«لا يُصِيبُ عبدًا نَكْبَةٌ فما فوقَهَا أو دونَهَا إلَّا بذنبٍ، وما يعفو اللَّهُ عنه أكثرُ»، وقرأَ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30.
رواه الترمذي برقم: (3252)، من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7732)، والتراجعات برقم: (21).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«نَكْبَةٌ»:
مُصِيبَة من مصائب الدَّهْر. المحكم، لابن سيده (7/ 68).
وقال ابن هشام -رحمه الله-:
المصيبة التي تعدل بصاحبها عن جانب السلامة والاستقامة. تصحيح الفصيح وشرحه، لابن درستويه (شرح الفصيح (ص: ٧١).
شرح الحديث
قوله: «لا تصيب عبدًا نكبةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «نكبة فما فوقها» التنكير فيها للتقليل لا للجنس؛ ليصح ترتيب «فوقها، ودونها» في العِظَم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل وجهين: فوقها في العِظَم ودونها في الحقارة، وعكس ذلك، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البقرة: 26. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1347).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«لا يصيب عبدًا نكبة» أي: يُبلى ببلية «فما فوقها» في العِظَم «أو دونها» في الحقارة، ويصح عكسه، ونظيره قوله: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البقرة: 26. فتح الإله في شرح المشكاة (5/452).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- معلقًا:
«لا يصيب عبدًا» التنوين للتنكير، «نكبة» أي: محنة وأذى، والتنوين للتقليل لا للجنس؛ ليصح ترتب ما بعدها عليها بالفاء، وهو «فما فوقها» أي: في العظم «أو دونها» في المقدار.
وأما قول ابن حجر: «فما فوقها» في العظم أو دونها في الحقارة، ويصح عكسه فغير صحيح؛ لأنه خلاف معروف اللغة والعُرْف، وأما قوله: ونظيره قوله: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البقرة: 26، ممنوع؛ لأن الآية ليس فيها إلا ذكر فوقها، واختلفوا في معناه، فالجمهور على أن المعنى: فما فوقها في الكبر كالذباب والعنكبوت، وقال أبو عبيدة: أي: فما دونها، كما يقال: فلان جاهل، فيقال: وفوق ذلك، أي: وأجهل... «إلا بذنب» أي: يصدر من العبد. مرقاة المفاتيح (3/ 1138-1139).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«إلا بذنب» أي: بسبب ذنبه صدر منه، وتكون تلك المصيبة التي لحقته في الدنيا كفارة لذنبه. شرح المصابيح (2/ 320).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«إلا بذنب» يصدر من العبد، وهو لا يستلزم أنَّ كل ذنب يقابله بلية في مقابلة ذنب، ومن ثم قال: «وما يعفو اللَّهُ عنه أكثرُ». فتح الإله في شرح المشكاة (5/452).
قوله: «وما يعفو الله عنه أكثر»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«وما» أي: الذي «يعفو الله عنه» من الذنوب من غير أن يجازيه في الدنيا ولا في الآخرة «أكثر» وأجزل من ذلك، فانظر إلى حسن لطف الله بعباده -جعلنا الله منهم-. شرح المصابيح (2/ 321).
وقال زين العرب -رحمه الله-:
أي: لا تصيب العبد مشقة في الدنيا إلا بسبب ذنب صدر منه، وتكون تلك المصيبة التي لحقته في الدنيا كفارة لذنبه، والذي يعفو الله عنه من الذنوب من غيره أن يجازيه في الدنيا، ولا في الآخرة، أكثر وأجزل من ذلك، فانظر إلى حسن لطف الله تعالى بعباده. شرح المصابيح، مخطوط، لوح رقم (98).
قوله: وقرأ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله تعالى: «{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: 30» يعني: كل مصيبة لحقتكم في الدنيا، تكون بسبب ذنوبكم، وتكون كفارة لذنوبكم.
{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30 يعني: يعفو عن كثير من ذنوبكم، ولم يجازيكم بها لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ فضلًا منه تعالى ورحمة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 404).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وقرأ» -عليه الصلاة والسلام-: «{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ}» أي: من مرض وشدة وهلاك وتلف في أنفسكم وأموالكم، «{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}» من الذنوب، «{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30» من ذنوبكم فضلًا منه تعالى، قيل: هذا يختص بالمذنبين، وأما غيرهم فإنما يصيبهم مصائب لرفع درجاتهم. شرح المصابيح (2/ 321).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
{وَمَا أَصَابَكُمْ} الشورى: 30: «ما» شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط، «{مِنْ مُصِيبَةٍ} الشورى: 30» أي: من مرض، وشدة، وهلاك، وتلف في أنفسكم وأموالكم، وهذا يختص بالمذنبين، وأما غيرهم فإنما تصيبهم لرفع درجاتهم، «{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: 30» الرواية بالفاء، وقرأ نافع وابن عامر بحذفها في الآية، أي: بذنوب كسبتها أنفسكم، فـ«ما» موصولة أو موصوفة، ويمكن أن تكون مصدرية أي: بكسبكم الآثام، وانتساب الاكتساب إلى الأيدي؛ لأن أكثر الأعمال تزاول بها، والمعنى: ما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، «{وَيَعْفُو} الشورى: 30» أي: فضلًا منه تعالى، «{عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30» أي: كثير من الذنوب، أو كثير من المذنبين، وتكتب الألف بعد واو يعف، مع أنه مفرد على الرسم القرآني. مرقاة المفاتيح (3/ 1139).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
«{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: 30 أي: وما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي، قرأ نافع، وابن عامر «{بِمَا كَسَبَتْ}» بغير فاء، وقرأ الباقون بالفاء، وما في أصابكم هي الشرطية؛ ولهذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور، ولا يجوز حذفها عند سيبويه والجمهور، وجوز الأخفش الحذف؛ كما في قوله: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} الأنعام:121، وقول الشاعر:
مَن يفعل الحسنات الله يشكرها *** والشر بالشر عند الله مثلان
وقيل: هي الموصولة، فيكون الحذف والإثبات جائزين، والأول أولى.
قال الزجاج: إثبات الفاء أجود؛ لأن الفاء مجازاة جواب الشرط، ومَن حذف الفاء فعلى أن: ما، في معنى: الذي، والمعنى: الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم.
قال الحسن: المصيبة هنا الحدود على المعاصي، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها، «{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}» من المعاصي التي يفعلها العباد فلا يعاقب عليها، فمعنى الآية: أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب، ويعفو عن كثير من الذنوب.
وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه، أو يكفر عنه من ذنوبه، وقيل: هذه الآية مختصة بالكافرين على معنى: أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفرًا عنهم لذنب ولا محصلًا لثواب، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم؛ فلا يعاجلهم في الدنيا؛ بل يمهلهم إلى الدار الآخرة، والأولى حمل الآية على العموم، والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب ورفع الخطاب به.
قال الواحدي: وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين: صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عفا عنه في الدنيا، وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين، وأما الكافر فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة. فتح القدير (4/ 617).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله؟ حدثنا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30، وسأفسرها لك يا علي، ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه. الدر المنثور (7/ 354).
وقال يوسف الأردبيلي -رحمه الله-:
قال العلماء: هذا (الحديث) عام مخصوص بالأنبياء والأولياء، المحفوظين من المعاصي، وبالأطفال والمجانين؛ وذلك لرفع الدرجات. الأزهار شرح المصابيح، مخطوط، لوح رقم (192).