«بينما نحن حولَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، إذ ذَكر الفتنةَ، فقال: إذا رأيتم الناس قد مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وخَفَّتْ أمانَاتُهُمْ، وكانوا هكذا، وشبَّكَ بينَ أصابعِهِ، قال: فقمتُ إليه، فقلتُ: كيف أَفْعَلُ عند ذلك، جعلني الله فِدَاكَ؟ قال: الْزَمْ بيتَكَ، وامْلِكْ عليك لسانَكَ، وخُذْ بما تَعْرِفُ، ودَعْ ما تُنْكِرُ، وعليك بأمرِ خاصَّةِ نفسِكَ، ودَعْ عنك أمْرَ العامَّةِ».
رواه أحمد برقم: (6987)، وأبو داود برقم: (4343) واللفظ له، والنسائي في الكبرى برقم: (9962)، وابن ماجه برقم: (3957)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (570)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2744).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مَرِجَتْ»:
المَرِيجُ: المُلْتَوي الأعوج. ومَرِجَ الأمرُ مَرَجًا، فهو مارِجٌ ومَرِيجٌ: التَبَسَ واخْتلَط. لسان العرب (2/ 365).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
المرج: الاختلاط والاختلاف، مَرجَتْ عُهودهم: إذا اختلفت.جامع الأصول، ابن الأثير(10/ 6).
«أَمْلِكْ»:
أَي: لا تُجْرِه إلاَّ بما يكو لك لا عليك". لسان العرب (10/ 494)، والنهاية في غريب الحديث (4/ 358)
قال المظهري -رحمه الله-:
الإملاك: الشدُّ والإحكام؛ يعني: اشدد لسانك، ولا تتكلم في أحوال الناس؛ كي لا يؤذوك. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 361).
شرح الحديث
قوله: «بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذكر الفتنة: فقال: إذا رأيتم النَّاسَ قد مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مَرِجَت عهودهم» أي: اختلطت عهودهم؛ يعني: لا يكون أمرهم مستقيمًا، بل يكون كل يوم أو كل لحظة على طبع وعلى عهد، ينقضون العهد، ويعصون ربهم. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 361).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«مَرِجَت عهودهم» أي: اختلطت وفسدت فبَلَتْ فيهم أسبابُ الديانات. الميسر في شرح مصابيح السنة (4/ 1144).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«مرِجت عهودهم» لعل العهد هنا هو: حفظ الدين ورعاية حرمته. شرح سنن أبي داود (17/ 208).
قوله: «وخفَّت أماناتُهم»:
قال المنذري -رحمه الله-:
«خفت أماناتهم» أي: قلّت، من قولهم: خَفَّ القوم، أي: قلّوا. الترغيب والترهيب (3/ 443).
قوله: «وكانوا هكذا، وشبَّك بين أصابعه»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «هكذا، وشبك بين أصابعه» أي: يموج بعضُهم في بعض، ويلتبس أمرُ دينهم؛ فلا يُعرف الأمين من الخائن، ولا البَرُّ من الفاجر. الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3414).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
تشبيك الأصابع كناية عن ملابسة الخصومات والدخول والخوض فيها، كما تدخل الأصابع بعضها في بعض.شرح سنن أبي داود(17/٢٠٧)
قوله: «فقمتُ إليه فقلتُ: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«جعلني الله فداك» فيما يطرأ مِن المكاره. شرح سنن أبي داود (17/ 208).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيه ردُّ قولِ مَن لم يجز تَفديه الرَّجل للرجل بنفسه أو بأبويه. شرح صحيح البخاري(9/ 341).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
(فيه) جواز قول الرجل للآخر فدتك نفسي، وفداك أبي وأمي، وجعلني الله فِداك. خلافاً لمن كَرِه ذلك، وقال: لا يُفدَّى بمسلم. [إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 507).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه جواز قول الإنسان لمسلم جعلني الله فداك. شرح صحيح مسلم (1/ 196)
قوله: «الزم بيتك»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال: «الزم بيتك» لا تخرج منه إلا لحاجة أكيدة. [شرح سنن أبي داود (17/ 208).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الزم» بكسر فسكون ففتح، «بيتك» أي: محل سكنك بيتًا أو خلوة، أو غيرهما. فيض القدير (2/ 159).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«الزم بيتَكَ» أي: لا تخالط الناسَ. بذل المجهود (12/ 403).
وقال المناوي -رحمه الله-:
اعتزل الناس وانحجب عنهم في مكانك إِلا لما لا بُدّ فيه. فيض القدير(1/ 353)
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«الزم بيتك» يعني: ابتعد عن الفتن. شرح سنن أبي داود (489/ 7).
قوله: «واملك عليك لسانك»:
قال الملا علي القاري-رحمه الله-:
أمسك لسانك حافظًا عليك أمورك، مراعيا لأحوالك، ففيه نوع من التضمين، وفي النهاية أي: لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3039)
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «املك عليك لسانك» الإملاك: الشدُّ والإحكام؛ يعني: اشْدُد لسانك، ولا تتكلم في أحوال الناس؛ كي لا يؤذوك. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 361).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«واملك» بكسر اللام، «عليك لسانك» أي: أمسكه عما لا يعنيك، ولا تخرجه من فيك وتُجْرِهِ إلا بما يكون لك لا عليك، وللطبراني: «طوبى لمن ملك لسانه». شرح سنن أبي داود (17/ 208).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«واملك عليك لسانَكَ» أي: لا تتكلم في أمر الفتنة، ولا فيما يثير الفتنة. بذل المجهود (12/ 403).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«واملك عليك لسانك» يعني: لا تتكلم بما لا ينبغي، فلا تكون سببًا في الفتنة؛ لا بقول ولا بعمل... شرح سنن أبي داود (489/ 7).
قوله: «وخذ بما تَعرف، ودع ما تُنكر»:
قال المظهري -رحمه الله-:
أي: الزم وافعل ما تعرف كونَه حقًّا، واترك ما تُنكر أنه حق. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 361).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وخذ ما تعرف» من أمورك «ودَع ما تنكر» من أحوالك. شرح سنن أبي داود (17/ 208).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
يعني: ما عرفت أَنه حقٌّ فخذْ به، وما عَرفت أَنه مُنكر فَدعه وابتعد عنه.شرح سنن أبي داود(ص7)
قوله: «وعليك بأَمر خاصة نفسك، ودَعْ عنك أَمر العامّة»:
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: الزم أمر نفسك، واحفظ نفسك ودينك، واترك الناس ولا تتبعهم. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 362).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «وعليك بأمر خاصة» بتشديد الصَّاد، «نفسك، ودَعْ عنك أَمر العامة» أي: اعتزل عن عامة الناس، واعمل بما تختص به دون غيرك، وتثبَّت في الفتن ما استطعت. شرح سنن أبي داود(17/ 208).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «وعليك بأمر خاصة نفسك» يعني: حيث لا يجدي ولا يفيد عملك معهم شيئًا، أما إذا كان مفيدًا، وينتفع الناس بالنصح والأمر والنهي فلا يعدل عنه.شرح سنن أبي داود(ص7)
وقال المظهري -رحمه الله-:
وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- رخصة في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا كَثُرَ الأَشرار، وضَعف الأَخيار، ولم يَقدِر الأَخيار على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.المفاتيح شرح المصابيح(5/٣٦٢)
وقال البرزنجي -رحمه الله-:
وهذا من قبيل قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} المائدة: 105. الإشاعة لأشراط الساعة (ص: 170).