الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن خمْسٍ: عن ثَمَنِ الكلبِ، وثَمَنِ الخنزيرِ، وثَمَنِ الخمرِ، وعن مَهْرِ البَغِيِّ، وعن عَسْبِ الفَحْلِ».


رواه الطبراني في الأوسط، برقم: (6035)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (6948).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عَسْبُ الفَحْل»:
بسكون السين مع فتح أوله، ويجوز ضمُّه، هو: كراء ضِرابِهِ، وقيل: العسْب: الضراب نفسه، ويقال: ماؤه. فتح الباري، لابن حجر (1/ 156).
قال الشيباني -رحمه الله-:
عسب ‌الفحل: ضِرابه. الجيم (2/ 333).
وقال أبو عبيد -رحمه الله-:
عسْب ‌الفحل والعسب هو: الكِراء للضِّراب. غريب الحديث (3/ 192).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
تقول: عَسَب فحله يَعْسِبُه، أي: أكراهُ، وعَسْب الفحل أيضًا: ضِرابه، ويقال: ماؤه. الصحاح (1/ 181).


شرح الحديث


قوله: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن خمس: عن ثمن الكلب»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
نهيه ‌عن ‌ثمن ‌الكلب يدل على فساد بيعه؛ لأن العقد إذا صح كان دفع الثمن واجبًا مأمورًا به لا منهيًّا عنه، فدل نهيه عنه على سقوط وجوبه، وإذا بطل الثمن بطل البيع؛ لأن البيع إنما هو عقْد على شيء بثمن معلوم، وإذا بطل الثمن بطل المثمن، وهذا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحومُ فجَمَلوها وباعوها وأكلوا أثمانها»؛ فجعل حكمَ الثمن والمثمن في التحريم سواء. معالم السنن (3/ 131).
وقال الإمام مالك -رحمه الله-:
أَكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري؛ لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب. الموطأ (2/ 656).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلفت الرواية عن مالك في بيع الكلب، فقال في الموطأ: أكره بيع الكلب الضاري وغيره؛ لنهي رسول الله ‌عن ‌ثمن ‌الكلب، وروى ابن نافع عن مالك: أنه كان يأمر ببيع الكلب الضاري في الميراث والدين والمغانم، وكان يكره بيعه للرجل ابتداءً، قال ابن نافع: وإنما نهى رسول الله ‌عن ‌ثمن ‌الكلب العقور، وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أنه لا بأس باشتراء كلب الصيد، ولا يعجبني بيعها، وكان ابن كنانة وسحنون يجيزان بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، قال سحنون: ويحج بثمنها، وهو قول الكوفيين، وقال مالك: إنْ قَتَل كلب الدار فلا شيء عليه، إلا أن يسرح مع الماشية، ورُوِي عن أبي حنيفة: أنه مَن قتل كلبًا لرجل ليس بكلب صيد ولا ماشية فعليه قيمته، وكذلك السباع كلها، وقال الأوزاعي: الكلب لا يباع في مقاسم المسلمين، هو لمن أخذه، وقال الشافعي: لا يجوز بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، ولا قيمة فيها، وهو قول أحمد بن حنبل؛ احتجّا بعموم نهيه -عليه السلام- ‌عن ‌ثمن ‌الكلب، وحُجّة مالك والكوفيين: قوله تعال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} المائدة: 4، فإذا أحل لنا الذي علمناه؛ أفادنا ذلك إباحة التصرف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك، فوجب