الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«تُعْرَضُ الأعمالُ في كلِّ يومِ خميسٍ واثنينِ، فيغفِرُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في ذلك اليومِ، لكلِّ امرئٍ لا يشركُ باللهِ شيئًا، إلَّا امرأً كانت بينَه وبين أخيه شَحْنَاءُ، فيقالُ: اُرْكُوا هذينِ حتى يصطلِحَا، اُرْكُوا هذينِ حت يصطلِحَا».


رواه مسلم برقم: (2565)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وفي رواية عند مسلم برقم: (2565)‌ «تُفتح ‌أبواب ‌الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس».
وفي رواية عند مسلم: «اتركوا، أو اركوا، هذين ‌حتى ‌‌يَفِيئَا».
وفي رواية عند مسلم: «إلا المتهاجرين».


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«اُرْكُوا»:
أي: أخِّروا. تهذيب اللغة، الأزهري (10/ 190).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «اركوا..» بضم الهمزة وسكون الراء، أي: أخروهما، وهو بمعنى الرواية الأخرى: «أنظروا» ، يقال: ركاه يركوه: إذا أَخَّره..، وقد جاء في رواية السمرقندي والسجزي: اتركوا؛ مفسرًا، وفي الموطأ: «اتركوا أو اركوا» على الشك. مشارق الأنوار (1/ 290).

«شحناء»:
أي: عداوة. مطالع الأنوار، لابن قرقول (6/ 19).
قال ابن منظور -رحمه الله-:
والشحناء: الحقد، والشحناء: العداوة، وكذلك الشِّحنة بالكسر، وقد شحن عليه شحنًا وشاحَنَه، وعدوٌّ مُشاحِن، وشاحَنَه مُشَاحنةً: مِن الشَّحنَاء. لسان العرب (13/ 234).

«يصطلحا»:
أي: يَتَصَالَحَا، ويَزُولَ عنهما الشَّحْنَاءُ. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3149).


شرح الحديث


قوله: «تُعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«تعرض الأعمال» أي: أعمال العباد على الله، كأنها تعرضها الكرام الكاتبون أو من يعلمه الله. التحبير (6/ 653).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«تعرض الأعمال» أي: أعمال العباد على الله -سبحانه وتعالى-، «في كل يوم خميس واثنين». الكوكب الوهاج (24/ 317).
وقال الزرقاني-رحمه الله-:
الظاهر أنه أريد المكلفين منهم، بقرينة ترتيبه المغفرة على العرض وغير المكلف لا ذنب له يغفرشرح الزرقاني على الموطأ(4/٤٢١)
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قال النووي -رحمه الله-: وهذا العَرض قد يكون بنقل الأعمال من صحائف الحفظة إلى محل آخر، ولعله اللوح المحفوظ كما قال تعالى: {‌إِنَّا ‌كُنَّا ‌نَسْتَنْسِخُ ‌مَا ‌كُنْتُمْ ‌تَعْمَلُونَ} الجاثية: 29، قال الحسن : الخزنة تستنسخ من الحفظة صحائف الأعمال، وقد يكون العرض في هذين اليومين ليباهي الله سبحانه بصالح أَعمال بني آدم الملائكة -عليهم السلام- كما يباهيهم بأهل عَرفة وقد يكون العرض لتعليم الملائكة -عليهم السلام- المقبول مِن أعمال بني آدم من المردود كما جاء أن الملائكة تصعد بصحائف الأعمال لتعرضها على الله، فيقول: ضعوا هذا، واقبلوا هذا فتقول الملائكة: وعزتك ما علمنا إلا خيرًا، فيقول: إن هذا كان لغيري، ولا أَقبل من العمل إلا ما ابتُغي به وجهي. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: ولا يعارض هذا الحديث ما صح مرفوعًا: إن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل.
قال الولي العراقي: لاحتمال عرض الأعمال عليه تعالى كُل يومٍ ثم تُعرض عليه كُل اثنين وخميس، ثم تُعرض عليه أَعمال السَّنة في شعبان، فتعرض عرضًا بعد عرضٍ، ولكل عَرضٍ حكمة يستأثر بها مع أَنه لا تخفى عليه من أعمالهم خافية أَو يطلع عليها مَن شاء من خلقِه ويحتمل أَنها تُعرض في اليوم تفصيلًا وفي الجمعة إجمالًا أو عكسه اهـ منه.الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم(24/٣١٨).

