«إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كتابًا قبلَ أنْ يَخْلُقَ السماوات والأرضَ بألفيْ عام، أنزلَ منه آيتينِ خَتَمَ بهما سورةَ البقرةِ، ولا يُقْرَآنِ في دارٍ ثلاثَ ليالٍ فَيَقْرَبُهَا شيطانٌ».
رواه أحمد برقم: (18414)، والترمذي برقم: (2882)، والنسائي في الكبرى برقم: (10736)، من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (1799)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1467).
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إن الله كتب كتابًا»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«إنّ الله كَتَبَ كتابًا» أي: أَمر بكتابة القرآن في اللوح المحفوظ، «قبل أن يَخلُقَ السماوات والأرض بألفَي عام»، وقيل: أي أَثبتَ ذلك فيه أو في غيرهِ من مطالع العلوم الغيبية. شرح المصابيح (3/ 38).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: أَمر القَلم أن يكتب في اللوح المحفوظ. فتح الباري (6/ 291).
قال الشيخ علوي السقاف -حفظه الله-:
الكتابة والْخَطُّ: صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله ـ عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، فهو سبحانه يَكتب ما شاء متى شاء، كما يليق بعظيم شأنه، لا ككتابة المخلوقين، والتي تليق بصغر شأنهم...صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة (ص: 289).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا مَن أوَّلَها:
«كتب» أي: كتابة حقيقية لا مجازية، ودليل هذا رواية الترمذي وابن ماجه بلفظ: «كتب ربكم على نفسه بيده...» الحديث، فإنه ظاهر في أنه كتبه -سبحانه وتعالى- بيده، كما صح أنه كتب التوراة لموسى بيده، وقد قدمنا غير مرَّة أن الحق أن لله -سبحانه وتعالى- يدًا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحاح، كهذا الحديث وغيره.
أمّا ما ذكرهُ في الفتح في كتاب بدء الخلق، وفي كتاب التوحيد في شرح هذا الحديث من التأويلات الزائفة المخالفة لطريق السلف فمما يجب الحذر عنه، ولولا مخافة التطويل لأوردته مع التعليق عليه، ولكن يكفي اللبيب التلميح، فإنه يفهم بالإشارة ما يفهمه الغبي بألف عبارة، ويكتفي بالقليل، والغبي لا يكفيه التطويل، ولو تُلِيَتْ عليه التوراة والإنجيل. البحر المحيط الثجاج (42/612).
قوله: «قبل أَنْ يَخلق السماوات والأرض بألفي عام»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«قبل أنْ يخلق السماوات والأرض» جمع السماوات دون الأرض، وهُنّ مثلهن؛ لأن طبقاتها بالذات متفاوتة الآثار والحركات، وقدمها لشرفها، وعُلو مكانها. فيض القدير(2/ 248).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
معنى ذلك -والله أعلم-: أنه ثبت ذلك في اللوح المحفوظ أو غير ذلك من مطالع العلوم الغيبية...فإن قيل: كيف يصح حمل ذلك الكتاب على اللوح المحفوظ، وقد ذكر أنه كتب قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام؟
وفيه: في الحديث الصحيح الذي يرويه عبد الله بن عمرو: «كتب الله مَقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»، وهو محمول عند الأكثرين على أنه كتب في اللوح المحفوظ، فإن كل كائن مكتوب فيه.
قلنا: وقد ذهب بعض أهل التفسير إلى أن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ، وعلى هذا فَلِقَائل أن يقول: كتب في أم الكتاب ثم أبرز بعده في اللوح المحفوظ، قلت: وهذا قول لا حقيقة له عندنا؛ فالأولى أن لا نتبعه بالظن والتخمين، بل نقول: إن كان الكتاب المذكور في حديث نعمان بن بشير غير الذي في حديث عبد الله بن عمرو، فالأمر فيه بيِّن، فإن كانت الإشارة في الحديثين إلى كتاب واحد فالوجه فيه أن نقول: اختلاف الزمانين في إثبات الأمرين لا يقتضي التناقض بين الحديثين؛ لأن من الجائز أن لا يكون مظهر الكوائن في اللوح المحفوظ دفعة واحدة، بل ثبتها الله شيئًا فشيئًا، ويكون المراد في هذا الحديث نوعًا مكتوبًا في اللوح من الأنواع المكتوبة فيه، فيكون أمر المقادير على ما ذكروا من النوع الذي أنزل فيه آيتين على ما ذكر.