أن يجوز بيعها وشراؤها بظاهر الآية، فإن قيل: المذكور في هذه الآية هو تحليل تعليم الكلاب، وأكل ما أمسكن علينا، فالجواب: أن {ما} بمعنى: الذي، وتقديره: أحل لكم الطيبات والذي عَلَّمتم من الجوارح، ثم أباح تعليمهن بقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} المائدة: 4، وهذا قول جماعة السلف، روي عن جابر بن عبد الله: أنه جعل القيمة في كلب الصيد، وعن عطاء مثله، وقال: لا بأس بثمن الكلب السَّلُوقي (نسبة إلى سَلُوق اسم مدينة باليمن أو بالروم، تُنسب إليها أجود الكلاب المعلمة والطويلة)، وعن النخعي مثله، وقال أشهب: إذا قُتِل الكلب المعلَّم ففيه القيمة، وأوجب فيه ابن عمر أربعين درهمًا، وفي كلب ماشية شاة، وفي كلب الزرع فَرَقًا (الفرق: ثلاثة آصُع، والفَرَقُ ستة عشر رطلا) من طعام، وأجاز عثمان الكلب الضاري في المهر، وجعل فيه عشرين من الإبل على من قتله، وقد روي عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام- أنه قال: «من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو كلب صيد؛ نقص من عمله كل يوم قيراطان»؛ فهذا الحديث زائد، فكأنه -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب إلا الكلب الذي أذن في اتخاذه للانتفاع به، ويحتمل أن يكون الحديث الذي فيه النهي عن ثمن الكلب وكسب الحجام كان في بدء الإسلام، ثم نسخ ذلك، وأبيح الاصطياد به، وكان كسائر الجوارح في جواز بيعه، وكذلك لما أَعطى الحجام أجْرَه كان ناسخًا لما تقدَّمه، وذكر الطحاوي من حديث أبي رافع: أن النبي -عليه السلام- لما أمر بقتل الكلاب أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} المائدة: 4، فلما حل لنا الانتفاع بها؛ حلّ لنا بيعها وأكل ثمنها. شرح صحيح البخاري (6/362-364).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب»، وفي الحديث الآخر: «وثمن الكلب خبيث» ظاهرٌ في تحريم بيع الكلاب كلها، ولا شك في تناول هذا العموم لغير المأذون فيه منها؛ لأنها إمَّا مضرّة فيحرم اقتناؤها فيحرم بيعها، وإما غير مُضِرَّة فلا منفعة فيها، وأما المأذون في اتخاذها: فهل تناولها عموم هذا النهي، أم لا؟ فذهب الشافعي، والأوزاعي، وأحمد: إلى تناوله لها، فقالوا: إن بيعها محرّم، ويفسخ إن وقع، ولا قيمة لما يقتل منها، واعتضد الشافعي لذلك: بأنها نجسة عنده، ورأى أبو حنيفة: أنه لا يتناولها؛ لأن فيها منافع مباحة يجوز اتخاذها لأجلها، فتجوز المعاوضة عليها، ويجوز بيعها، وجُلُّ مذهب مالك على جواز الاتخاذ، وكراهية البيع، ولا يفسخ إن وقع، وقد قيل عنه مثل قول الشافعي، وقال ابن القاسم: يكره للبائع، ويجوز للمشتري للضرورة، وكأن مالكًا -رحمه الله- في المشهور لما لم يكن الكلب عنده نجسًا، وكان مأذونًا في اتخاذه لمنافعه الجائزة؛ كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهًا؛ لأنَّه ليس من مكارم الأخلاق، فإن قيل: فقد سوَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين ثمن الكلب وبين مهر البغي، وحلوان الكاهن في النهي عنها، والمهر والحلوان محرَّمان بالإجماع؛ فليكن ثمن الكلب كذلك.