قوله: «تفتح أبواب السماء»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قال الباجي: معنى فتح أبوابها: كثرة الصَّفح والغُفران في هذين اليومين، ورفعة المنازل، وإعطاء الجزيل من الثواب، ويحتمل أنْ يكون على ظاهره، وأن فتح أبوابها علامة على ذلك ودليل عليه.إكمال المعلم(8/٣٣).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ويحتمل أن المراد بأبواب الجنة: أسباب دخولها، وهي العفو والمغفرة. والمراد من فتحها: اتساعها واستيعاب داخليها. والمعنى: تتسع رحمة الله وإحسانه وفضله في يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع أكثر من اتساعها وشمولها في الأيام الأخرى...وهذا على القول بأن الجنة والنار موجودتان الآن والرأي الأول(كثرة الصفح والغفران وهو ما نقله القاضي عن الباجي) هو الصواب ففي الرواية الثانية «تعرض الأعمال في كُلِّ يوم خميس واثنين» وفي الرواية الثالثة «تُعرض أعمال الناس» أي: على الله «في كُل جمعة» أي: في كل أسبوع «مرتين» أي مرة (يوم الاثنين) ومرة (يوم الخميس). فتح المنعم شرح صحيح مسلم(10/٢٦).

قوله: «فيغفر اللهُ -عز وجل- في ذلك اليومِ لكل امرئٍ لا يُشرك بالله شيئًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم» أي: في يوم عرض الأعمال عليه، وهما اليومان المذكوران، «لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا»، «لكل امرئ» وامرأة، «لا يشرك بالله شيئا» من المخلوق الصغائر من الذنوب دون الكبائر. الكوكب الوهاج (24/ 317).

قوله: «إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شَحناء»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
والشحناء: العداوة والشنآن، كأنه شحن قلبه بغضًا له، أي: ولاه. إكمال المعلم (8/ 33).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«شحناء» عداوة، فإنه لا يغفر لهما، أو لا تُعرض أعمالهما. التحبير (6/ 653).

قوله: «فيقال: اركوا هذين حتى يصطلحا»:
قال ابن عبد البر-رحمه الله-:
وقيل معناه أخروا هذين يقال وخر وأنظر هذا وأرج هذا وارك هذا، كُلّ ذلك بمعنى واحد.الاستذكار(8/٢٩٤)
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «اركوا هذين» قال الإمام: أي: أَخِّرُوهما، قال ابن الأعرابي: يقال: ركاه يركوه: إذا أخّره، قال القاضي: يؤيد هذا ما في الرواية الأخرى: «أنظروا» بمعنى: أَخِّروا، وقد رواه السمرقندي هنا: «اتركوا»، وفي (الموطأ): «اركوا واتركوا» (في الموطأ على الشك). إكمال المعلم (8/ 33).
قال العزيزي -رحمه الله-:
أي: أخروا مغفرتهما.السراج المنير(3/31)
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
ومعنى: «اركوا هذين» أي: أخِّروهما حتى يرجعا عن التقاطع، وإنما يؤخر غفران ما بينهما لأجل أن أمرهما لم ينفصل بعد بينهما. وفي هذا تحذير من العَداوة واللجاج الإفصاح (8/ 74).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«هذين» وأتى ‌باسم ‌الإشارة ‌بدل ‌الضمير لمزيد التعيين والتمييز. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3210).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«هذين» المتباغضين، أي: أَخِّروا مغفرة ذنوبهما مطلقًا؛ زجرًا لهما عن الشحناء أو ذنب الشحناء فقط، «حتى يصطلحا» أي: يرجعا إلى الصلح والمودة. الكوكب الوهاج (24/ 317).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«حتى يصطلحا» أي: يرجعا إلى الصلح والمودة وكرره بقوله: «اركوا هذين حتى يصطلحا» تأكيدًا لما قبله. وفي السنوسي: وأتى باسم الإشارة (هذين) بدل الضمير لمزيد تعيينهما وتمييزهما بتلك الخِصلة القبيحة بين المسلمين، ففيه إشارة إلى عظيم قُبحها وشناعتها حتى اشتهر صاحبها وصار كالحاضر المحسوس ا. هـالكوكب الوهاج، شرح صحيح مسلم(24/٣١٧)