فإن قيل: كل ما أخبر عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابد وأن يكون خبره به متضمنًا لفائدة فما فوقها، فما الفائدة التي يتضمنها هذا الخبر؟
قلنا: تعريفه إيانا فضل الآيتين؛ فإنَّ سبق الشيء بالذكر على سائر أنواعه وأجناسه يدل على فضيلة مختصة به من بين تلك الأجناس والأنواع، ومن هذا القبيل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إني عبد الله في أم الكتاب، وإن آدم لمنجدل في طينته»، أي: كنت مذكورًا في أم الكتاب قبل خلق آدم، ولم يُرِد بذلك أنه ذُكر في أم الكتاب يومئذ، وإنما أراد به: أنه كان مذكورًا قبل خلق آدم، وبقي الأمر فيه على الاحتمال أن يكون ذلك السبق من معاني تمييزه وبأحقاب كثيرة أو بما بين ذلك، وهذا الحديث -أعني: الحديث نعمان بن البشير- يدل على أنه كان مذكورًا قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام، سوى ما يحتمله من الزيادة؛ لأن التنزيل يتضمن ذكر المنزل عليه ويبين تخصيصه بتلك الكرامة. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 502).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: «أنه كتب كتابًا قبل خلق ... فإن قيل: أوَلَيس الكتاب الذي كتبه في المقادير آتيًا على ذكر من هو كائن إلى يوم القيامة من مَلَك وجن وإنس، فكيف يتصور معه سابقة ذِكر؟ قلنا: إنما كان ذلك لبيان علم الله بالمخلوقات التي أراد خلقها، ونفوذ قضائه فيها، ولم يكن هناك مَلَك ولا جن ولا إنس حتى يذكر منهم أحد على وجه الشرف والفضل، فإن هذا النوع مِن الذِّكر إنما يوجد مع وجود سامعٍ من الخلق، ولم يكن هناك سامع.
أقول: لعل الخلاصة: أن الكوائن كُتبت في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، ومن جملتها: كتابة القرآن، ثم خلق الله خلقًا من الملائكة وغيرهم، فأظهر كتابة القرآن عليهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، وخُصَّ من ذلك هاتان الآيتان، وأنزلهما مختومًا بهما أولى الزهراوين، ونظير الكتابة بمعنى الإظهار على الملائكة قراءة: (طه) و(يس) على الملائكة قبل خلق السماوات والأرض بألف عام؛ تنبيهًا على جلالتهما وشرفهما. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1665).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«إن اللَّه كتب كتابًا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين»، وقد ورد في الحديث: «إن اللَّه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»، ومن جملتها كتابة القرآن، فقيل في توجيه كتابة كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام الذي أنزل منه هذين الآيتين اللتين: «ختم بهما سورة البقرة»: إنه أظهر كتابته على طائفة من الملائكة في هذا الزمان، وخصَّ منها الآيتين بالإنزال مختومًا بهما سورة البقرة، فالكتابة بمعنى: إظهار الكتابة، وقيل: من الجائز أن لا تكون كتابة الكوائن في اللوح المحفوظ دفعة واحدة، بل ثبتها اللَّه فيه شيئًا فشيئًا، فيكون هذا الكتاب مكتوبًا في اللوح قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، والمقادير الأُخَر بخمسين ألف عام، إلى هذا أشار التُّورِبِشْتِي، ويمكن أن يقال -واللَّه أعلم-: يجوز أن تكون المقادير كلها مكتوبةً قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، ويكون الكتاب المذكور أيضًا مثبتًا فيه إذ ذاك، ثم أمر اللَّه ملائكته بإفراد كتابة هذا الكتاب على حِدة في الزمان الذي بعده قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام تشريفًا وتكريمًا له، كما ينتخب ويقرر من الكتاب الكبير بعض أبوابه وفوائده، وأنزل من هذا المنتخب المفرد الآيتين المذكورتين مختومًا بهما سورة البقرة، وهكذا الكلام فيما وقع في الحديث محاجة آدم وموسى إن اللَّه كتب التوراة قبل خلق آدم بأربعين عامًا، وفيما ذكر في حديث أبي هريرة قراءةِ طه ويس السورتين يذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام، فافهم، وباللَّه التوفيق. لمعات التنقيح(4/ 561).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
استشكل هذا بحديث: «إنَّ الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»، ويُجاب: بأنه يمكن أنه تعالى أَمر أولًا بكتاب عام فيه مِقدار الخلائق كلها، وهو اللوح المحفوظ، ثم أمر ثانيًا بكتاب يتعلق بالقرآن للدلالة على مَزِيَّته وشرفه على غيره، ثم أنزل منه تينك الآيتين، وهذا الكتاب الثاني يحتمل أنه الذي في بيت العزة، وأنه غيره، لكن مرَّ أنَّ الراجح أنه لم يكتب إلا عند نزول نبوته -صلى الله عليه وسلم-، وهذا صريح في أنه غيره، وحينئذٍ يكون القرآن كتب ثلاث مرات: مرة في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومرة قبل خلقهما بألفي سنة، ومرة قرب أو عند نزول الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيت العزة، وأنزل تينك الآتين من ذلك الكتاب الثاني إلى بيت العزة، كل ذلك لمزيد تعظيم القرآن ومزيته على غيره، ولمزيد تعظيم تينك الآيتين؛ يتكرر نزولهما من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة، ومن الكتاب إلى بيت العزة، ثم رأيتُ شارحًا أجاب بجواب طويل بعيد متكلَّف، لزم عليه ما احتاج في الجواب عنه إلى تكلف أكثر من الأول، لكن أصلحه الطيبي، فقرره بما فيه بُعدٌ أيضًا، وتَجَوُّز موهم... والوجه ما ذكرته. فتح الإله في شرح المشكاة (7/146-147).
قوله: «أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
في أكثر نسخ المصابيح، بل في سائرها إلا ما أُصلح: «أنزل فيه آيتين»، والرواية: «أنزل منه» أي: أُنزل من جملة الكتاب المذكور آيتين ختم بهما سورة البقرة. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 502).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«أنزل» أي: الله تعالى «منه» أي: من جملة ما في ذلك الكتاب المذكور «آيتين» هما: {آمَنَ الرَّسُولُ...} البقرة: 285 إلى آخره، «ختم بهما سورة البقرة» أي: جعلهما خاتمتها. مرعاة المفاتيح (7/ 223).
قوله: «ولا يُقرآن في دارٍ ثلاثَ ليالٍ فيقربها شيطان»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ولا يقرآن في دار» يعني: مكان دارٍ أو خلوة أو مسجد أو مدرسة أو غيرها، «ثلاث ليال» في كُلِّ ليلة منها، وكذا في ثلاث أَيام فيما يظهر، إنما خص الليل لأنه محل سكون الآدميين وانتشار الشياطين؛ «فيقر بها شيطان» فضلًا عن أن يدخلها، فعبّر بنفي القرب ليفيد نفي الدخول بالأولى. فيض القدير (2/ 248).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الفاء في قوله: «فيقربها» للتعقيب، أي: لا تُوجَد، ولا تحصل قراءتهما، فيعقبهما قربان الشيطان، فالنفي مُسلَّطٌ على المجموع. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1666).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وقيل: يحتمل أنْ تكون للجمعية، أي: لا تجتمع القراءة، وقرب الشيطان. مرقاة المفاتيح (4/ 1478).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«فيقربها الشيطان» بفتح الراء نصبًا ورفعًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1478).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«فيقربها» بفتح الموحدة على أنه منصوب في جواب النفي، وقيل: بالرفع والراء مفتوحة؛ لأن قرب المتعدي بالكسر، ومضارعه بالفتح، بخلاف قرُب اللازم، فإنه يضم فيهما. مرعاة المفاتيح (7/ 223).
قال ابن حبان -رحمه الله-:
أراد به مَردة الشياطين دُونَ غيرهم. صحيح ابن حبان(1/٣٣٥)
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)