«تَعَاهَدُوا القرآنَ، فو الذي نفسي بيدِهِ، لهو أشدُّ تَفَصِّيًا مِن الإبلِ في عُقُلِهَا».
رواه البخاري برقم: (5033) واللفظ له، ومسلم برقم: (791)، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تَعَاهَدُوا»:
التعهد: التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، وتعهَّد فلانًا وتعهَّد ضيعتَه، وهو أفصح من تعاهد؛ لأن التعاهد إنما يكون بين اثنين. مختار الصحاح، للرازي(ص: 220).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: داوموا على تكراره ودرسه؛ لئلا تنسوه. فيض القدير، المناوي (3/ 249).
«تَفَصِّيًا»:
بمثناة فوقية، وفاء وصاد مهملة، أي: أسرع تَفَصِّيًا وتخلُّصًا وذهابًا وانقلابًا وخروجًا. فيض القدير، للمناوي (3/ 249).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
أصل التَّفَصِّي أن يكون الشيء في مضيق، ثم يخرج إلى غيره. تهذيب اللغة (12/ 175).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«أشد تفصِّيًا» أي: زوالًا وبينونة وتفلُّتًا. مشارق الأنوار (2/ 160).
«عُقُلِها»:
بضم العين والقاف: جمع: عِقال ككتب جمع: كتاب، ويجوز إسكان القاف لغة، لكن الرواية على ضمها، وهو: الحبل الذي يُشَدُّ به ذراع البعير. مرقاة المفاتيح، للقاري (4/ 1495).
قال الفتني -رحمه الله-:
«عقلها» -بضم عين وقاف ويسكن-: جمع عقال ...كانوا ينحرون البدنة مَعقولة اليُّسرى، أي: مقيدتها...، العِقال: حبل صغير يُشَدُّ به ساعد البعير إلى فخذه ملويًّا. مجمع بحار الأنوار (3/647).
شرح الحديث
قوله: «تعاهدوا القرآن»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«تعاهدوا القرآن» قد ذكرنا فيما مضى أن التعهد والتعاهد: هو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، ومعناه هاهنا: التوصية بتجديد العمل بقراءته؛ لئلا يذهب عنه، وفي معناه: «استذكروا القرآن»، أي: تفقدوا القرآن بالذكر، وهو عبارة عن استحضاره في القلب وحفظه عن النسيان بالتلاوة. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 507).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
تعاهد الشيء وتعهده: محافظته وتجديد العهد به، والمراد منه: الأمر بالمواظبة على التلاوة والمداومة على تكراره ودرسه كيلا يُنسى. تحفة الأبرار (1/ 538).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «تعاهدوا القرآن» أي: داوموا على قراءته حتى لا تنسوه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 96).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «تعاهدوا القرآن» تعاهُد الشيء وتعهُّده: محافظتُه وتجديد العهد به، أي: واظبوا على تلاوته، وداوموا على تكراره ودرسه؛ كيلا يُنسى. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1679).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «تعاهدوا» مثل: تعهدوا، ومعناه: واظبوا عليه بالحفظ والترداد. عمدة القاري (20/ 49).
قوله: «فو الذي نفسي بيده لهو أشدُّ تفَصِّيًا»:
قوله: «فو الذي نفسي بيده»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا للأمر الذي نهى عنه، فإنه خطير جدًّا؛ إذ مَنْصِب الصحابة -رضي الله عنهم- أرفع وأعلى.مشارق الأنوار الوهاجة (3/423) .
وقال ابن القطان الفاسي -رحمه الله-:
وأجمعوا أن لله يدين مبسوطتين، وأجمعوا أنَّ الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه من غير أن تكون جوارح، وأجمعوا أن يديه تعالى غير نعمتيه. الإقناع في مسائل الإجماع(1/ 44).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا القسم بهذه الصيغة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم به كثيرًا، ومضمونه: أنني أقسم قسمًا إن كنتُ غير مُصيب فيه فإني أهلك وأموتُ، يعني: قوله: «والذي نفسي بيده» كأنه يقول: إن كنتُ كاذبًا فليأخذ الله نفسي؛ لأن النفس بيد الله -عزَّ وجلَّ-؛ فيكون هذا من أَعظم القسم، «والذي نفسي بيده»، وهو الله -عزَّ وجلَّ-.فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 286).
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فو الذي نفسي بيده لهو» أي: القرآن «أشد تفصِّيًا»، وفي حديث عقبة بن عامر بلفظ: «أشدُّ تفلتًا». إرشاد الساري (7/ 474).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لهو» اللام لتأكيد القسم. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 449).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«لهو» اللام لتوكيد القسم، أي: القرآن، «أشدُّ تفصِّيًا» بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة المشددة وتخفيف التحتية بعدها منصوب على التمييز، أي: أسرع تفلُّتًا وتخلُّصًا وذهابًا وخروجًا. مرعاة المفاتيح (7/ 261).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فو الذي نفسي بيده لهو» أي: القرآن، «أشد تفصِّيًا»، أي: فرارًا وذهابًا وتخلُّصًا وخروجًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1495).
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«أشد تفَصِّيًا» أي: أسرع تخلُّصًا وذهابًا وانفلاتًا من الإبل المعقلة إذا أطلقها صاحبُها، أو لم يُحكِم قيدَها، ولم يعاهد عليها. تحفة الأبرار (1/ 538).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أشد تفصِّيًا» التفصِّي من الشيء: التخلص منه، تقول: تفصَّيت من الديون إذا خرجت منها، شبَّه القرآن وكونه محفوظًا على ظهر القلب بالإبل الآبدة النافرة، وقد عَقَل عليها وشدَّ بذراعيها بالحبل المتين؛ وذلك أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق القُوى والقُدَر، وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1679).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ولعل النكتة في التمثيل وخصوصية الإبل: الإشارة إلى أنَّ كلام الله تعالى لعلو شأنه، وعظمة مكانه، وكثرة علومه، وتتابع أنواره، لا تسكن قلوب الرجال إلا بالشد عليه، وقوة الإمساك بالتلاوة له، وإلا فإنَّ عظمة شأنه تقتضي مع تلوث العباد بالمعاصي، وعدم عملهم بعلومه، وتهديهم بأدائه، وهديهم بأنواره أن لا يقر في قلوبهم، ولا تكون صدورهم مساكنه، فكأنه ينفلت منها لولا عقاله بدوام التلاوة، فهذه -والله أعلم- هي نكتة الخصوصية في التمثيل، وأما قول الشارح (الطيبي): إنه لأجل أنَّ القرآن ليس من كلام البشر، بل كلام خالق القوى والقدر، وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة؛ لأنهم حوادث وهو قديم. انتهى- فإنه كلام باطل؛ لاتفاق الفريقين من القائل بِقِدَمِهِ، والقائل بحدوثه بأن ألفاظه محدثة صرح به الشريف في حواشي الكشاف وغيره، ولا يخفى أن هذا الحديث توصية بالمحافظة على حفظ المتلو، وهي العبارات المحدثة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 52).
قوله: «من الإبل في عُقُلها»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «مِن عُقلها» (من) على أصل ما يقتضيه اللفظ من أصل التعدِّي، فأما رواية مَن رواه «بعقلها»، و«في عقلها»، و «من عقلها»؛ فعلى أن تكون الباء والفاء بمعنى (من)، أو يكون معناهما: المصاحبة والظرفية، ويعني به: تشبيه من يتفلت منه بعض القرآن بالناقة التي انفلتت من عقالها، وبقي متعلِّقًا بها -والله أعلم-. المفهم (2/ 420).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا على القرطبي:
كذا قال، والتحرير: أنَّ التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة، فحامل القرآن شُبِّهَ بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالربط. فتح الباري (9/ 82-83).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«العُقُل» جمع عِقال، وهو ما يُشد به أحد ركبتي البعير إلى الأخرى؛ يعني: لو لم يكن البعير مشدودًا لفرَّ، فكذلك القرآن لو لم يقرأه الرجلُ لفرَّ من صدره ونسيَه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 96، 97).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
والمعنى(أشد تفصِّيًا..): أنّ صاحب القرآن إذا لم يتعاهده بتلاوته والتحفظ والتذكُّر حالًا فحالًا إلا كان أشدّ ذهابًا من الإبل إذا تخلصت من العقال؛ فإنها تنفلت حتى لا تكاد تُلحق. الميسر في شرح مصابيح السنة(2/ 507).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«من الإبل في عُقُلها»؛ لأن من شأن الإبل تطلب التَّفلُّت ما أمكنها، فمتى لم يتعاهدها برباطها تفلَّتَت، فكذلك حافظ القرآن إن لم يتعاهده تفلَّتَ؛ بل هو أشد في ذلك. فتح الباري (9/ 81).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
و«في» بمعنى (من)، أي: لهو أشدُّ ذهابًا من الإبل إذا تخلصت من العقال، فإنها تنفلت حتى لا تكاد تُلحق، وفي رواية: «أشد تفَصِّيًا من قلوب الرجال من الإبل من عُقُلها». مرقاة المفاتيح (4/ 1495).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
في هذه الأحاديث (هذا الحديث، وحديث ابن مسعود وابن عمر): الحض على محافظة القرآن بدوام دراسته، وتكرار تلاوته، وضرب الأمثال لإيضاح المقاصد، وفي الأخير (هذا الحديث) القَسَم عند الخبر المقطوع بصدقه؛ مبالغة في تثبيته في صدور سامعيه. فتح الباري (9/83).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه إثبات صفة اليد لله -عز وجل- على الوجه الذي يليق بجلاله، فهو كالقول في سائر الصفات، وهو -عز وجل- منزه عن مشابهة الخلق في كل شيء، موصوف بصفات الكمال اللائقة به -عز وجل-.البحر المحيط الثجاج (14/ 225).