«إنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمةِ مِن رضوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها درجاتٍ، وإنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جهنَّمَ».
رواه البخاري برقم (6478)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بالًا»:
أي: ما يحضر قلبه لما يقول منها. غريب الحديث، لابن الجوزي (2/ 329).
«يهوي»:
يُقال: هوى الشيء يهوي: إذا سقط. مجمل اللغة، لابن فارس (ص: 893).
وقال القاضي عياض-رحمه الله-:
ينزل فيها ساقطًا. وقد جاء بلفظ: «ينزل بها في النار».نقلًا عن فتح الباري، لابن حجر(11/٣١١).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات»:
قال الزرقاني -رحمه الله-:
«إن العبد» فالمراد: الإنسان حرًّا أو قنًّا. شرح الموطأ (4/ 639).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد فسّر بن عيينة هذا الحديث...قال: هي الكلمة عند السّلطان الظالم لِيردُّه بها عن ظلمه في إراقة دم، أو أخذ مال لمسلم، أو ليصرفه عن معصية الله -عزَّ وجلَّ- أو يعز ضعيفًا لا يستطيع بلوغ حاجته عنده، ونحو ذلك مما يرضي الله به. وكذلك الكلمة في عونه على الإثم والجور مما يسخط الله به. الاستذكار (8/ 555).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقال أهل العلم:...والكلمة التي يكتب الله له بها رضوانه: الكلمة يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه المسلم، ويفرج عنه بها كربة من كرب الدنيا، فإن الله تعالى يفرج عنه كربة من كرب الآخرة، ويرفعه بها درجات يوم القيامة. شرح صحيح البخاري (10/ 186 ـ 187).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «بالكلمة» أي: الكلام المشتمل على ما يُفهم الخير أو الشَّر، سواء طال أَمْ قصر، كما يقال: كلمة الشهادة، وكما يقال للقصيدة: كلمة فلان. فتح الباري (11/ 310).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
أي: فيما رضي الله تعالى به، مثل كلمة يدفع بها مظلمة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 509).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من رضوان الله» بكسر أوله، ويضم، و «من» بيانية حال من الكلمة، أي: من كلام فيه رضاه. مرقاة المفاتيح (7/ 3025).
وقال السندي -رحمه الله-:
أي: من الكلمات التي تكون سببًا لرضوان الله تعالى. كفاية الحاجة (2/ 472).
قوله: «لا يلقي لها بالًا»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«لا يلقي» بضم التحتية وكسر القاف، «لها» للكلمة، «بالًا» أي: قلبًا. إرشاد الساري(9/ 274).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لا يلقي» بضم الياء وكسر القاف، أي: لا يرى «لها» أي: لتلك الكلمة «بالًا» أي: شأنًا أو بأسًا. مرقاة المفاتيح (7/ 3025).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
أي، لا يُصغَى إليها، ولا يجعل قلبه نحوها.تطريز رياض الصالحين(ص:٨٣٦).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
مثل أنْ يرى مؤمنًا يُنكر مُنكرًا، وقد اعترض الآخر ينكر على المُنْكِر، فيقول لذلك: لا تَخذل الحق، فهي كلمة لطيفة ليست عليه فيها مَؤنة يرفعه الله بها درجات.الإفصاح عن معاني الصحاح(6/٢٤٣).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
والبال يجيء بمعنى: القلب والحال والخاطر، أي: لا يلقي العبد لتلك الكلمة ولا يحضر لها قلبه، ولا يلتفت إلى عاقبتها، أو لا يلقي لها الحال والخاطر، ولا يتأمل فيها وفي عاقبتها، ولا يرى فيها بأسًا. لمعات التنقيح (8/ 141).
قوله: «يرفعه الله بها درجات»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يرفع الله بها درجات» كذا في رواية المستملي والسرخسي، وللنسفي والأكثر: «يرفع الله له بها درجات»، وفي رواية الكشميهني: «يرفعه الله بها درجات». فتح الباري (11/ 311).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«يرفعه الله بها درجات» استئناف جواب عمن قال: ماذا يستحق المتكلم بها؟ التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 294).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
والتنوين في «درجات» للتكثير والتعظيم، أي: درجات كثيرة عظيمة. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (8/ 141).
قوله: «وإنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من سَخط الله»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قيل: هي الكلمة يتكلم بها عند سلطان جائر، يرضيه بها فيما يُسخط الله، وقيل: بل هي من الرَّفث والخنا، ويحتمل: أنْ تكون في التعريض بمسلم بكبيرة، أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة، وإن لم يعتقد ذلك. إكمال المعلم (8/ 537).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«سخط الله» أي: مما يسخط الله؛ وذلك بأن يكون كذبة، أو غيبة، أو نميمة، أو بهتانًا، أو بخسًا، أو باطلًا يضحك به الناس. المفهم (6/ 617).
وقال العيني -رحمه الله-:
يعني: مما لا يرضى به. عمدة القاري (23/ 72).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أي: مما يسخط، أي: يوجب غضبه وانتقامه إن لم يتفضل بالعفو. الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (6/ 347).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قال ابن التين: هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان، ممن يتأتى منه ذلك، ونقل عن ابن وهب: أنَّ المراد بها: التلفظ بالسوء والفحش، ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين. فتح الباري، لابن حجر (11/ 311).
قوله: «لا يلقي لها بالًا»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
أي: لا يعرف لها قدرًا، ويظنها هينة قليلة الاعتبار، وهي عند الله عظيمة المقدار. الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (6/ 346).
قال المظهري -رحمه الله-:
وكذلك ربما يتكلم بشرٍّ وهو لا يظنه ذنبًا، وهو عند الله ذنب عظيم، فيحصل له سخط الله، يعني: لا يجوز أن يظن الخير حقيرًا، بل ليعمل الرجل بكل خير، وليتكلم كل خير، وكذلك لا يجوز أن يَعُدَّ الشر حقيرًا، بل ليترك الرجل كل شر؛ كي لا يصدر منه شر، فيحصل له به سخط الله. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 171).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
أي: يتكلم بها على غفلة من غير تثبُّت ولا تأمُّل. إرشاد الساري (9/ 274).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
لا يتأملها بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظن أنها تؤثر شيئًا. التوشيح شرح الجامع الصحيح (8/ 3849).
قوله: «يهوي بها في جهنم»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«يهوي بها» أي: يسقط بتلك الكلمة «في جهنم». شرح المصابيح (5/ 234).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«يهوي» بكسر الواو أي: ينزل، «بها في» دركات «جهنم»، وفي الجملة الأولى الوعد على التكلم بالخير؛ من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وفي الثانية الوعيد على ضده. دليل الفالحين (8/ 343).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
لا أعلم خلافًا في قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: «إنّ الرجل ليتكلم بالكلمة» إنها الكلمة عند السلطان الجائر الظالم ليرضيه بها فيما يُسخط الله -عزّ وجل-، ويزين له باطلًا يريده من إراقة دم، أو ظلم مسلم، ونحو ذلك مما ينحط به في حبل هواه، فيبعد من الله، وينال سخطه. التمهيد (13/ 51).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وزاد ابن بطال (على ما قرره ابن عبد البر): بالبغي أو بالسَّعي على المسلم فتكون سببًا لهلاكه، وإنْ لم يُرد القائل ذلك لكنها رُبما أدّت إلى ذلك فيُكتب على القائل إثمها...وقال غيره: هي الكلمة عند ذِي السلطان يرضيه بها فيما يُسخط الله، قال ابن التين: هذا هو الغالب. ورُبما كانت عند غير ذي السلطان ممن يتأتى منه ذلك. ونُقل عن ابن وهب أنَّ المراد بها التلفظ بالسُّوء والفُحش ما لم يُرد بذلك الجَحْدَ لأمرِ الله في الدِّين. فتح الباري(11/٣١١).
وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله-:
المعنى في هذا الحديث: أنّ الكلمة قد تكون مما يسخط الله ومما يرضيه، وإنها المقولة عند السلطان الجائر، فيتكلم الرجل عنده بالخير للمسلمين، وما فيه نفع لهم، فيرضي الله، أو يتكلم بالشر والباطل مما يعينه على جوره وظلمه فيُسخط الله، فإذا كانت الكلمة اليسيرة تدخل صاحبها النار، فمن الحق أن يُمسك الإنسان لسانه ولا يتكلم إلا بما فيه رِضا مَولاه. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 574 ـ 575).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
والمعنى: إنه ليتكلم بكلمة الحق يظنها قليلة، وهي عند الله جليلة، فيحصل له بها رضوانه، وقد يتكلم بسوءٍ ولا يعلم أنها كذلك، وهو عند الله ذنب عظيم، فيحصل له السّخط من الله تعالى، وفيه حث على التدبر والتفكر عند التكلم. شرح المصابيح (5/ 234).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفيه من الفقه: وجوب التثبت عند الأقوال والأفعال، وتحريم التساهل في شيء من الصغائر، وملازمة الخوف والحذر عند كل قول وفعل، والبحث عما مضى من الأقوال والأفعال، واستحضار ما مضى من ذلك، وتذكره من أول زمان تكليفه؛ لإمكان أن يكون صدر من المكلف شيء لم يتثبته، يستحق به هذا الوعيد الشديد، فإذا تذكر واستعان بالله، فإن ذكر شيئًا من ذلك تاب منه، واستغفر، وإن لم يتذكر وجب عليه أن يتوب جملة بجملة عما علم وعما لم يعلم. المفهم (6/ 616، 617).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: أنه يجب التثبت فيما يخرج من فم الإنسان. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 506).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ما أَحق من عَلِم أن عليه حفظة موكلين به، يحصون عليه سقط كلامه وعثرات لسانه- أن يخزنه ويقل كلامه فيما لا يعنيه، وما أَحراهُ بالسعي في أن لا يرتفع عنه ما يطول عليه ندمه من قول الزور والخوض في الباطل، وأن يجاهد نفسه في ذلك، ويستعين بالله ويستعيذ من شر لسانه. شرح صحيح البخاري (10/ 185 ـ 186).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
فينبغي للمؤمن ألا يزهد في قليل من الخير يأتيه، ولا يستقل قليلًا من الشر يجتنبه فيحسبه هينًا، وهو عند الله عظيم، فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا يعلم السيئة التي يسخط الله عليه بها. شرح صحيح البخاري (10/ 198).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن يُفهم منه حَضِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على التَّبينِ للقول قبل النُطق به، ألا تراه -صلى الله عليه وسلم- يقول (كما في أحدى الروايات): «إنّ الرُّجل ليتكلم بالكلِمة لا يَتبيَّن فيها»، والتّبين: تفعل، وذلك من البيان؛ يعني -صلى الله عليه وسلم-: لو تبين فيها لا طلع على ما يخاف من إلقائها معه؛ فإذا نطق بها فاته زمان التبين. الإفصاح عن معاني الصحاح(6/ 242).
وقال -رحمه الله-:
ومن الفقه فيه: ألا يُذْكَرَ لهذه الكلمة مثال؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر لها مثالًا؛ فيفهم من تركه -صلى الله عليه وسلم- ذكر المثال لها مع تشديدهِ في التحذير من ذكرها إيثاره: أنْ نخشى من كل عوراء من الكلام مما يُوتِغُ (يُهْلِكُ ويُفْسِدُ) دنيا، أو يهيج فتنة، أو يثير بين الناس شرًّا؛ لتجويز أنْ تكون هي الكلمة التي حذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 242).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: أنه يثاب العبد على ما لا يعْتَدُّ به من أعماله، يخصص حديث: «إنَّما الأعمال بالنيات»، ويحتمل: أنه ينوي، لكنه لا يخطر بباله مبلغها في الآخرة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 506).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)