فالجواب: إنَّا كذلك نقول، لكنه محمولٌ على الكلب الغير مأذون فيه، ولئن سلّمنا أنَّه متناول للكل، لكن هذا النهي ها هنا قصد به القدر المشترك الذي بين التحريم والكراهة؛ إذ كل واحد منهما منهيٌّ عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، كما قد اتفق هنا، فإنا إنما علمنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن بالإجماع، لا بمجرد النهي سلّمنا ذلك، لكنا لا نسلّم أنه يلزم من الاشتراك في مجرد العطف الاشتراك في جميع الوجوه؛ إذ قد يعطف الأمر على النهي، والإيجاب على النفي، وإنما ذلك في محل مخصوص، كما بيناه في أصول الفقه. المفهم (4/ 443).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما النهي ‌عن ‌ثمن ‌الكلب وكونه من شر الكسب وكونه خبيثًا؛ فيدل على تحريم بيعه، وأنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه، ولا قيمة على مُتلِفه، سواء كان معلَّمًا أم لا، وسواء كان مما يجوز اقتناؤه أم لا، وبهذا قال جماهير العلماء؛ منهم: أبو هريرة والحسن البصري وربيعة والأوزاعي والحكم وحماد والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم، وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة على مُتلِفها، وحكى ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعي: جواز بيع كلب الصيد دون غيره، وعن مالك روايات: إحداها: لا يجوز بيعه، ولكن تجب القيمة على مُتْلِفِه، والثانية: يصح بيعه وتجب القيمة، والثالثة: لا يصح ولا تجب القيمة على مُتْلِفه، دليل الجمهور: هذه الأحاديث، وأما الأحاديث الواردة في النهي عن ثمن الكلب إلا كلب صيد، وفي رواية: «إلا كلبًا ضاريًا»، وأن عثمان غرّم إنسانًا ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا، وعن ابن عمرو بن العاص التغريم في إتلافه؛ فكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث. شرح مسلم (10/ 232، 233).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ولا يحل بيع كلب أصلًا، لا كلب صيد ولا كلب ماشية، ولا غيرهما، فإن اضطرَّ إليه، ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه، وهو حلال للمشتري، حرام على البائع، ينتزع منه الثمن متى قدر عليه، كالرشوة في دفع الظلم، وفداء الأسير، ومصانعة الظالم، ولا فرق. المحلى بالآثار (7/ 492).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
اختلفوا في بيع الكلب المعلَّم، فمن يرى نجاسة الكلب -وهو الشافعي- يمنع من بيعه مطلقًا؛ لأن علة المنع قائمة في المعلَّم وغيره، ومن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلَّم منه؛ لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء، وقد ورد في بيع المعلَّم منه حديث في ثبوته بحث، يحال على علم الحديث. إحكام الأحكام (2/ 125).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والنهي عن ثمن الكلب يشمل كل كلب، وقال ابن التين: هو ضربان: كلاب الدُّور، والحرث والماشية، فالأول لا يحل اتخاذها؛ لأنها تروّع الناس وتؤذيهم فثمنها حرام، واختلف في بيع كلب الصيد والماشية، وفي أخذ قيمته إن قُتل. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (25/ 587، 588.
وقال الجويني -رحمه الله-:
