الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«أتاكم أهلُ اليمنِ، هم أرقُّ أفئدةً وألينُ قلوبًا، الإيمانُ يمانٍ، والحكمةُ يمانيةٌ، والفخرُ والخيلاءُ في أصحابِ الإبلِ، والسكينةُ والوقارُ في أهلِ الغنمِ».


رواه البخاري برقم: (4388) واللفظ له، ومسلم برقم: (52)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ورواه أحمد برقم: (17406)، من حديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ بلفظ: «...وأنجع طاعة».
والطبراني في الكبير برقم: (823) بلفظ: «وأسمع طاعة».
صحيح الجامع برقم: (2530)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1775).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«اليمن»:
سمّيت اليمن لأنها عن ‌يمين ‌الكعبة، والشام لأنها عن شمال الكعبة. مجاز القرآن، لأبي عبيدة (2/ 248).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
بفتحتين، إقليم معروف؛ سُمي بذلك لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة، والنسبة إليه يَمَنِيٌّ على القياس، ويمان بالألف على غير قياس. المصباح المنير(2/ 682).

«أرقُّ»:
أي: ألين وأقْبَلُ للموعظة، والمراد بالرقة: ضد القسوة والشدة. النهاية، لابن الأثير (2/ 252).

«أفئدة»:
الفؤاد: القلب، وقيل: وسطه، وقيل: الفؤاد: غشاء القلب، والقلب حبَّتُه، وسويداؤه، وجمعه: أفئدة. النهاية، لابن الأثير (3/ 405).

«ألْيَنُ»:
بمعنى: السكون والوقار والخشوع. النهاية، لابن الأثير (4/ 286).

«الحِكمة»:
كل كلمة ‌وعظتك وزجرتك ودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم. جمهرة اللغة، لابن دريد (1/ 564).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«والحِكمة» عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. النهاية (1/ 419).

«الفخر»:
ادعاء العِظَمِ والكبر والشرف. النهاية، لابن الأثير (3/ 418).

«الخيلاء»:
الكِبر والعُجب. النهاية، لابن الأثير (2/ 93).

«السكينة»:
أي: الوقار والتَّأَنِّيْ في الحركة والسير. النهاية، لابن الأثير (2/ 385).

«الوَقار»:
الحُلم والرزانة. النهاية، لابن الأثير (5/ 213).

«وأنجع طاعة»:
يُقال: نجَع له بحق إذا أقرّ به، وبالغ فيه. فيض القدير، للمناوي(3/ 67).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
‌أنْجَع: ‌بمعنى ‌أنصح.جامع المسانيد(6/ 108).  


شرح الحديث


قوله: «أتاكم أهل اليمن»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «أتاكم أهل اليمن» هو إخبار لأصحابه -صلى الله عليه وسلم- عند قدوم أهل اليمن، كما تقتضيه «أتاكم». التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 268).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أتاكم» أيها المؤمنون من الأنصار والمهاجرين «أهل» قطر «اليمن» مسلمين طائعين، وهذا الخطاب صريح في أن المراد بأهل اليمن: أهل قطر اليمن لا الأنصار ولا أهل الحجاز؛ لأنهم هم المخاطبون، وفي هذه الرواية زيادة ضمير المخاطبين. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (2/ 433).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-:
ويذهب كثير من الناس في هذا إلى أنهم الأنصار، يقول: هم نصروا الإيمان، وهم يمانية، فنسب الإيمان إليهم على هذا المعنى، وهو أحسن الوجوه عندي. غريب الحديث (2/ 164).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
أما ما ذُكر من نسبة الإيمان إلى اليمن وأهله، فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة، ثم المدينة حرسهما الله، فحكى أبو عبيد إمام الغريب، ثم من بعده في ذلك أقوالًا:
أحدها: أنَّ المراد بذلك مكة، فإنه يقال: إن مكة من تهامة، ويقال: إن تهامة من أرض اليمن.
والثاني: إن المراد مكة والمدينة، فإنه يروى في الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا الكلام وهو يومئذٍ بتبوك، ومكة والمدينة حينئذٍ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن، وهو يريد مكة والمدينة، فقال: «الإيمان يمانٍ»؛ ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذٍ من ناحية اليمن، كما قالوا: الركن اليماني، وهو بمكة إلى ناحية اليمن.
الثالث: ما ذهب إليه كثير من الناس، وهو أحسنها عند أبي عبيد أن المراد بذلك: الأنصار؛ لأنهم يمانون في الأصل، فنسب إليهم؛ لكونهم أنصاره.
وأنا أقول -والله الموفق-: لو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه؛ وَلَمَا تركوا الظاهر؛ ولَقَضَوْا بأن المراد بذلك اليمن، وأهل اليمن على ما هو مفهوم من إطلاق ذلك؛ إذ من ألفاظه: «أتاكم أهل اليمن»، والأنصار من جملة المخاطبين بذلك، فهم إذًا غيرهم.
وكذلك قوله: «جاء أهل اليمن»، وإنما جاء حينئذٍ غير الأنصار، ثم إنه وصفهم -صلى الله عليه وسلم- بما يقضي بكمال إيمانهم، ورتب عليه قوله: «الإيمان يمانٍ»؛ فكان ذلك نسبة للإيمان إلى من أتاهم من أهل اليمن لا إلى مكة والمدينة، ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة؛ لأن من اتصف بشيء وقوى قيامه به، وتأكد اضطلاعه به نسب ذلك الشيء إليه؛ إشعارًا بتميزه به، وكمال حاله فيه، وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذٍ في الإيمان، وحال الوافدين منهم في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وفي أعقاب موته، كأويس القرني، وأبي مسلم الخولاني وأشباههما ممن أسلم قبله، وقوى إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعارًا بكمال إيمانهم؛ من غير أن يكون في ذلك نفي لذلك عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله: «الإيمان في أهل الحجاز»، ثم إن المراد بذلك: الموجودون منهم حينئذٍ، لا كل أهل اليمن في كل زمان، فإن اللفظ لا يقتضيه، هذا -والله أعلم- هو الحق في ذلك، ونشكر الله سبحانه على هدايتنا له -والله أعلم-. صيانة صحيح مسلم (ص: 210-212).
وقال الصنعاني -رحمه الله- مُتعقبًا ابن الصلاح:
قلتُ: ونِعْمَ ما قال: إن الحق أن المراد: أهل اليمن حقيقة، وأما قوله: أنه لم يرد إلا الموجودين، ففيه نظر، فإن ظاهر الْمَمَادح الواردة في أهل البقاع مثل قوله: «أهل الشام سوط الله في الأرض» الحديث، ونحوه ما أريد بها: الموجودون؛ بل أهل ذلك المحل في أي زمان، بل لا يصح في حديث أهل الشام إرادة الموجودين، فإنه -صلى الله عليه وسلم- تكلم بهذا قبل إسلام أهل الشام، وما هذه من الشيخ أبي عمرو (أي: ابن الصلاح) إلا نعرة مذهبية كأنه رأى أهل اليمن في عصره ليسوا من أهل المذاهب الأربعة؛ فحمل الحديث على الموجودين علمًا أن الموجودين عند تكلُّمه -صلى الله عليه وسلم- بالحديث لم يكن الأكثر منهم قد أسلم، فإنه ذكر في شرح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- تكلم بهذا الحديث وهو في تبوك، ولم يكن حينئذٍ كل أهل اليمن قد أسلموا، بل البعض منهم، فلو حمل الحديث على الجماعة الذين أتوه -صلى الله عليه وسلم- من أهل اليمن لكان أوفق وأنسب لقوله: «أتاكم» على أن هذه الأحاديث الواردة في الفضائل لقبيلة أو بلدة ليست عامة للأفراد، بل هي خاصة في نوع مَن وردت فيه فلا ينافيها خروج أفراد عن تلك الفضيلة، والحق أن أهل اليمن في كل الأعصار منهم الأخيار والأشرار، ولا تنافي الحديث، كما أن أهل الشام كذلك فهي فضيلة للنوع لا للأفراد، وهي قاضية بأن الأخيار أغلب من الأشرار. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 268).
وقال التوربشتي -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: هذه وجوه متقاربة، مع ما فيها من التعمق، وبعد التناسب بين الفصل الأول والثاني، فإنه قال: «أتاكم أهل اليمن» يخاطب بذلك أصحابه، والجمهور منهم أهل الحرمين، وما حولهما، فعلمنا أنَّ المبشر بهم غير المخاطبين. الميسر في شرح مصابيح السنة (4/ 1356).

قوله: «هم أرق أفئدة وألين قلوبًا»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
يريد -والله أعلم - بلين القلب: سرعة خلوص الإيمان إلى قلوبهم، وحسن قبولهم له، ويقال: الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبَّتُه وسويداؤه، وإذا رقَّ الغشاء أسرع نفوذ الشيء إلى ما وراءه ...، وصف الأفئدة بالرقة والقلوب باللين؛ وذلك أن الفؤاد غشاء القلب، وإذا رقَّ نفذ القول، وخلص على ما وراءه، وإذا غلظ تعذَّر وصوله إلى داخله، فإذا صادف القلب لينًا علق به ونجع فيه. أعلام الحديث (3/ 1521-1780).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ومعنى: أَرَقُّ أفئدة وقلوبًا وألين وأضعف متقارب، وكلها راجع إلى ضد القسوة والغلظ؛ وذلك أن من رَقَّ قلبُه ولان قَبِل المواعظ، وخضع للزواجر، وسارع إلى الخير، وصفا للإيمان والفقه والحكمة، بخلاف من قسا قلبه وغلظ، وكثفت حجب الكبر والفخر والعجب عليه.
وقد يكون ذكر القلوب والأفئدة ها هنا بمعنى واحد، تكررت باختلاف لفظ كما اختلف اللفظ الذي قبلها، وقد يكون بينهما فرق؛ إذ قيل: إن الفؤاد داخل القلب، فوصف القلب باللين والضعف، والفؤاد بالرقة، أي: أن قلوبهم أسرع انعطافًا وتقلبًا للإيمان من غيرها؛ إذ أفئدتها أرقُّ وأصفى لقبول الإيمان والحكمة، وأقل حجبًا وأغشية من غيرها، وقد يكون الإشارة بلين القلب إلى خفض الجناح، ولين الجانب، والانقياد والاستسلام وترك الغلو، وهذه صفة الظاهر، والإشارة برقة الأفئدة إلى الشفقة على الخلق والعطف عليهم والنصح لهم، وهذه صفة الباطن، وكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقًا ظاهرًا وباطنًا، وقد يكون الإشارة بلين القلوب ورقة الأفئدة إلى كثرة الخوف والانزعاج للمواعظ والأذكار. إكمال المعلم (1/ 301- 302).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«الرقة» ضد الغلظ والصفاقة، و«اللين» مقابل القساوة، فاستعيرت في أحوال القلب، فإذا نبا عن الحق، وأعرض عن قبوله ولم يتأثر بالآيات والنذر يوصف بالغلظ، وكأن شغافه صفيق لا ينفذ فيه الحق، وجرمه صلب لا يؤثر فيه الوعظ، وإذا كان بعكس ذلك يوصف بالرقة واللين، وكأن حجابه رقيق لا يأبى نفوذ الحق، وجوهره لين يتأثر بالنصح، ويحتمل أن يكون المراد بالرقة: جودة الفهم، وباللين: قبول الحق؛ فإن رِقَّة العوام تعد لقبول الأشكال بسهولة، واللين يقتضي عدم الممانعة والانفعال عن المؤثر بيسر، ولعله لذلك أضاف الرقة إلى الفؤاد، واللين إلى القلب، فإنه وإن كان الفؤاد والقلب واحدًا، لكن الفؤاد فيه معنى التَّفَؤُد، وهو التَّوَقُّد، يقال: فَأَدْتُ اللحم، أي: شويته، والقلب فيه معنى التقلب، يتقلب حاله حالًا فحالًا؛ بسبب ما يعتريه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 578).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«ألين قلوبًا» وصف لهم بسلامة الفطرة، وخلوص النية، وصحة الباطن؛ لأن اللين من مدح القلوب؛ كما أن القساوة من ذمِّها.
وكذلك رقَّة الأفئدة -جمع: فؤاد- من مدحها؛ كما أن غلظها من ذمِّها. والقلوب هي الأفئدة في الحقيقة، وإنما الاستعمال قد خصص كلًّا منهما بموضع في الذكر، وإن كان لا فرق بينهما في الأصل، وقد استعمل الأطباء الفؤاد في قسم المعدة، وإنما جاز ذلك لأنه مفارق للقلب الذي هو الفؤاد، وانتصب قلوبًا وأفئدةً على التمييز والتخصيص، ومن عادة المميز أن يكون واحدًا مفردًا، تقول: هؤلاء أقوى منكم قلبًا وأحسن وجهًا، وإنما جمع هاهنا كما جاء في قوله تعالى: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} الكهف: 103، ولم يقل: عملًا؛ لأنه لو قال: عملًا لجاز أن يتوهَّم أن كلهم خسروا في عمل واحد لا في أعمال، فجمع لإزالة هذا اللبس، وهذا مطرد فيما كان من جنسه، إلا أن هذا التأويل بالآية أخصّ؛ لأنهم يجوز أن يكونوا كلهم مشتركين في قلب واحد. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/ 534).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«أرَقُّ قلُوبًا وأَلْيَنُ أفْئِدَة» القلوب: جمع القلب، وهو أخص من الفؤاد في الاستعمال.
وقيل: هما قريبان من السواء، وكرر ذكرهما لاختلاف لفظيهما تأكيدا. وقلب كل شيء: لُبًّه وخالصه. النهاية في غريب الحديث(4/ 96)
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
فوصف القلوب بالرقة، والأفْئِدَة باللين، وكأن القلب أَخصّ من الفؤاد في الاستعمال، ولذلك قالوا: أصبت حبّة قلبه، وسويداء قلبه. لسان العرب (1/ 687)
وقال النووي -رحمه الله-:
المشهور: أن الفؤاد هو القلب، فعلى هذا: يكون كرر لفظ القلوب بلفظين، وهو أولى من تكريره بلفظ واحد، وقيل: الفؤاد غير القلب وهو عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب، وأما وصفها باللين والرقة والضعف فمعناه: أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير، سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين. شرح مسلم (2/ 33).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أقول: يمكن أنْ يُراد بالقلب والفؤاد: ما عليه أهل اللغة في كونهما مترادفين، فكرر ليناط به معنى غير المعنى السابق، فإن الرقة مقابلة للغلظة، واللين مقابل للشدة والقسوة، فوصفت أولًا بالرقة؛ ليشير إلى التخلق مع الناس وحسن المعاشرة مع الأهل والإخوان، قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: 159، وثانيًا باللين؛ ليؤذن بأن الآيات النازلة والدلائل المنصوبة ناجعة فيها، وصاحبها مقيم على التعظيم لأمر الله...، وهذا يشمل حسن المعاملة مع الله تعالى، والمعاشرة مع الناس، فَلِشِدَّةِ شكيمة اليهود وعنادهم قيل فيهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} البقرة: 74، وللين جانب المؤمنين وصفوا بقوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر: 23. الكاشف عن حقائق السنن (12/ 3956).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ووصْفُهَا بالضعف والرِّقَّة إعلام بأنها سريعة الخشوع، والاستكانة والتأثر عند سماع القوارع سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها -صلى الله عليه وسلم- قلوب أهل المشرق؛ حيث قال: «رأس الكفر المشرق»، وفي لفظ: «غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز». التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 269).

قوله: «وأسمع طَاعَة»:
قال العزيزي -رحمه الله-:
«اسمع طَاعَة» لله ورسوله. السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير (2/ 197)
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأسمع طاعة» لله ولرسوله ولأمرائِهم. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 300).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
قال نصر ابن علي: سألت الأصمعي عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في أهل اليَمن: «هم أرَقُّ قلُوبًا وأبخع طَاعَة» ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح. فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدًا وغيره يقولون في قول الله -عزّ وجلّ- {‌فَلَعَلَّكَ ‌بَاخِعٌ ‌نَفْسَكَ} الكهف: 6. معناه: قاتل نفسك. فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه مِن شِدة النُّصح لهم قاتل نفسه. الجامع لأحكام القرآن (14/ 325).

قوله: «الإيمان يمانٍ»:
أي: معظم أهله يمانون، والقائمون به يمانون والناصرون له...
وقيل: معناه: أهل اليمن أكمل الناس إيمانًا. إكمال المعلم (1/ 302).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
معنى «الإيمان يمانٍ» أن الإيمان في أهل اليمن، أي: أنهم لصفات فيهم أسرع قبولًا له. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 198).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قوله: «الإيمان يمانٍ» لا ينفي كونه حجازيًّا، وإنما ينبئ عن استعداد أهل اليمن لقبول ذلك، وفُشُوِّه فيهم واستقرار أمرهم عليه، فإنهم هم الذين فتحت بأمدادهم الشام والعراق، زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-...، و«يمانٍ» نسبة إلى اليمن، والألف عوض من ياء النسب، فلا يجتمعان، وكذلك يمنيّ، ومنهم مَن يجمع بين الألف وياء النسبة؛ فيقول: يمانيّ بالتشديد، وقال أمية بن خلف (الهذلي، لا القرشي):
يمانيًّا يظل يشد كيرًا *** وينفخ دائمًا لهب الشواظِ. (والشواظ: اللَّهب الذي لا دخان فيه).
والصحيح ما قدمناه. الميسر في شرح مصابيح السنة (4/ 1356).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
ثناء على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وحسن قبولهم إياه، وجعله يمانيًّا لظهوره من شقِّ اليمن؛ ولذلك قيل: الركن اليماني، يراد: الركن الذي يلي شق اليمن، وكما قال الشاعر:
... *** وسهيلٍ إذا استقل يمانِي.
يريد: طلوعه من قبل اليمن. أعلام الحديث (3/ 1520).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
ثم لما وصفهم بذلك (رقة القلوب ولين الأفئدة) أتبعه ما هو كالنتيجة والغاية، فإن صفاء القلب ورقته ولين جوهره يؤدي به إلى عرفان الحق والتصديق به، وهو الإيمان والانقياد لما يوجبه ويقتضيه، والتيقظ والإتقان فيما يذره ويأتيه، وهو الحكمة، فتكون قلوبهم معادن الإيمان، وينابيع الحكمة، وهي قلوب منشؤها اليمن، نسب إليه الإيمان والحكمة تبعًا لانتسابها إليه؛ تنويهًا بذكرها، وتعظيمًا لشأنها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 579).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فائدة: قوله: «الإيمان يمانٍ» أصله: يماني، فخففوا ياء النسبة، كما قالوا: تهامون وأشعرون وسعدون، وكذلك يقال: سيف يمانٍ. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (19/ 239).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أورد البخاري هذه الأحاديث (فضائل أهل اليمن) في الأشعريين؛ لأنهم من أهل اليمن قطعًا، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة إذ قال: «الله أكبر إذا جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن نقية قلوبهم، حسنة طاعتهم، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية» أخرجه البزار، وعن جبير بن مطعم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خير أهل الأرض» الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، وفي الطبراني من حديث عمرو بن عبسة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعيينة بن حصن: «أي الرجال خير؟ قال: رجال أهل نجد، قال: كذبتَ؛ بل هُم أهل اليمن، الإيمان يمانٍ» الحديث، وأخرجه أيضًا من حديث معاذ بن جبل. فتح الباري (8/ 99).

قوله: «والحكمة يمانية»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
الحكمة عند العرب: ما يمنع من الجهل، والحكيم من منعه عقله وحكمته عن الجهل. حكاه ابن عرفة، مأخوذ من حكمة الدابة، وهي الحديدة التي في لجامها لمنعها إياها.
وقيل في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} البقرة: 269: إنها الإصابة في القول والفقه والفهم، وقيل: الحكمة: طاعة الله والاتباع له، والفقه في الدين، وقيل: الحكمة: الفهم عن الله من أمره ونهيه، وقال مالك في الحكمة: الفقه في الدين يدخله الله في القلوب، وقيل غير هذا، وقد مرَّ في بعض روايات الأم: «الفقه يمانٍ، والحكمة يمانية». إكمال المعلم (1/302).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
وفسرت الحكمة في قوله: «والحكمة يمانية» بالفقه، وبعض الروايات: «والفقه يمانٍ». شرح مسند الشافعي (3/ 434).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
وأما ما ذكر من الفقه والحكمة؛ فالفقه ها هنا: هو عبارة عن الفهم في الدين، واصطلح بعد ذلك الفقهاء والأصوليون على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها، وأما الحكمة: ففيها أقوال كثيرة مضطربة، قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها: إن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله -تبارك وتعالى- المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق، والعمل به، والصدّ عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. صيانة صحيح مسلم (ص:212).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
والحكمة: كل كلمة صالحة تمنع صاحبها عن الوقوع في الهلكات. الميسر في شرح مصابيح السنة (4/ 1356).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«الحكمة» أراد بها الفقه؛ لقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الجمعة: 2، ويروى: «الفقه يمانٍ»، وهذا ثناء على أهل اليمن؛ لإسراعهم إلى الإيمان وحسن قبولهم إياه، وقيل: الحكمة عبارة عن كل كلمة صالحة تمنع صاحبها عما يوقعه في الهلاك. المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 358).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «والحِكمة يمانية» إشارة إلى ما جاء في الأحاديث الصحيحة أنه لما جاء أهل اليمن، ووفد منهم أبو موسى الأشعري في جماعة من رفقاء، فقالوا: «يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أتيناك للتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كان الله ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذِّكر كُل شيء، ثم خلق السموات والأرض»؛ فسألوا عن أَصول الدّين الذي عليه مدار الإيمان، وهو يشمل على معرفة حقائق الأشياء التي هي معنى الحِكمة. لمعات التنقيح (9/ 807).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
والظاهر أن الفقه: معرفة الفروع، والحكمة: معرفة العقائد، وقد تفسر بمعرفة علم الشرائع. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (7/ 359).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: ثناء على أهل اليمن؛ لمبادرتهم إلى الدعوة وإسراعهم إلى قبول الإيمان. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (21/ 564).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
قوله: «يمانٍ ويمانية» هو بالتخفيف من غير تشديد للياء عند جماهير أهل العربية؛ لأن الألف المزيدة فيه عوض من ياء النسب المشددة؛ فلا يجمع بينهما. صيانة صحيح مسلم (ص:214).
وقال النووي -رحمه الله-:
«يمانية» وقد حكى الجوهري وصاحب المطالع ‌وغيرهما ‌من ‌العلماء ‌عن ‌سيبويه ‌أنه ‌حكى ‌عن ‌بعض ‌العرب أنهم يقولون: اليمانيّ بالياء المشددة، وأنشد لأمية بن خلف:
يمانيًّا يظلُّ يَشِدُّ كِيرًا *** وَيَنْفُخُ دَائِمًا لَهَبَ الشُّوَاظِ
(والشواظ: اللَّهب الذي لا دخان فيه). شرح مسلم (2/ 33).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يمانية» أي: منسوبة إلى أهل اليمن، يعني: أهل اليمن أكثر علمًا بالأحكام الشرعية العملية، وعلمًا بالأحكام الاعتقادية الموصلة إلى معرفة الله تعالى، فليس المراد: نفي ذلك عن غيرهم، بل المراد: تفضيلهم على غيرهم من ربيعة ومضر- في الفقه والحكمة في ذلك الوقت، لا في جميع الأزمنة، فليست تلك المنقبة لأولادهم، كما أن فضل الهجرة ليست لأولاد المهاجرين. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (2/ 433).

قوله: «والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
الفخر: المباهاة والمنافسة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه. الميسر في شرح مصابيح السنة (4/ 1356).
وقال النووي -رحمه الله-:
فالفخر: هو الافتخار وعدُّ المآثر القديمة تعظيمًا، والخيلاء: الكبر واحتقار الناس. شرح مسلم (2/ 34).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«والفخر» أي: المفاخرة المُباهاة والمنافسة في الأشياء الخارجة عن نفس الإنسان؛ كالمال والجاه، «والخيلاء» أي: التكبر المانع عن قبول الإيمان، «في أصحاب الإبل» ...، ورعاة الإبل تقسو قلوبهم لقساوة طبيعة الإبل ...، وأما أصحاب الإبل فإن بعدهم عن العمرانات، والتجائهم بالبوادي والصحاري، وقلة اختلاطهم بالخلق يحملهم على الطغيان، ونزع اليد عن الطاعة. شرح المصابيح (6/ 520).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«الفخر» المباهاة والمنافسة، قال في القاموس: الفخر والفخار بفتحهما: التمدح بالخصال، «والخيلاء» بضم المعجمة وفتح التحتانية ممدودًا: الكبر الناشئ عن تخيل الإنسان فضيلة من نفسه والعجب به، فإذا أظهره على الغير واستحقره سمي تكبُّرًا، ومنه سمي الفرس خيلًا؛ لأن أكثر من ركبه يقع في هذا الخيال، ووجد في نفسه شيئًا من ذلك. لمعات التنقيح (9/ 808).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
الخيلاء: التكبر والإعجاب بالنفس، ومن يقصد الترفع عن الناس يحب أن يرى ماله الكثير. كشف المشكل (3/ 371).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«الخُيلاء» التكبر في كل شيء، ومنه قول طلحة لعمر: إنا لا نخول عليك، قال الهروي: أي: لا نتكبر، يقال: خال الرجل واختال فهو خال وذو خال ومَخْيَلَة، وقال ابن دريد: الخيلاء التكبر، ولا يكون ذلك إلا مع جَرّ الإزار، قال سيبويه: وزن الخيلاء: فعلاء اسمًا وتكسر الخاء لغة، وحكى ابن الصابوني أنه التجبر، والاستحقار للناس. إكمال المعلم (1/ 294).
وقال المازري -رحمه الله-:
«الخُيلاء» بالمد مَشْيَةٌ مكروهة هي التبختر في المشي، وهو من أفعال الجبابرة. المعلم (1/ 292).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والخيلاء» بضم ففتح ممدودة، وهي التكبر، يتخيل أنه أفضل من غيره، ويمنعه عن قبول الحق والانقياد، «في أصحاب الإبل»، وفي معناها: الخيل، بل هي أدهى بالويل. مرقاة المفاتيح (9/ 4036).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«والفخر والخيلاء» قد يفرق بينهما بأن الفخر إظهار الكبر وإعلانه؛ سواء كان موجودًا بالفعل أو غير موجود، والخيلاء إعجاب نفسي، وقد يظهر ببعض المظاهر، وفي رواية: «والجفاء وغلظ القلوب»، وقيل: الفخر هو الافتخار وعَدُّ المآثر القديمة تعظيمًا، ومنه الإعجاب بالنفس، والخيلاء الكبر واحتقار الناس. المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 282).

قوله: «في أصحابِ الإبلِ»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفي رواية: «أهل الوبر»، والوبر شَعر الإبل، وفي رواية: «أهل الخيل والإبل»، وفي رواية: «في الفدادين عند أصول أذناب الإبل»، والفدَّاد -بتشديد الدال-: هو شديد الصوت، والمعنى: أنّ القَسوة وغلظ القلوب والكبر في المكثرين من الإبل الذين تعلو أصواتهم خلفها عند سوقهم لها، وفي رواية: «في أهل المشرق»، وفي رواية: «في ربيعة ومضر»؛ لأن ربيعة ومُضر كانوا يمثلون أغلبية سكان أهل المشرق، وقد اشتهروا بتربية الإبل والخيل.المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 282).

قوله: «والسكينة والوقار في أهل الغنم»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
السكينة: السكون والطمأنينة والوقار، كما جاء في الحديث نفسه، وهو ضد معنى الفدَّادين وأهل الخيلاء، وقد يكون السكينة بمعنى الرحمة، حكاه شمر، فيكون ضد معنى القسوة والجفاء والغلظ في وصف الآخر. إكمال المعلم (1/ 303).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«والسكينة والوقار» كلاهما بمعنى، «في أصحاب الغنم» قيل: الراعي خلقه على قدر ما يرعاه، فالغنم راعيه يكون أليَنَ القلب؛ لسهولة طبيعة الغنم ...، وقيل: لا بدّ لأصحاب الغنم من مقاربة العمرانات والاختلاط بأهلها، فإن الغنم لا تصبر عن الماء والعلف، ولا تتحمل البرد، فوقارهم يؤدي إلى أنهم لا يخرجون عن الطاعة للإمام. شرح المصابيح (6/ 520).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والسكينة والوقار» أي: التَّأنِّي والحلم والأنس، «في أهل الغنم» ... قلتُ: ولهذا قيل: الصحبة تؤثر في النفس، ولعل هذا أيضًا وجه الحكمة في أن كل نبي رعى الغنم. مرقاة المفاتيح (9/ 4037).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«في أهل الغنم» أي: في اليمن؛ لأن معظم تربيتهم الغنم، وفي رواية: «في أصحاب الشاء». المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 282).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- إخبارٌ عن أكثرِ حالِ أهلِ الغنم، وأهلِ الإبلِ وأغلبه. المفهم (1/ 241).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
وتخصيص الخيلاء بأصحاب الإبل، والوقار بأهل الغنم، يدل على أن مخالطة الحيوان مما يؤثر في النفس، ويعدي إليها هيئات وأخلاقًا تناسب طباعها، وتلائم أحوالها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 580).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وخلاصة الكلام ورابطة النظام بين فصول الحديث: أن أهل اليمن يغلب عليهم الإيمان والحكمة، كما أن أهل الإبل يغلب عليهم الفخر، وأهل الغنم يغلب عليهم السكون، فمن أراد صحبة أهل الإيمان والعرفان، فعليه بمصاحبة نحو أهل اليمن على وجه الإيمان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة: 119، وفيه إشعار إلى إظهار معجزة، وهي أنه يظهر في اليمن كثير من الأولياء مع قِلة أهله بخلاف سائر الأطراف، فإنه وإن ظهر منهم الصالحون فهم بالنسبة إلى كثرة خلائقهم قليلون. مرقاة المفاتيح (9/ 4037).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
دَلَّ الحديث على أن مخالطة الحيوانات مما تؤثر في نفس الآدمي، وتعدي إليها هيئات تناسب طباعها، فالراعي خلقه يناسب ما يرعاه، فلما كان في طبيعة الإبل قساوة وفظاظة، وفي الغنم لين وسكينة تَعَدِّيًا إلى راعيها، كذا قالوا، وقيل: لا بد لأصحاب الغنم من مقاربة العمرانات والاختلاط بأهلها، فإن الغنم لا تصبر عن الماء، ولا تحتمل البرد، فذلك يؤدي إلى عدم خروجهم عن طاعة الإمام، وأما أصحاب الإبل فإن بعدهم عن العمرانات، وكونهم في البوادي والصحاري، وقلة اختلاطهم بالخلق يحملهم على الطغيان والخروج عن الطاعة، هذا والظاهر: أن المالية في الإبل كثيرة، فيفضي إلى الفخر والتكبر بخلاف الغنم، وإن لفظ الأصحاب ليس أظهر في الرعاة منها في ملاكها، بل لا يبعد أن يكون في ملاكهم أظهر من الرعاة -والله أعلم-. لمعات التنقيح (9/ 808).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
فقه الحديث ... ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- وصفهم بأوصاف تفضي إلى الإيمان، «ألين وأضعف قلوبًا وأرق أفئدة»، ورتَّب على هذه الأوصاف، «الإيمان يمانٍ»، ثم إنه ليس هناك مانع أصلًا من إجراء الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة، فأهل اليمن سارعوا إلى قبول الإيمان، وقبلوا البُشرى التي لم يقبلها بنو تميم، فقد روى البخاري في أول كتاب بدء الخلق: أن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: جاء نفرٌ من بني تميم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا بني تميم أبشروا -أي: بالجنة إذا أسلمتم-؛ فقالوا: بشَّرْتَنَا فأعطنا -آثروا الدنيا وطلبوا عطيته من الغنائم- فتغير وجهه، فجاء أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن، اقبلوا البُشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، جئناك لنسألك ونتفقه في الدِّين».
كان هذا حال الوافدين من اليمن في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: سلامة قلب، وقوة إيمان، فكانت نسبة الإيمان إليهم إشعارًا بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله -صلى الله عليه وسلم- في الرواية الثامنة: «والإيمان في أهل الحجاز».
ثم إن هذا الحُكم لا ينسحب على أهل اليمن في جميع العصور، فإن اللفظ لا يقتضيه، بل المراد به: الموجودون منهم حين الخطاب.
ويؤخذ من الحديث:
1-منقبة للمؤمنين من أهل اليمن.
2-تفاضل أهل الإيمان، وأن المؤمنين كالقبائل، بعضهم أرفع إيمانًا من بعض.
3-مدح السكينة والوقار، ولين القلوب ورقة الأفئدة.
4-التنفير من الفخر والخيلاء والكبر والغرور.
5-أن من اتصف بشيء، وقوي قيامه به نسب إليه؛ إشعارًا بكمال حاله فيه.
6-ذم أهل الخيل والإبل الذين يشتغلون بها عن أمور دينهم، وتصل بهم إلى غلظة القلب والخيلاء.
7-فضل وسيلة الرزق التي تؤدي إلى السكينة والوقار ورقة القلب، فقد روى البخاري قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» -والله أعلم-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/199-200).
وقال الشيخ محمد بن آدم الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1-منها: بيان تفاضل أهل الإيمان فيه.
2-ومنها: بيان فضل أهل اليمن؛ لرجحانهم في قوة الإيمان.
3-ومنها: ذم أهل المشرق، وبيان تسلط الشيطان عليهم، ثم إن ذم هؤلاء، ومدح أهل اليمن محمول في ذلك الوقت، حيث استجاب أهل اليمن لدعوة الإسلام، وتمرد أهل المشرق من ربيعة ومضر، وليس عامًّا في كل زمان، فقد ظهر في كل منهما ما يخالف وصفهم المذكور، كما لا يخفى على من تتبع التواريخ.
4-ومنها: ذم قسوة القلوب وغلظها، وأن سبب ذلك هو الانهماك في الشهوات، واستيلاء حب الدنيا على القلوب، فينبغي للمسلم أن يبتعد مما يكون سببًا لقسوة قلبه، ويكثر من ذكر الله تعالى، وذكر الموت والبلى، فإن ذلك يخرج حب الدنيا منه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (2/ 248-253).


ابلاغ عن خطا