‌قوله: «حتَّى يَفيئَا»
أي: حتى يرجعا عن الغضب إلى الصلح.المفاتيح شرح المصابيح(5/٢٣٧).
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا: تحذير من العداوة واللجاج.
وإنما جعل هذان اليومان كالفصلين في الأسبوع، يتقدم كل يوم منهما يومان، ويتأخر عنه يومان، وتكون الجمعة منفردة بنفسها.
وفيه: تنبيه على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم أمَّته بأن الله يستعرض صحائف الخلق في كل أسبوع مرتين، فيمحو السيئة، ويغفر الهفوة، ويعفو عن الزلة، إلا حالة المتشاحنين؛ فإنه لو غفر أحدهما كان ذلك طيًّا لحق مُشاحِنِه، فلما كان الأمر بينها واقفًا من جهتهما معًا وقف الأمر في قضيتهما على ما يفضي إليه حالهما، وكان هذا شديدًا في تحذير المؤمن من المشاحنة، وهي أن يطيع كل من المسلمين شحناه في الآخَر، ويتبع حقْدَهُ وَدَخَلَه ووتره.
فأما موجباتها فكثيرة؛ فمنها: ما يكون من حسد يبلغ بصاحبه إلى بغض المحسود ومشاحنته، وأكثر ما يعرض هذا في الأقرب نسبًا أو حالًا أو دارًا أو ولايةً فالأقرب.
وقد يكون الشحناء عن الكبر؛ فإني رأيتُ أكثر ما يثير الشر بين المسلمين الكبر؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} غافر: 56، يعني: حل لطباعه أن تمتد إلى ما تقصر عنه مقاديرهم...
ومن الشحناء: البغي، والبغي يتنوع، وأظهره وأشده: الذي يفضي بصاحبه إلى قتال أهل الحق، كما قال -سبحانه وتعالى-: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} الحجرات: 9 الآية...
ومن البغي أيضًا: أن يبغي الرجل على أخيه، ويرى أن أخاه هو الباغي، وهذا فيه خلاص له من دائه هذا بأن يحكِّم في علّته أمرَ الشرع، فإن حكَّم الشرعَ لصاحبه انقادا، وله قَنِع.
وقد بَيَّنَّا أن الشحناء نتيجة الكبر وفرعه، وأن الكبر هو: بطر الحق وغمط الناس...
وليس من التشاحن: الرجلان يكون بينهما الحكومة أو العَرَض أو المعاملة؛ فيبغي أحدهما على الآخر؛ كما قال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ص: 24، إلا أن هذا في الخلطاء من المؤمنين لا ينبغي أن يبلغ بهم إلى التقاطع والتهاجر، بل أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه، وأيسرهما لأخيه، وأصبرهما على رفيقه؛ لقوله: «يلتقيان فيُعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
فأما المتشاحنان الذي ينصرف إليهما إرجاء الغفران؛ فإنهما قد يكونا متحاسدين أو متكبرين أو باغيين أو متقاطعين أو متنافسين أو متماثلين أو متقاربين؛ فليحذر المؤمن من هذه الحالة، وليغفرها لأخيه خائفًا أن يفوته بشحناء أخيه ودُّ ومحبة الله له، وليبادر الفيئة منها؛ فإن من استبدل من محبة الله ومغفرته شحناءَ أخيه لمِمَّن يشمله قول الله -عز وجل-: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} الكهف: 50. الإفصاح (8/74).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
دلَّ (الحديث) على أنه يجب على الإنسان أنْ يُبادر بإزالة الشّحناء والعداوة والبغضاء بينه وبين إخوانه، حتى وإن رأى في نفسه غضاضة وثقلًا في طلب إزالة الشَّحناء فليصبر وليحتسب؛ لأن العاقبة في ذلك حميدة، والإنسان إذا رأى ما في العمل من الخير والأجر والثواب سهل عليه، وكذلك إذا رأى الوعيد على تركه سهل عليه فعله، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يذهب إلى الشخص ويقول: يجب أن نتصالح ونزيل ما بيننا من العداوة والبغضاء فبإمكانه أن يُوسّط رجلًا ثقة يرضاه الطرفان.شرح رياض الصالحين(6/٢٤٧)
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ليس المقصود من أحاديث الباب (التي رواها مسلم) النهي عن الشحناء؛ لأن النهي عن الشحناء قد سبق بألفاظ كثيرة، ولكن المقصود منها التّخويف والوعيد من عاقبة عدم الانتهاء عمّا نهى الله عنه وكأنه تعالى يقول: انتهوا عن الشحناء لتغنموا مَغفرة الله لذنوبكم فإن المتشاحنين لا تُغفر ذنوبهما حتى يصطلحا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم(10/٢٦)


ابلاغ عن خطا