فمذهبنا (الشافعية): أنَّ الكلب ليسَ بمالٍ، ولا يجوز بيعه، وليس على مُتْلِفِهِ قيمة لصاحبه، ولا يُنكر اختصاص صاحبه به...، الأعيان النجسة يمتنع بيعها، وإن كانت منتفعًا بها كالسِّرقين (الزِّبْل) والأخثاء (جمع الخِثْي، وهو ما يرمى به البقر أو الفيل من بطنه)، وأجاز أبو حنيفة بيعها ومنع بيع العَذِرَة، وطرد الشافعي إفساد البيع في كل عين نجسة... ، ولا يمتنع على بعدٍ أنْ يُطرد الخلاف في الاستصباح (بالدهن النجس)، وإن بَعُد السراج، فإنَّ هذا ممارسةُ نجاسة مع الاستغناء عنها، وليس كذلك التزبيل؛ فإنه لا يسدُّ مسدَّه شيء، فكان ذلك في حكم الضرورة، ويقرب من هذا: جواز اقتناء الكلب الضّاري؛ فإن الحاجة ماسّة، ولا يسدُّ مسدَّ الكلب في ظهور منفعته، وخِفَّة مؤنته شيء. نهاية المطلب (5/ 491-498).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«نهى ‌عن ‌ثمن ‌الكلب» لنجاسته عند الشافعية، والنهي عن اتخاذه عند المالكية، وهل النهي عندهم للتنزيه أو للتحريم؟ قولان، قال ابن العربي: والصحيح دليلًا: جواز البيع. فيض القدير (6/ 309).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
واختلف أصحابنا في بيعه (الكلب) هل هو محرم أو مكروه؟ وصرَّح بالمنع مالك في مواضع، والصحيح في الدليل: جواز البيع، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: لا يجوز بيعه، وظن بعضهم أنَّ النهي عن بيع الكلب إنما هو في المأذون في اتخاذه؛ لأن المأمور بقتله لا يُنهى عن بيعه، قلنا: هذه غفلة، كان أمر بقتلها، ثم نسخ الأمر بالقتل، وأذن في الاتخاذ، وكان بعد ذلك جواز البيع، والنهي عنه، وقال بعضهم: إنه قرنه بحلوان الكاهن، فدل على أنه حرام، ودليل القرائن (أي: الاقتران) أضعف دليل، لا يشتغل به المحققون. عارضة الأحوذي (5:223).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: ‌«عن ‌ثمن ‌الكلب» ظاهره حُرمة بيعه، وعليه الجمهور، ولعل من لا يقول به يحمله على أنه كان حين كان الأمر بقتله، وقد علم نسخه. حاشية السندي على سنن النسائي (7/ 189).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال: «نهى ‌عن ‌ثمن ‌الكلب» يقال: ثمن، ويقال: قيمة، فهل بينهما فرق؟
الجواب: نعم.
الثمن: ما وقع عليه العقد، والقيمة: ما يُقوَّم به الشيء في عامة أوصاف الناس...
إذن «نهى عن ثمن الكلب» أي: عن عقد البيع عليه المتضمن للثمن، ونحن قلنا: هذا لفائدة نذكرها -إن شاء الله تعالى- في الفوائد، وهي: ما إذا أُتْلِفَ الكلب هل يضمن بقيمة أو لا؟
وقوله: «الكلب» «أل» هنا للعموم؛ فيشمل كلَّ كلب؛ سواء كان أسود أم غير أسود، مُعلَّمًا أم غير معلم، يجوز اقتناؤه أو لا يجوز اقتناؤه؛ لأن الحديث عام: «ثمن الكلب» عامٌّ لكل كلب. فتح ذي الجلال والإكرام (3/479، 480).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
(ورواه) النسائي وزاد: «إلا كلب صيدٍ»؛ لكنه زادها واستنكرها -رحمه الله-، وقال: إنها منكرة، فالاستثناء ليس بصحيح كما هو القول الراجح في هذه المسألة، وقد سبق لنا: أيضًا الكلام عليه، وبيَّنا أنه لو قيل: إن النهي عن ثمن الكلب إنما هو عن ثمن الكلب الذي يباح اقتناؤه؛ لأن ما لا يباح اقتناؤه لا يَرِدُ عليه البيع، إذ إن الإنسان لا يمكن أن يخسر مرتين: الأجر والثمن. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 503).

قوله: «وثمن الخنزير، وثمن الخمر»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وثمن الخنزير، وثمن الخمر» والنهي عن الثمن نهي عن البيع. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 579).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
بيع الخَمر فاسد بالإجماع، وفي تَحريم بيعها تحريم ثمنها، فلو أراق مسلم خمر المسلم أو الذِّمِّي لم يلزمه لها قيمة. أعلام الحديث (2/ 1106).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
فلا يجوز أكل ثمن الخمر، ولا ثمن الخنزير، ولا الميتة، وما جرى مجرى ذلك، وأما ما له منفعة فإنه يجوز أكل ثمنه، وإن لم يَجُزْ أكله كالعبيد والإماء -والله أعلم وأحكم-. المنتقى شرح الموطإ (7/ 246).

قوله: «‌وعن ‌مهر ‌البَغِيّ»:
قال الباجي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «‌وعن ‌مهر ‌البغي» يريد ما تُعْطَاه الزانية من استباحتها. المنتقى شرح الموطأ (5/ 28).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «‌وعن ‌مهر ‌البغي» يريد ما تُعطاه على استباحة الوطء الحرام، وذلك محرّم شرعًا. المسالك في شرح موطأ مالك (6/ 143).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وعن ‌مهر ‌البغي» أي: ما تأخذه على زناها، سمّاه مهرًا مجازًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 473).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌مهر ‌البغي» هو ما تأخذه عوضًا عن الزنا، وقد عُلم حُرمة الزنا من ضرورة الدين، فالنهي عن المهر إبانة أنه لا يُتَوَهَّمُ أنه يحل، وإن كان ما قُبِضَ عليه مُحرَّمًا. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 580).

قوله: «وعن عَسْب الفحل»:
قال ابن بطال-رحمه الله-:
اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فكرهت طائفة أن يستأجر الفحل لِيُنْزَ به مدة معلومة بأجر معلوم، ذكر ذلك عن أبي سعيد الخدري والبراء بن عازب، وذهب الكوفيون والشافعي وأبو ثور إلى أنه لا يجوز ‌عسب ‌الفحل، واحتجَّوا بحديث ابن عمر، فقالوا: هو شيء مجهول لا ندري أيُنْتَفَعُ به أم لا؟ وقد لا ينزل الفحل. شرح صحيح البخاري (6/ 412).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والعسب: الكرى المأخوذ عليه، يقال: ‌عَسَبْت ‌الرجل عسبًا: إذا أعطيته الكِراء على ذلك، ‌والموجب ‌للنهي: ما فيه من الغرر؛ لأن مقصود المكتري منه هو الإلقاح، والفحل قد يضرب وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى وقد لا تلقح، أما لو أعار الفحلَ للإنزاء، فألزمه المستعير بشيء جاز قبوله؛ لما روي عن أنس بن مالك: «أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل فنهاه، فقال: يا رسول الله! إنا نطرق الفحل فنُكرَم، فرخص له في الكرامة». تحفة الأبرار (2/ 243)
وقال العيني -رحمه الله-:
احتج به من حرم بيع عسب الفحل وإجارته، وهو قول جماعة من الصحابة، منهم: علي وأبو هريرة، وهو قول أكثر الفقهاء، كما حكى عنهم الخطابي، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجزم أصحاب الشافعي بتحريم البيع؛ لأن ماء الفحل غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه، وحكوا في إجارته وجهين: أصحهما المنع، وذهب ابن أبي هريرة إلى جواز الإجارة عليه، وهو قول مالك، وإنما يجوز عندهم إذا استأجره على نزوات معلومة وعلى مدة معلومة، فإن آجره على الطَّرْق حتى يحمِل لم يصح، ورخَّص فيه الحسن وابن سيرين، وقال عطاء: لا بأس به إذا لم يجد ما يطرقه ... ، وروى الترمذي من حديث أنس: «أن رجلًا من كلاب سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل فنهاه، فقال: يا رسول الله، إنا نطرق الفحل فَنُكْرَم، فرخّص في الكرامة»، ثم قال: حسن غريب.
وفيه: جواز قبول الكَرامة على عسب الفحل، وإن حرم بيعه وإجارته، وبه صرَّح أصحاب الشافعي، وقال الرافعي: ويجوز أن يعطي صاحب الأنثى صاحب الفحل شيئًا على سبيل الهدية، خلافًا لأحمد، انتهى، وما ذهب إليه أحمد قد حُكِيَ عن غير واحد من الصحابة والتابعين، فروى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناده إلى مسروق، قال: سألت عبد الله (ابن مسعود) عن السحت؟ قال: الرجل يطلب الحاجة فيهدى إليه فيقبلها، وروي عن ابن عمر أن رجلًا سأله أنه تقبَّل رجلًا، أي: ضمنه، فأعطاه دراهم وحمله وكساه، فقال: أرأيت لو لم تقبّله أكان يعطيك؟ قال: لا، قال: لا يصلح لك، وروى أيضًا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، وأنه أتى إلى أهله، فإذا هدية، فقال: ما هذا؟ فقالوا: الذي شفعتَ له، فقال: أخرجوها! أتعجل أجر شفاعتي في الدنيا! وروي عن عبد الله بن جعفر أنه كلَّم عليًّا في حاجة دهقان (أي: تاجر)، فبعث إلى عبد الله بن جعفر بأربعين ألفًا، فقال: رُدّوها عليه، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف، وقد روي نحو هذا في حديث مرفوع، رواه أبو داود في سننه من رواية خالد بن أبي عمران عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن شَفَع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديةً عليها؛ فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا»، وهذا معنى ما ورد: «كلُّ قرض جرَّ منفعة فهو ربا»، وروى ابن حبان في صحيحه: من حديث أبي عامر الهوزني عن أبي كبشة الأنماري: أنه أتاه فقال: «أَطرِقني فرَسَك، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: مَن أطرق فرسًا فعَقِبَ (أي: وُلِد) له كان له كأجر سبعين فرسًا حمل عليها في سبيل الله، وإن لم يُعقِب كان له كأجر فرس حمل عليها في سبيل الله»، قوله: «أطرقني»، أي: أَعِرْنِي فرسك للإنزاء، ثم الحكمة في كراهة إجارته عند من يمنعها: أنها ليست من مكارم الأخلاق، ومن جوّزها من الشافعية والحنابلة بمدة معلومة قاسها على جواز الاستئجار لتلقيح النخل، وهو قياس بالفارق؛ لأن المقصود هنا: ماء الفحل وصاحبه عاجز عن تسليمه، بخلاف تلقيح النخل. عمدة القاري (12/105، 106).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وإنَّما وقع النهي عن هذا لشيئين:
أحدهما: أنه إنما يُطلب منه الإلقاح، وقد لا يلقح، فيبقى المأخوذ بلا عوض.
والثاني: أن مثل هذا ينبغي للمسلمين أن يتباذلوه بينهم؛ لأنه من جنس الماعون، وعامة الفقهاء على تحريم أخذ الأجرة على ضراب الفحل، وقال مالك: لا بأس أن يستأجر الفحل لينزيه مدة معلومة، وإنما يبطل إذا اشترط أن ينزيه إلى أن تَعْلَق الرَّمَكة (بفتحتين: الأنثى من البَراذِين).
وعلَّل أصحابه: بأنا لو منعنا من هذا لا نقطع النَّسل؛ لأن الإنسان لا يسهل عليه إتعاب فحله، وإنفاد قواه بغير عوض، وهذا تعليل يعارض النص فلا يقبل. كشف المشكل (2/ 588-589).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«عسب الفحل» وهو -بفتح العين وسكون السين المهملتين-: ضِرابه، ويقال: ماؤه، ويقال: أجرة ضِرابه، وعلى الأوَّلَين يقدَّر في الخبر مضاف ليصح النهي؛ أي: نهى عن بدل عسب الفحل من أجرة ضِرابه أو ثمن مائه، أي: بدل ذلك وأخذه، والمعنى فيه: أن ماء الفحل ليس بمتقوَّم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه وضرابه؛ لتعلُّقه باختياره غير مقدور عليه للمالك، فإن أهدى له -أي: لمالكه صاحب الأنثى- شيئًا جاز. أسنى المطالب (2/30).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: أن لفظ المهر يطلق على ما يؤخذ في مقابلة البضاع مطلقًا؛ حلالًا كان أو حرامًا، ولم يأت في القرآن لفظ المهر. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 580).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا