الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحمةَ يومَ خَلَقَهَا مائةَ رحمةٍ، فأَمْسَكَ عندهُ تِسْعًا وتسعينَ رحمةً، وأرسل في خَلْقِهِ كُلهم رحمةً واحدةً، فلو يعلمُ الكافرُ بكُلِّ الذي عندَ اللَّه من الرَّحمةِ لم يَيْأسْ من الجنة، ولو يعلمُ المؤمنُ بكُلِّ الذي عندَ اللَّه من العذابِ لم يأمَنْ من النَّارِ».


رواه البخاري برقم: (6469) واللفظ له، ومسلم برقم: (2752)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«يَيأس»:
اليأس: القنوط، يقال: يَئِسَ بالكسر ييأس، وفيه لغة أخرى بكسر الهمزة من مستقبَلِه، وهو شاذٌّ. التوضيح، ابن الملقن (29/ 491).


شرح الحديث


قوله: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «مائة رحمة» أي: مائة نوع من الرّحمة أو مائة جزء. الكواكب الدراري (22/ 226).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إن الله خلق الرحمة» أي: الرحمة التي جعلها في عباده، وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته -عز وجل-، «مائة رحمة» أي: مائة نوع من الرحمة، أو مائة جزء. عمدة القاري (23/ 66).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إن الله تعالى خلق الرحمة» أي: رحمته لعباده، وإيقاع الخلق عليها صحيح إذ هو الإيجاد، «يوم خلقها ‌مائة ‌رحمة» هو تمثيل لسعة رحمته والتفرقة بين حال الدارين. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 306).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن هذه الرحمة مخلوقة، فأمّا رحمة الله التي هي صفة من صفاته فقديمة غير مخلوقة؛ فكل ما يتراحم به أهلُ الدنيا حتى البهائم في رفعها حوافرها عن أولادها لئلا تؤذيهن؛ فإنه عن جزء مثبت في العالم- فمن تلك الرحمة، وإن الله -سبحانه- أعد تسعًا وتسعين رحمة ادَّخرها ليوم القيامة؛ ليضم إليها هذه الرحمة الأخرى ثم يثبتها قلوبَ عباده؛ ليرحم بعضُهم بعضًا، يكون كل ما تراحم به المتراحمون مُذْ قامت الدنيا إلى يوم القيامة جُزءًا من مائة جزءٍ من الرحمة التي حدّدها الله -عز وجل- في قلوب عباده يومئذٍ؛ ليعفو المظلومُ عمّن ظلمه؛ رحمة له مما يَرى من هول ذلك اليوم، فيعود شفيعًا فيه، وسائلًا في حقه، كالمشتوم عمّن شتمه، والمغصوب عمن غصبه، والمؤذى عمّن آذاه. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 74).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
ما خص الله به المؤمنين من رحمته في الآخرة، بالنسبة إلى ما عمَّ به الخلائقَ من رحمته في الدنيا- نسبة تسعة وتسعين جزءًا إلى الجزء الأول من جزء واحد، والكافر حيث كفر بالله، ولم يؤد حق العبودية في هذه الأسماء، ولا في بعضها؛ حرّم الله عليه أقسام رحمته في الآخرة، المعبَّر عنها بتسع وتسعين. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 76).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قلتُ: المراد بالرحمة هنا: ما يقع من صفات الفعل، كما سأقرره، فلا حاجة للتأويل. فتح الباري (11/ 301).

قوله: «فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمةً واحدة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فأمسك» ادّخر، «عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمة ‌واحدة» تعُمّ كلّ موجود. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 253).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا» في رواية عطاء: «وأخَّر عنده تسعة وتسعين رحمة»، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم: «وخبَّأ عنده مائة إلا واحدة». فتح الباري (10/ 432).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «وأرسل في خلقه كلهم» كذا لهم، وكذا للإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، ولأبي نعيم من طريق السراج كلاهما عن قتيبة، وذكر الكرماني: أن في بعض الروايات: «في خلقِه كلِّه». فتح الباري (11/ 301).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل»، وفي رواية «وأنزل»، «في خلقه كلهم رحمة ‌واحدة» تعُمّ كلَّ موجود، فكل موجود مرحوم حتى في آن العذاب؛ إذ الكف عن الأشد رحمة وفضل. فيض القدير (2/ 234).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة»، وادّخرها لعباده للآخرة، «وأرسل في خلقه كلهم رحمة ‌واحدة» بها يتراحم بنو آدم والأنعام وغيرهم. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 306).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: هذه الرحمة هي رحمته التي خلقها لعباده، وجعلها في نفوسهم، والتي أمسك عند نفسه هي ما يتراحمون به يوم القيامة، ويتغافرون من التباعات التي كانت بينهم في الدنيا، وقد يجوز أنْ تُستعمل تلك الرحمة المخلوقة فيهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء، التي لا يجوز أن تكون مخلوقة، وهي صفة من صفات ذاته تعالى لم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي جعلها لهم، وقد يجوز أنْ تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليل على أنَّ في نفوس الملائكة رحمة على أهل الأرض. شرح صحيح البخاري (9/ 213-214).

قوله: «فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «لو يعلم»؛ فإن قلتَ: (لو) لانتفاء الأول؛ لانتفاء الثاني، صرَّح به ابن الحاجب في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء: 22، كما يُعلم انتفاء التعدد بانتفاء الفساد، وليس في الحديث كذلك؛ إذ فيه انتفاء الثاني وهو: انتفاء الرجاء؛ لانتفاء الأول كما في: لو جئتني لأكرمتك؛ فإن الإكرام منتفٍ؛ لانتفاء المجيء، وبالنظر إلى الذهن بانتفاء الأول بانتفاء الثاني، فإنا نعلم انتفاءَ المجيء بانتفاء الإكرام. الكواكب الدراري (22/ 226).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فلو يعلم ‌الكافر» كذا ثبت في هذه الطريق بالفاء؛ إشارة إلى ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ومِن ثم قدّم ذكر ‌الكافر؛ لأن كثرتها وسعتها تقتضي أن يطمع فيها كل أحد، «لم ييأس من الجنة»، قيل: المراد: أن ‌الكافر لو علم سعة الرحمة لغطّى على ما يعلمه من عظم العذاب؛ فيحصل له الرجاء، أو المراد: أن متعلق علمِه بسعة الرحمة مع عدم التفاته إلى مقابلها يُطمعه في الرحمة... فمن علم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه؛ لا يأمن انتقامه مَن يرجو رحمته، ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه؛ وذلك باعث على مجانبة السيئة ولو كانت صغيرة، وملازمة الطاعة ولو كانت قليلة.
وقيل: في الجملة الأولى نوع إشكال؛ فإن الجنة لم تُخلق للكافر ولا طَمَع له فيها، فغير مستبعد أن يَطمع في الجنة مَن لا يعتقد كفرَ نفسِه؛ فيشكل ترتب الجواب على ما قبله، وأجيب: بأن هذه الكلمة سِيقت لترغيب المؤمن في سعة رحمة الله التي لو علِمها ‌الكافرُ الذي كُتب عليه أنه يُختم عليه أنه لا حظَّ له في الرحمة؛ لتطاول إليها ولم ييأس منها، إما بإيمانه المشروط وإما لقطع نظره عن الشرط مع تيقنه بأنه على الباطل، واستمراره عليه عنادًا، وإذا كان ذلك حال الكافر فكيف لا يَطمع فيها المؤمن الذي هداه الله للإيمان؟! وقد ورد أن إبليس يتطاول للشفاعة؛ لما يرى يوم القيامة من سعة الرحمة، أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث جابر، ومن حديث حذيفة، وسند كل منهما ضعيف. فتح الباري (11/ 301).
وقال العيني -رحمه الله-:
قدّم ذكر الكافر؛ لأن كثرة الرحمة وسعتها تقتضي أن يطمعها كلُّ أحد، ثم ذكر المؤمنَ استطرادًا، والحكمة في التعبير بالمضارع دون الماضي: الإشارة إلى أنه لم يقع له علم ذلك ولا يقع؛ لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعًا فيما مضى...، قوله: «بكل الذي» قيل: فيه إشكال؛ لأن لفظة: (كل) إذا أضيفت إلى الموصول كانت إذ ذاك لعموم الأجزاء لا لعموم الأفراد، والغرض من سياق الحديث: تعميم الأفراد، وأجيب: بأنه وقع في بعض طُرقه: «أن الرحمة قُسِمت مائة جزء»؛ فالتعميم حينئذ لعموم الأجزاء في الأصل، ونُزّلت الأجزاء منزلة الأفراد مبالغة... فإن قلتَ: ما معنى «لم ييأس من الجنة»؟ قلتُ: قيل: المراد: أن الكافر لو علم سعة الرحمة لغطى عليه ما يعلمه من عظيم العذاب؛ فيحصل له الرجاء، وقيل: المراد: أن متعلق علمه بسعة الرحمة مع عدم التفاته إلى مقابلها يُطمِعه في الرحمة. عمدة القاري (23/ 66).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فلو يعلم ‌الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة» الواسعة، «لم ييأس» أي: يقنط، «من الجنة» بل يحصل له الرجاء فيها؛ لأنه يغطّي عليه ما يعلمه من العذاب العظيم، وعبّر بالمضارع في قوله: «يعلم» دون الماضي؛ إشارة إلى أنه لم يقع له علمُ ذلك ولا يقع؛ لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعًا فيما مضى. إرشاد الساري (9/ 269).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فلو يعلم ‌الكافر» يؤمن «بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة»، ولطمع أن تشمله الرحمة؛ فيدخل في سعة رحمته؛ ولذا ورد أن الله تعالى يغفر يوم القيامة مغفرة حتى يطمع إبليسُ أن تشمله، هذا أو معناه. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 306).

قوله: «ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار»:
قال العيني -رحمه الله-:
وذلك أن المكلف لو تحقق ما عند الله من الرحمة؛ لما قطع رجاءه أصلًا، ولو تحقق ما عنده من العذاب لما ترك الخوف أصلًا، فينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء، فلا يكون مفرطًا في الرجاء؛ بحيث يصير من المرجئة القائلين: بأنه لا يضر مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث يكون من الخوارج والمعتزلة القائلين: بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة في النار، بل يكون وسطًا بينهما، كما قال الله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الإسراء: 75. عمدة القاري (23/ 66).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» أي: من دخولها، فهو غافر الذنب شديد العقاب، وهذا أمر بوقوف العبد بين حالتي الرجاء والخوف. التيسير بشرح الجامع الصغير(1/ 253).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قوله: «ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم ييأس من النار» أي: من دخولها، وفي نسخة: «لم يأمن من النار» فهو -سبحانه وتعالى- غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. السراج المنير (1/ 367).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار»؛ ولذا يخاف كل نبي ويقول: «نفسي نفسي»، وخص في الأول الكافر؛ لأنه الذي وُعد بالعذاب، وبالثاني المؤمن لأنه الذي وُعد بالنجاة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 306).
قال النووي -رحمه الله-:
هذه الأحاديث (الدالة على رحمة الله يوم القيامة) من أحاديث الرّجاء والبَشارة للمسلمين. قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان مِن ‌رحمة ‌واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار، الإسلام والقرآن والصلاة والرَّحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به فكيف الظن بمائة.شرح صحيح مسلم(17/٦٨)
قال ابن حجر-رحمه الله-:
قال القرطبي: مقتضى الحديث: أنّ الله علِم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقِه مائة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحدٍ ‌انتظمت ‌به ‌مصالحهم، ‌وحصلت به مرافقهم فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة، وكلها للمؤمنين وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) الأحزاب: 43 ، فإن رحيمًا من أَبنية المبالغة التي لا شيء فوقها. ويُفهم من هذا: أنّ الكفار لا يَبقى لهم حظٌ من الرّحمة لا من جنس رحمات الدنيا، ولا من غيرها إذا كمُل كُل ما كان في عِلم الله مِن الرّحمات للمؤمنين وإليه الإشارة بقوله تعالى (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الآية. الأعراف: 156.
قال أيوب السختياني -رحمه الله-: ‌إنّ ‌رحمة ‌قسّمها ‌في ‌دار ‌الدُّنيا، ‌وأَصابني منها الإسلام، وأنّي لأرجو من تسعة وتسعين رحمة ما هو أَكثر من ذلك. شعب الإيمان للبيهقي(2/٣٣٤).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: بيان أن الرحمةَ التي جعلها في عباده مخلوقة، وكذلك سائر المائة، بخلاف الرحمة التي هي صفة من صفاته. التوضيح (29/ 491).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
والمقصود من الحديث: أن الشخص ينبغي له أن يكون بين حالتي الخوف والرجاء. السراج المنير(1/ 367).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
1. منها: بيان سعة رحمة الله -سبحانه وتعالى-، بحيث إنه لو يعلم الكافر به حقيقة لما قنط من الجنة، وقد ورد أن إبليس يتطاول للشفاعة لما يرى يوم القيامة من سَعة الرحمة.
2. ومنها: بيان شدة عقوبة الله -عز وجل-، بحيث إن المؤمن لو علم بحقيقته، لما طمع في الجنة...
3. ومنها: أنَّ الحديث قد اشتمل على الوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف، فمن علم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه، والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه، لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته، ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه؛ وذلك باعث على مجانبة السيئة، ولو كانت صغيرة، وملازمة الطاعة، ولو كانت قليلة. البحر المحيط الثجاج(42/ 641-643).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا