمان بن داود إحدى المرأتين بشقِّ الولد نصفين؛ حتى توصل بذلك إلى معرفة عين الأم. زاد المعاد (3/ 310).
وقال رشيد الكنكوهي -رحمه الله-:
والمراد بالكذب ها هنا: هو معناه الحقيقي، إلا أن العلماء احتاطوا فقالوا: المراد به التورية، وردعٌ للعوام عن الاجتراء عليه، وتسميته كذبًا بحسب ما فهمه المخاطَب من كلامك. الكوكب الدري على جامع الترمذي (3/ 53).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ولكن بعض أهل العلم قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث: التورية، وليس الكذب الصريح.
وقال: التورية قد تسمى كذبًا، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله تعالى: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} الصافات: 89، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} الأنبياء: 63، وواحدة في شأن سارة ...» الحديث، وهو لم يكذب، وإنما ورَّى تورية هو فيها صادق.
وسواء كان هذا أو هذا؛ فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثير من أهل العلم، وبعض العلماء يقول: الكذب لا يجوز مطلقًا: لا مزحًا، ولا جدًّا، ولا إذا تضمن أكل مال أو لا...
فالحاصل: أن الكذب حرام، ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقًا، لا هازلًا ولا جادًّا، إلا في المسائل الثلاث. شرح رياض الصالحين (1/ 296).

قوله: «يحدث الرجل امرأته ليرضيها»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ليرضيها» أي: من المباشرة أو المعاشرة، وحذف قرينته للاكتفاء أو للمقايسة، أو وقع اختصار من الراوي. مرقاة المفاتيح (8/ 3152).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: وقع في حديث أم كلثوم عند مسلم: «قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها». تحفة الأحوذي (6/ 58).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فأما كذب الرجل زوجته فهو أن يَعدها ويمنِّيها، ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، يستديم بذلك محبتها، ويستصلح به خُلقها. معالم السنن (4/ 124).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ومعلوم أن الرخصة لم تأت في أن يصدق الرّجل امرأته فيما يعدها به؛ لأن الصدق لا يحتاج أن يقال فيه: «لا جناح عليك».
وفي هذا الحديث: إباحة الكذب فيما يصلح به المرء على نفسه في أهله، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ليس بالكذاب من قال خيرًا، أو نمى خيرًا، أو أصلح بين اثنين».
ومعلوم أن إصلاح المرء على نفسه فيما بينه وبين أهله، بما لا يؤذي به أحدًا، أفضل من إصلاحه على غيره، كما أن ستره على نفسه، أولى به من ستره على غيره. التمهيد (10/ 280- 281).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
إذا كان للرجل أن يكذب في الإصلاح بين اثنين فإصلاحه بينه وبين امرأته أولى بذلك ما لم يقصد بذلك ظلمًا، وكذلك غير امرأته من صديق قد آخاه في الله يخشى فساده، وأن يحرم الانتفاع به في دينه وماله. الاستذكار (8/ 573).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
مثل أن يعد زوجته بأن يغفر لها ويحسن إليها، ونيته في ذلك إنْ قَدَّرَ الله، أو إلى مدة ذلك، وثناؤه وإثابتها في غير هذا بكلمات مشتركة وألفاظ متحملة، يُفهم منها ما يطيِّب قلبها. إكمال المعلم (8/ 77- 78).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- أيضًا:
فيحتمل أن هذا فيما يُحدِّث كل واحد منهما الآخر من وِدِّه له واغتباطه له، وإن كان أكثر مما يعتقده؛ لما في ذلك من الصلاح ودوام الألفة بينهما، والله أعلم. إكمال المعلم (8/ 78).

قوله: «والكذِبُ فِي الحربِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والكذب في الحرب» أي: مع الكَفرة. مرقاة المفاتيح (8/ 3152).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وكذلك في الحرب، كما كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، مثل أن يقول: هل لكم في قتال بني فلان، (أو) غزو بلد كذا، أو تأهبوا لغزو بلد كذا، وقد وجب غزو بني فلان، أو أنا أغزو بلد كذا ونيته وقتًا آخر، وكذلك أن يقول لمبارزه: الخيل سرجك، ويريد فيما مضى، ويقول للجيش من عدوه: مات إمامكم الأعظم؛ ليدخل الذُّعر قلوبهم ويريد النوم، وشبه هذا، أو يقول: غدًا يقدم علينا مدد، وهو قد أعد قومًا من عسكره ليأتوا في صورة المدد.
فهذا من الخُدَع الجائزة والمعاريض المباحة، فمثل هذا كله من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف منها أنها معاريض، ووجوه أخر معروفة...
وأما إذا كانت المخادعة مع العدو، أو المواعدة مع الزوجة بالأيمان والعهود، أو أخذ عوض من مال الزوجة على ما وعدها به، فلا يحل شيء من ذلك عند الجميع، وهو عاصٍ كاذب، آثم فيما لم يف به من ذلك. إكمال المعلم (8/ 77 78).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
والكذب في الحرب: هو أن يظهر من نفسه قوة، ويتحدث بما يشحذ به بصيرة أصحابه، ويقوي همتهم، ويكيد به عدوهم في نحو ذلك من الأمور.
وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الحرب خدعة»، وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كثيرًا ما يقول في حروبه: «صدق الله ورسوله» فيتوهم أصحابه أنه يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول: «إنما أنا رجل محارب». معالم السنن (4/ 123-124).
وقال النووي -رحمه الله-:
واتفق ‌العلماء ‌على ‌جواز ‌خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل، وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء: أحدها: في الحرب، قال الطبري: إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب، فإنه لا يحل، هذا كلامه، والظاهر: إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل، والله أعلم. شرح مسلم (12/ 45).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه تحريضٌ على الخداع في الحرب، وأنه متى لم يفعل ذلك خدعه خصمه، وكان ذلك سببًا لانتكاس الأمر عليه، فلا يُهمل خديعة غريمه، فإنه إن لم يخدعه خدعه هو. البحر المحيط الثجاج (30/ 365).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
الكذب حرام بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، جائز بإجماعها في مواطن أصلها: الحرب، أَذِنَ اللهُ فيه، وفي أمثاله رفقًا بالعباد؛ لحاجتهم إليه لضعفهم، وليس للعقل في تحريمه ولا في تحليله أثر، وإنما هو إلى الشرع كما بيناه، ولو كان تحريم الكذب كما يقول المبتدعون عقلًا، ويكون التحريم صفة نفسية كما يزعمون، ما انقلبت حلالًا أبدًا. عارضة الأحوذي (7/127).

قوله: «والكذب ليصلح بين الناس»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والكذب ليصلح بين الناس» أي: فيما بينهم من المخاصمة المالية وغيرها. مرقاة المفاتيح (8/ 3152).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
الكذب في الإصلاح بين اثنين هو أن ينْمِي من أحدهما إلى صاحبه خيرًا، أو يبلغه جميلًا، وإن لم يكن سمعه منه، ولا كان إذنًا له فيه؛ يريد بذلك الإصلاح. معالم السنن (4/ 123).
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:
فالإنسان إذا قصد الإصلاح بين الناس، وقال للشخص: إنّ فلانًا يثني عليك ويمدحك ويدعو لك وما أشبه ذلك من الكلمات، فإن ذلك لا بأس به. شرح رياض الصالحين (3/ 39).
وقال المعلمي -رحمه الله-:
فالمعنى: أن جريان عادة الرجل بالسعي للإصلاح بين الناس، فيقول الخير، ويَنْمي الخير، ينافي أن يكون كذابًا، فإن الكذاب هو مَن كثُر كذبه وفحش، فصار سجية له... وفوق هذا، فإنما يعتاد السعي بالإصلاح من يرجو أن يتيسر له ذلك، وإنما يتيسر لمن عُرف بالصدق، واشتهر به؛ لأنه هو الحريّ بأن يقبل كلٌّ من الخصمين قوله، ويعتمد على خبره، ومن عُرف بالكذب وشُهِر به بعيد عن ذلك.
فإن قيل: فما فائدة الحديث على هذا الوجه؟
قلتُ: من فائدته: إرشاد المتخاصمينِ إلى أن يقبل كلٌّ منهما كلام المصلِح الذي عُرف باعتياد الإصلاح، وقول الخير، ونمي الخير، ويعتمد على خبره؛ لأن تلك الحال شاهدة له أنه ليس بكذاب. إرشاد العامة إلى معرفة الكذب وأحكامه، ضمن آثار المعلمي(19/ 260- 261).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
فيه: تصريح بجواز الكذب وحِلِّه في الأشياء المذكورة، وحصر ذلك، فلا يجوز في غيرها. الأزهار شرح المصابيح، مخطوط، لوح (424) و(425).  

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا